المقاومة لدى الشّعب الفلسطيني عقيدة ونمط عيش تتربّى عليها أجيال وأجيال من المهد إلى اللّحد وتجعل من هذا الشّعب العصيّ على الانكسار أسطورة حيّة تُلهم جميع الأحرار في العالم وتُنير لهم درب الحرية والانعتاق. هذا ما أكّدته الذكرى السنوية لـ “يوم الأسير الفلسطيني”، أين أعلن آلاف الأسرى القابعين في سجون العدو الصهيوني الدّخول في إضراب مفتوح عن الطعام وذلك للمطالبة بتحسين ظروف اعتقالهم.
إصرار الأسرى يُربك العدوّ
معركة الأمعاء الخاوية هي فصل من فصول المقاومة الشّرسة والمستميتة التي لا تهدأ إلاّ ليزداد لهيبها وكذلك دليل إضافي على أنّ الحواجز والأسلاك والزّنزانات التي يقيمها العدو لا تثني أبناء هذا الشعب الأبيّ عن المقاومة والسّعي إلى التحرّر من براثن الاحتلال الغاصب. ذكرى “يوم الأسير الفلسطيني” تأتي هذه السنة في ظلّ تصعيد نضالي غير مسبوق من قبل الأسرى الذين يتسلّحون بأجسادهم النّحيفة التي يقدّمونها قرابين في سبيل الوطن. إنّهم يفضحون من خلال ذلك الممارسات الوحشيّة التي ينتهجها العدو والتي ترتقي إلى جرائم ضدّ الإنسانية، حيث أنّه يمنع عليهم الزّيارات ويحرمهم من العيادات والخدمات الطبيّة ومن حقّهم في التعليم ويخضعهم إلى سياسة العزل الانفرادي والاعتقال الإداري.
لقد هبّ أكثر من 1300 أسير وأسيرة في زنازينهم لمطالبة سجّانيهم بكلّ عزيمة وإصرار بتمكينهم من حقوقهم وبالكفّ عن هذه الخروقات الفظيعة واللاّإنسانيّة. هذا الإصرار أربك قادة الكيان الصهيوني أيّما إرباك حيث توالت الدّعوات بقمع هذه الحركة الأسيرة بشدّة حتى لا يشتدّ عودها أكثر وتفضح الطبيعة الإجرامية والعنصريّة للكيان الصهيوني أمام المجتمع الدولي. لقد أحدثت هذه الموجة العارمة التي تزودّت بالخبرة عبر سنوات النضال المتراكمة شرخا في بنيان هذا الكيان بدأت تظهر معالمه من خلال التّصريحات المتشنّجة من بعض وزرائه على غرار “يسرائيل كاتس” الذي طالب بـ”إعدام هؤلاء الأسرى وبضرورة إعادة تفعيل مشروع قانون إعدام الأسرى والتّصويت عليه في الكنيست”، وكذلك “ليبرمان”، الذي دعا إلى الاستلهام من تجربة رئيسة الحكومة البريطانية السابقة “مارغرات تاتشر” التي رفضت تلبية مطالب أسرى الجيش الجمهوري الإيرلندي المضربين عن الطعام وتركتهم يموتون جوعا.
حالة الإرباك التي يعيشها العدو تجلّت أيضا عبر استنفار إعلامه الذي أصبح يُسدي النصائح لحكومته لمحاولة تخليصه من هذه الورطة غير المسبوقة، وذلك بعدم الرّضوخ للأسرى وابتزازهم ببعض الحقوق التي يحصلون عليها و”إعلان حالة الحرب داخل السّجون إذا ما أدّى الإضراب لوفاة أحدهم”. هذا التوتّر وهذا الجزع يزداد يوما بعد يوم بسبب التحاق أفواج جديدة بشكل يومي بحركة الإضراب عن الطّعام، الشيء الذي من شأنه فضح انتهاكات الكيان الصهيوني داخل السجون حيث يوجد 62 أسيرة من بينهن 14 فتاة قاصرة ونحو 300 طفل من بين 6500 أسير موزّعين على 22 سجنا بين سجون مركزية ومراكز تحقيق وإيقاف. علما وأنه وفقا للإحصائيات التي قامت بها “هيئة شؤون الأسرى” و”مركز الإحصاء الفلسطيني” و”نادي الأسير الفلسطيني” فإنّ ما يزيد عن مليون فلسطيني وفلسطينية قد دخلوا السّجون والمعتقلات منذ احتلال فلسطين عام 1948 وأنّ 210 من الأسرى “استشهد بعد الاعتقال بسبب التعذيب والإهمال الطبّي المتعمّد”.
