زار ما بين 07 و18 أفريل الجاري وفد من خبراء صندوق النقد الدولي الحكومة للاطّلاع على مدى تقدّم “الإصلاحات” التي اشترطها لمنح تونس شهر ماي 2016 قرضا قيمته 2.8 مليار دولار. وتندرج هذه الزيارة في إطار عملية التفقد الدورية المتّفق عليها في اتّفاق ماي الماضي، وللتثبت من التزام السلطات التونسية بتلك التوصيات مقابل الإفراج عن القسط الثاني والثالث من القرض المذكور. وللتذكير كان صندوق النقد الدولي امتنع عن صرف القسط الثاني من القرض في أجله، أي ديسمبر 2016، وكذلك القسط الثالث في أجله، مارس 2017، لعدم ارتياحه للنسق البطيء في تنفيذ “الإصلاحات” التي أوصى بها في اتفاقية القرض. وللتذكير أيضا كان من المفروض أن تحلّ بيننا بعثة الصندوق منذ بداية مارس الفائت وقد ارتعدت فرائص منظومة الحكم من تأخير مجيئها. وهي تعوّل كثيرا على الزّيارة من أجل اقتلاع صرف القسطين المحتجزين للتّخفيف من أزمة الميزانية والسّيولة المالية وخاصّة من العملة الصّعبة.
صندوق النّقد يبتزّ تونس
وقد اعتبرت الحكومة أنّ هذه الزيارة “ناجحة” فعلا وأنها كُللت بوعود جدية من قبل البعثة بتمكين الحكومة على الأقلّ من القسط الثاني (320 مليون دولار). غير أنّ هذا الوعد سيظلّ معلّقا إلى غاية اجتماع مجلس إدارة صندوق النقد الدولي في ماي القادم للمصادقة الرّسمية على تسديد هذا المبلغ. ويُستشفّ من تصريحات أعضاء البعثة أنّ النيّة تتّجه فعلا إلى الإيفاء بهذا الوعد، ذلك أنّهم عبّروا عن ارتياحهم للاستعدادات التي أبدتها الحكومة للتّسريع في نسق تطبيق “الإصلاحات” المملاة عليها.
ينبغي الإشارة هنا إلى أنّ فريق الخبراء قد توصّل إلى الحصول على التزامات واضحة من الحكومة التونسية بإجراء حزمة من “الإصلاحات” تتّصل بتخفيض الدعم على الاستهلاك والتحكم في الانتدابات في الوظيفة العمومية والقطاع العام وإصلاح أنظمة الضمان الاجتماعي والتقليص من كتلة الأجور وإصلاح المالية العمومية وإعادة هيكلة المؤسسات العمومية، وعلى جملة من الإجراءات الأخرى تتصل بالمنظومة المصرفية ومنها خاصة التّقليص من نسب “الفائدة المشطة” وامتناع البنك المركزي التونسي من الآن فصاعدا عن التدخل في سوق الصرف التي ستصبح خاضعة بالكامل لقاعدة العرض والطلب بين المتعاملين.
لقد جدّدت الحكومة خضوعها لإملاءات صندوق النقد الدولي وابتزازاته مقابل سحب أقساط القرض المذكور. ويُعدّ القبول بالشروع في تحرير الدينار ومنع البنك المركزي من التدخل لحماية قيمة الدينار مقابل العملات المرجعية (الأورو والدولار واليان الياباني) من أخطر القرارات التي سيكون لها انعكاسات اقتصادية واجتماعية وخيمة على بلادنا خصوصا وأننا نمرّ بأزمة اقتصادية عميقة لا فقط في مستوى الاقتصاد الحقيقي وإنما أيضا في المستوى المالي والنقد.
