بالتّزامن مع تصاعد الحركة الاحتجاجية الاجتماعية في أغلب جهات البلاد للمطالبة بالتّنمية والتّشغيل والحقّ في العدالة الاجتماعيّة، نظّمت جمعيّة بنزرت 2050 وجمعية هيبودياريتوس ملتقى “بنزرت الذكية” يومي 26 و27 أفريل المنقضي وتمّ إعلان وإمضاء ميثاق “بنزرت الذكية”، تحت إشراف وزير العلاقة مع الهيئات الدّستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان مهدي بن غربيّة و وزير الشؤون المحلية والبيئة رياض المؤخر وبحضور رئيس منظمة الأعراف وداد بوشماوي.
ومن المنتظر أن تتلو هذه التّظاهرة مبادرات أخرى بعدد من المدن التونسية قصد “بناء مدن حديثة ومنصهرة في عالم الرّقمنة والذكاء والتنمية المستدامة بالاستعانة بالشباب البنّاء الخالق للثروة” مثلما تمّ تقديم هذه التظاهرة. وتمّ تحديد موعد ثان لهذا الملتقى بعد حوالي سنة تقريبا “من أجل رفع مستوى العيش والتنمية في إطار معالجة المتغيرات المناخية ودفع الاقتصاد الأخضر” اقتداءً بتجربة مدينتي “قرونوبل” بفرنسا و”برشلونة” بإسبانيا وبحضور ممثل للاتحاد الأوروبي ورئيس مجموعة “كوادران” حول موضوع الطاقة المتجدّدة في خدمة الجهة. ليتمّ إثر ذلك الإعلان عن فكرة مشروع بنزرت قطب الطّاقات المتجدّدة وكذلك إنشاء مؤسسات منفتحة على تكنولوجيات المعلومات.
كل هذه البرامج من المنتظر أن تكون فاعلة بعد عقدين من الآن. فهل هذه تمثّل أولويات بنزرت الآن؟ هل تمّ إنجاز البرامج التنموية السّابقة المبرمجة والتي في طور البرمجة حتى نخطّط لـ 2050 خاصة وأن نفس الفاعلين هم أنفسهم المشرفين على هذه البرامج؟
ما بين الوعود والواقع هناك مسافات شاسعة لا يمكن أن تتحقّق في ظلّ انعدام رؤية واضحة وحتّى لا نقول “لا يستقيم الظلّ والعود أعوج”. فمنذ 14 جانفي 2011 إلى الآن هناك نقص في إنجاز مشاريع تنموية رصدت لها أموال في مخططات التنمية. ونفس الأحزاب والأشخاص الذين أخفقوا نراهم يتصدّرون المشهد. وهذا يحيلنا على تساؤل الشارع البنزرتي حول ما شاب الأمور التنظيمية من شبهات. حيث وقع ترويج أن هذا الملتقى غير متحزّب ومقتصر على مكوّنات المجتمع المدني. وهي مغالطة واضحة. حيث حضر عدد من المنتمين إلى حزب حركة النهضة، ونداء تونس وآفاق تونس ومشروع تونس وهي مكونات الائتلاف الحاكم أو من يحمل نفس خياراتها الاقتصادية.
واقتصر حضور المجتمع المدني على جمعيات مرتبطة بأحزاب هذا الائتلاف أو بنواب ووزير منسوب للجهة. كما شهدت غياب المنظمات الوطنية على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان.
واقعيّا تزخر بنزرت بالإمكانيات المادية والطبيعية ما يؤهّلها إلى تحقيق نهضة جهويّة وما يجعلها تشعّ على بقيّة جهات البلاد (أطول شريط ساحلي، أراضي فلاحية سقويّة وأراضي تختص في الزراعات الكبرى، أكبر مخزون مائي، جهة صناعية وقع تهرئة بنيتها مؤهّلة لأن تكون قطب سياحي كبير). لكن الفاعلين السّياسيين القدامى والحاليين فشلوا في تحقيق أرقام تنموية للجهة جعلت البطالة مرتفعة بالمقارنة بالإمكانيّات الموجودة (13 %) ومناطق تعدّ الأكثر فقرا في البلاد كمعتمديتي جومين وسجنان. وتعدّدت المناطق المهمّشة المحيطة بمدينة بنزرت. وهو تهميش مردّه السّياسات التنمويّة الفاشلة التي اتّبعتها الحكومات منذ خروج المستعمر الفرنسي إلى الآن، إضافة إلى انعدام الرقابة وفساد الإدارة.