الحاجز الحقيقي هو النّظام العربي الرّسمي
لم تمنع قضبان السجون الآلاف من الفلسطينيّين في الضفة الغربية وقطاع غزة وكذلك داخل الخط الأخضر، أين وقعت الدّعوى إلى مقاطعة المنتوجات “الإسرائيلية”، من التواصل مع المنتفضين داخل السّجون فانتفضوا بدورهم في السّاحات والجامعات متحدّين آلة القمع الصهيوني التي عجزت عن إخماد هذا الحراك الشعبي الذي انتشر كالنار في الهشيم ليصل إلى كافة أنحاء الوطن الفلسطيني وكذلك خارج حدوده أين تظاهر العديد من الأحرار في العالم أمام سفارات الكيان الصهيوني للتّنديد بهذه الجرائم.
كلّ هذا الحراك وكلّ هذا الاستنفار لم يؤثّرا في “سلطة أوسلو للتّنسيق الأمني” والنظام الرّسمي العربي العميل والمتزلّف للامبريالية والصّهيونية اللّذين لزما الصمت كعادتهما إزاء كلّ هذه الجرائم التي تقوم بها هذه الأخيرة، مبيّنان مرّة أخرى مدى انسلاخهما عن هذا الوطن وعن القيم الإنسانية.
إنّ المتسبّب الرئيسي في معاناة الشعب الفلسطيني هو بكلّ تأكيد الصهيونيّة، ثمّ تليها طبعا الأنظمة المطبّعة مع هذا الكيان الفاشي والتي لا تتوانى عن لجم الأصوات الحرّة خدمة لأسيادها حتى تبقى القضيّة الفلسطينيّة سجينة لقاءاتها واجتماعاتها ومحادثاتها واتّفاقياتها أين تمارس عهرها السياسي بأبشع أنواع القذارات. فهي من جهة تعارض وبشدة تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى الائتلاف الحاكم في تونس بقيادة الإخوان والتجمّعيّين المرسكلين، ومن جهة ثانية نراها تتشدّق بمناصرة القضيّة الفلسطينيّة في المناسبات والمنابر الإعلاميّة.
إنّ النظام العربي الرّجعي والمتخلّف ما يزال يجترّ خطابه المهترئ غير مستوعب التغّييرات التي تحصل على الميدان لأنه منفصم عن الواقع ومنفصل عن الشعب. الوضع في الأراضي المحتلّة مرشّح للتصعيد والانفجار قادم، إنها انتفاضة جديدة تبيّن للعالم أنّ الجميع في فلسطين يقاوم، نساء ورجالا وأطفالا وشبابا وكهولا، مهما كانت صلابة الأغلال التي يُكبَّلون بها والحواجز التي تضيّق حركتهم والقمع الذي يتعرّضون إليه، وكذلك الحراك الاجتماعي في العديد من الأقطار العربية على غرار تونس، فإنّه يعرف تصعيدا متناميا. إنّها الضمانة الحقيقية لانتصار القضية الفلسطينيّة التي لا يمكن لها أن ترى النور طالما أنّ النّظام العربي الرسمي العميل الجاثم على صدر الأمة العربية مازال قائما لأنّه يمثّل الحاجز الحقيقي الذي يفوق كلّ الحواجز التي يضعها العدو الصهيوني للتّضييق على المنتفضين في فلسطين. فبإزالة هذا النّظام فقط يمكن للقيد أن ينكسر وأن يتحرّر الأسرى والشعب الفلسطيني وكافة الشّعوب العربية.
فوزي القصيبي