لقد فقد الدينار التونسي من قيمته الكثير طوال السنوات الأخيرة رغم التدخّلات التي كان يقوم بها البنك المركزي في كلّ مرة ليضخّ كمية من العملة الصعبة في الدّورة المالية أو يسحب كمّيات للحفاظ على قيمة الدينار في سوق الصّرف. ومع ذلك وجرّاء تراجع الإنتاج ودورة الاقتصاد الحقيقي وجرّاء عمليات طبع العملة المتتالية فقد نزلت قيمة الدينار التونسي مقابل الأورو من واحد أورو يساوي 1960 مليما قبل سنة وثلاثة أشهر إلى واحد أورو يساوي 2400 مليم. وبالدخول في مسار رفع البنك المركزي يده عن العملة التونسية وترك المجال مفتوحا لتلعب قانون السوق ألعابها فإنّ قسمة الأورو سترتفع إلى ما يقارب ثلاثة دنانير بعد بضعة أسابيع. ومن نافل القول إنّ هذا الانهيار لعملتنا الوطنية أمام العملات الكبرى التي تتعامل في مجال المبادلات التجارية والمالية مع الخارج سيكون له أوخم العواقب وسيعمّق أزمة الاقتصاد أكثر فأكثر. وممّا لا شكّ فيه أنّ الأوضاع الاجتماعيّة ستزداد سوء ممّا ينبئ بانفجارات اجتماعيّة غير معلومة العواقب.
التّبعات الاقتصاديّة
على الصعيد الاقتصادي سيترتّب عن هذا القرار انخفاض قيمة العملة التونسية بصورة متسارعة مثلما حصل في الأيام الأخيرة (الأورو يساوي 2700 مليم في المعاملات التجارية و2500 في الأوراق المالية عند التّبديل بيعا وشراء). كما سيترتّب عنه انخفاض مدّخراتنا من العملة الصعبة أمام تزايد الطلب من قبل المؤسّسات والمتعاملين مع الخارج لتلافي ارتفاع جديد مع كلّ يوم جديد، علما وأنّ مدّخراتنا قد بلغت في الأيام الأخيرة 102 يوما واردات وبذلك قد نزلت تحت الحد الأدنى المقبول (110 يوما). وهو مؤشّر إضافي على الاختلالات المالية لاقتصادنا. من جهة أخرى فإنّ هذا القرار من شأنه أن يزيد في كلفة الواردات من المواد المصنّعة وشبه المصنّعة والمواد الأساسية الفلاحيّة (الحبوب) والمحروقات وبالتالي في تكلفة السّلع المنتجة محليّا وارتفاع أسعارها وتدنّي تنافسيّتها أمام المواد المثيلة لها المورّدة من الخارج وبالتالي الإضرار بالمؤسسات الصغرى والمتوسطة التي تمثّل قاعدة النسيج الاقتصادي التونسي.
في مثل هذه الأوضاع ستكون الخزينة العامة للدولة عرضة لارتفاع حجم الديون الواجب تسديدها بالعملة الصعبة وبالتالي مزيد تعمّق عجز الميزانية، ممّا سيضطرّ البلاد إلى مزيد التداين والدخول في مأزق لا مخرج منه. وعلاوة على ذلك فإنّ الاعتمادات المخصّصة لصندوق الدّعم ستفقد من قيمتها وبالتالي ستغطّي كمّيّات أقل من المواد بما يعني التقليص من فاعلية هذه العملية (الدعم) بما سيجبر أوساط واسعة من المستهلكين على تحمّل تبعات هذا النقص وتكبّد خسائر إضافيّة في مقدرتهم الشّرائيّة.
وفوق كلّ ذلك فإنّ قرار عدم تدخّل البنك المركزي لتعديل قيمة الدينار يمثّل نوعا من إدماج السّيولة من العملة الصّعبة المتداولة في السّوق الموازية في المنظومة الماليّة والمصرفيّة وهو من النّاحية الشكليّة اعتراف بهذا القطاع وتسهيل لعملية تبييض الأموال المهرّبة والفاسدة.