هذه العوامل أدّت إلى وجود مشاريع وصفت بالضّخمة لكنّها غير مفعّلة ويكتنفها الغموض كمشروع مارينا بنزرت ولا وجود لإجابات على وضعيّته القانونية والفعلية. كما تواترت تجاوزات بيئيّة عدّة من قبل الشركات الصناعية التي لا تحترم حرمة الطّبيعة والبشر (معمل السكر، إسمنت بنزرت، تكرير النفط بجرزونة، مصانع الجلد…). إضافة إلى تواتر الاعتداءات على الثّروة الغابيّة عبر البناء داخل الغابات بصمت وبتواطئ المسؤولين مع أشخاص متنفّذين داخل الجهة. وهناك عقود مبرمة يحوم حولها شبهات فساد ولعلّ ما يحدث في غابة الصمادية مثالا على ذلك. وهم أغلبهم أشخاص قريبون من دوائر الفعل السّياسي في الجهة. وأخيرا لاحظنا من يخطّط للتعدّي على غابة الرّمال في ظلّ صمت رهيب من السلط المحلية بعد اكتشاف آثار لمسالك محدثة تدعو للتّساؤل أين هي الهياكل المحلّية والجهويّة الرّادعة؟
رائحة الحملة الانتخابية المبكّرة كانت حاضرة بقوة من خلال حضور أحزاب بعينها وجمعياتها المقرّبة ووقع إقصاء آخرين. كما أن الخطاب فيه جملة وعود لا يمكن أن تتحقّق على أرض الواقع وهي ذات أفق بعيد حتى ينجو الفاعلين الآن من المحاسبة، والمشروع الوحيد المعلن هو تطهير بحيرة بنزرت سنة 2022 بتمويل أوروبي ويبقى وعد على ورق.
الواقع اليوم في كامل البلاد كما هو في بنزرت يشهد تدحرجا وانهيار في كافة الموازنات الاقتصادية، الاجتماعية والتربوية وضعف البنية التّحتية، تقلص فرص التشغيل وانحساره. وأصبحت بنزرت منطقة طاردة للسكان لغياب أفق التشغيل والتنمية. ناهيك أنّ واقع المنظومة التربوية، التي تعرف تدهورا غير مسبوق منذ ثلاث عقود وتفاقمت الوضعية بعد الثّورة والتّهميش الثّقافي المتعمّد، لا يمكن أن يؤهّل الشّباب لتصدّر المشهد كما يدّعي الدّاعمين للمشروع.
كما أن إسقاط تجارب مدن ذكية على واقع داخلي يختلف كليا لا يستقيم ويحيلنا إلى بيع الأوهام كمؤتمر الاستثمار الأخير.
والسؤال المطروح هو مدى توفّر الإمكانيات لذلك خاصة أن التنمية المستدامة هي جزء داخل الكل ولا يمكن إنجازها إلا بتوفّر أرضية صلبة إضافة إلى طاقات بشرية ذات وعي المجتمعي وداخل أطر أكبر هي الدولة وحكومات توفر التنمية الشاملة لجميع الجهات بالعدل. ومن دون ذلك لا يمكن إنجاز مثل هذه المشاريع المستقبليّة وتبقى أضغاث أحلام، فبنزرت المدينة ليست جزيرة مفصولة عن أطرها الجغرافية ولا التاريخية والبشرية. فبعض المدن والدول في شرق آسيا أو المدن الذكية في إسبانيا وفرنسا لم تأت نهضتها من فراغ، بل سبقتها ثورات وسيرورة تطورّات مسّت كلّ أوجه الحياة البشريّة والعمرانية والتقنيّة.
لكننا في واقع آخر. فالفريق السّياسي الحاكم لا يملك قراره ويعتمد منوال تنموي واقتصادي مشوّه وتابع وراضخ للإملاءات الأجنبيّة، تحكمه اللوبيّات والعصابات، كما أنّ البعد الزّمني لتحقيق هذا البرنامج يحيلنا إلى مدى قراءة المستقبل وتغيّراته. فكيف ستبقى آليات هذا البرنامج صالحة بعد عقدين؟
أهالي بنزرت وعلى رأسهم مناضلي الجبهة الشعبيّة عبّروا في أكثر من تحرّك واحتجاج على أهمّية التّنمية المستدامة التي تراعي المحافظة على البيئة وذلك بالحدّ من جشع سطوة رأس المال المستنزف لثرواتنا الطبيعيّة ومدّخراتنا الباطنيّة ووضع برامج بديلة لم تأخذ بالاهتمام من طرف الحكومات المتعاقبة. كما أنّ ثرواتنا هي ملكنا على عكس ما ترمي إليه الطبقة السياسية الحاكمة العميلة المتماهية مع المشاريع الاستعمارية السّارقة لهذه الخيرات. ومشروع “بنزرت الذكية” يبوّب في خانة فسح المجال لنفس هذه السّياسة لمزيد نهب خيراتنا والاستفادة من قدراتنا الطبيعيّة والبشرية. ولذلك فإنّ عملية بيع الوهم المرتبط بواقع الحال وما يحاك داخل أقبية الدوائر الامبرياليّة لتعيير طرق سرقة مدّخرات العالم الثالث.
كمال آيت ميهوب