الآثار الاجتماعيّة
تبعا لهذه الآثار الاقتصادية سينجرّ عن عمليّة تعويم الدّينار جملة من الآثار الاجتماعيّة لعلّ أبرزها:
ارتفاع كلفة المنتوجات المحلية، وبالتالي ارتفاع أسعارها وارتفاع أسعار جميع مواد الاستهلاك تقريبا
-
تراجع نسبة التغطية على الاستهلاك من المحروقات والمواد الغذائية الأساسيّة ( العجين ومشتقاته)
-
ارتفاع نسبة التضخم وانهيار المقدرة الشرائية للمواطنين
-
تقلّص قدرات الدولة على الاستثمار وبعث المشاريع التي تخلق الثروة وتوفّر مواطن الشّغل بما سيزيد في تفاقم البطالة والفقر وتردّي الخدمات العموميّة والبنية الأساسيّة.
أيّ بديل ؟
لا شك أنّ مواجهة مثل هذا القرار الخطير لا يمكن أن تنحصر فقط في الإجراءات المباشرة لتلافي آثارها الاقتصادية والاجتماعية الوخيمة وإنما يتعلق الأمر بمراجعة الاختيارات العامة بالنظر إلى كون هذا القرار الخطير يأتي في الحقيقة في إطار توجّهات اقتصاديّة كبرى معروفة. فالمطلوب إذن الخروج تماما من المقاربة اليمينيّة اللّيبراليّة المتوخّاة من عشريات في تونس والتي أدّت إلى ما يعانيه اقتصادنا اليوم من هشاشة وانخرام وأزمة. لا بدّ من اختيارات جديدة مخالفة تماما للمنهج القديم يقوم على التعويل على إمكانيات البلاد المادية (خيرات مادية وقدرات بشرية) وإطلاق خطة تصنيع وإصلاح للفلاحة وتنويع الخدمات وتثمين القدرات المتوفّرة في إطار منوال مندمج ومنتج وموجّه لتلبية حاجات البلاد والشّعب. وفي هذا الإطار ينبغي أن تكون خطّة التنمية خطّة تستهدف تحويل اقتصادنا من اقتصاد ريعي يقوم على مؤسّسات صغرى ومتوسّطة ونسق ضعيف في مراكمة رأس المال وتوسيع نطاقه إلى اقتصاد يوسّع قاعدة مراكمة رأس المال ويخلق الثّروة بنسق مكثّف. وفي مثل هذه الاختيارات يمكن للعملة التونسيّة أن تستعيد قيمتها وعافيتها.
أمّا على المستوى المباشر والمستعجل فلا بدّ من اتّخاذ الإجراءات والتّدابير التّالية:
-
تشجيع الفلاحة من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي المحلّي من المواد الفلاحيّة والزراعيّة والتّقليص من الواردات لتخفيف العبء على الميزان التجاري والحدّ من انخرام الماليّة العموميّة
-
وقف توريد الكماليّات والسّلع الاستهلاكيّة غير المجدية ودعم المنتوج المحلي
-
مراجعة الاتّفاقيّات التّجاريّة وخاصة الاتّفاقيّة التّونسيّة التّركيّة
-
محاربة التّهريب والرّشوة والفساد المالي والإداري
-
تشديد العقوبات على ماسكي العملة الصّعبة في السّوق الموازية
-
توقيف نزيف التّداين وإصلاح المنظومة الجبائيّة لتحسين موارد الدّولة
ألا تعتبر الحكومة؟
إنّ رضوخ الحكومة لإملاءات صندوق النقد الدولي وموافقتها على توصيات بعثته الأخيرة يمثّل مسّا عميقا من استقلاليّة القرار الوطني وتعميقا للأزمة الاقتصادية وتعدّيا على كرامة الوطن والشعب. ولم يمرّ وقت طويل (بضعة أيام فقط) كي يلمس الجميع نتيجة هذه الخطوة المغامرة التي أقدمت عليها الحكومة، حيث انهار الدينار بشكل يؤذن بإفلاس البلاد وانهيار الاقتصاد وتطورات اجتماعية خطيرة ظهرت علاماتها منذ أسابيع في العديد من الجهات (الكاف وتطاوين والقيروان وجلمة وماجل بلعباس وتبرسق وغيرها من الجهات).
إنّ التّمادي في الاستهتار بهذه العلامات والرّسائل سيكلّف البلاد السّقوط في انفجارات أوسع وأشدّ وأخطر قد تقود إلى الفوضى العامة. فهل تعتبر الحكومة؟