يتوجّه رئيس الجمهورية يوم الأربعاء 10 ماي الجاري بخطاب إلى الشّعب التونسي يصفه المقرّبون منه، أعضاده في قصر قرطاج و”إعلاميّو الموالاة”، بأنّه سيكون خطابا “هامّا” و”تاريخيّا”.
يأتي هذا الخطاب ردةّ فعل متأخّرة من رئيس الدولة، على ما تشهده البلاد طوال هذه المدّة من تردّ للمؤشّرات الاقتصادية العامة، ومن احتقان اجتماعي كبير واحتجاجات شملت جهات وقطاعات عدّة، وأزمة متفاقمة في فريق “حكومة الوحدة الوطنية” التي هندسها الباجي نفسه، ومخاطر أمنيّة جدّية (عمليّة إرهابية في سيدي بوزيد وتهديدات لشخصيّات سياسية الخ …) وعلاقات خارجية، بما فيه مع الجارتين الشقيقتين الجزائر وليبيا، مهتزّة بشكل غير معهود.
ويراد بالضّجيج الذي يثار حول هذا الخطاب حتى قبل أن يتمّ بثّ الوهم بأنّه سيأتي بالحلّ السّحري الذي يبعث “الأمل” في إنقاذ البلاد ممّا تردّت فيه ومما يهدّد مستقبلها ومستقبل أبنائها وبناتها.
غير أنّه وفي ضوء ما يعرفه الجميع عن منهج رئيس الدولة السياسي وتوجّهاته ومواقفه من خلال تجربته السياسيّة القديمة والحديثة، وفي ضوء ما تميّز به سلوكه المناور دائما منذ أن تقلّد كرسي رئاسة الدولة لخدمة مصالح ضيّقة، لا نتوقّع أن يكون هذا الخطاب من حيث مدلولاته الأساسية سوى:
– مقدّمة لمناورة سياسيّة جديدة القصد منها تهدئة الأجواء مؤقتا وتهيئة الرأي العام للقبول بما يجري طبخه في الكواليس من “مبادرات” أخرى لإنقاذ منظومة الحكم المتهاوية، والتي لا يستبعد أن تكون إحداها وربّما أهمّها مراجعة النظام السياسي لإعطاء رئيس الدولة صلاحيّات أكبر حتّى يجد الفرصة لإعداد الأرضية الملائمة لتثبيت “حكم العائلة”.
– حقنة ظرفية محدودة المفعول بغاية بث الأوهام وذلك بتدشين مرحلة جديدة من “الحوارات” بعناوين عدّة، الغاية منها ربح الوقت وبثّ أنفاس إضافيّة في جسد منظومة الحكم المنهكة وتأجيل ما أمكن تداعيات الأزمة العامّة التي تنخر البلاد وتفكيك عوامل الانفجار وتأخير أجله.
والحقيقة أن البلاد تواجه تحدّيات كبرى على درجة من التّعقيد والخطورة تتطلّب حلولا جدية ذات فعالية مباشرة وإرادة قوية في تغيير منهج تسيير أمور الدولة والاقتصاد والمجتمع. ولا نخال أي عاقل في البلاد يمكن أن يراوده الوهم في أن الباجي قايد السبسي – مهما كال له أتباعه من مديح – يمتلك الحلول والإرادة المطلوبتين في مثل هذه الظروف.
إن أزمة تونس أساسها اقتصادي وانعكاساتها اجتماعية وتداعياتها أمنية وسياسية. ومن يريد حل الأزمة لا مناص من أن يبدأ بما هو اقتصادي، بما يخلق الثروة ويوسّع قاعدة التنمية ويوفّر مواطن الشغل ويلج بالتالي مجال المعالجات الاجتماعية ويموّل الطلبات ويلبّي الحاجات ليطمئنّ المحتاجون وتخفّ الاحتجاجات ويساهم فعليا في تجفيف منابع الإرهاب ويحاصر الجيوب التي يتغذّى منها ويضع بأيدي السياسيّين – أحزابا وزعامات – الحجج المقنعة التي تضفي على مقارباتهم وخطاباتهم المصداقية اللازمة وتكسبهم ثقة الجمهور.
في هذا الصّدد بالذات ماذا بوسع الباجي أن يقترح في خطابه؟ هل سيقدّم تصوّرا جديدا لمنوال التنمية البديل عمّا تمّ اتّباعه حتى اليوم منذ ستّة عقود؟
هل بوسعه مثلا أن:
- يُعلن رسميا الكفّ عن سياسة التداين للخارج ويأذن للحكومة بالشروع فورا في فتح مفاوضات مع المؤسّسات المالية والدول الدائنة لبلادنا من أجل تعليق تسديد الديون التي باتت تمثل ثلاثة أخماس الناتج الداخلي الخام وهي مرشّحة لمزيد الارتفاع؟؟
- يقرّر النزول بالواردات إلى النصف والتخلّي من جانب واحد عن اتفاقيات التجارة مع تركيا والاتحاد الأوروبي والتي تتسبّب في عجز دائم ومتفاقم للميزان التجاري التونسي وفي تدمير مستمرّ للمؤسسات التونسية الصغرى والمتوسّطة وحتى الكبرى منها أحيانا؟؟
- يعلن حربا حقيقية على الفساد والمهرّبين والسماسرة وأن يجرأ على التخلّي صراحة وعلنا عن مشروع “المصالحة الاقتصادية والمالية” الذي بادر به وما انفكّ يناور من أجل تمريره رغم الصدّ الشعبي الذي يلقاه؟
- يُلزم الحكومة بتعقّب المتهرّبين من الواجب الضّريبي وباستخلاص ما بذمّتهم لدى الديوانة (أكثر من 3 ألاف مليون دينار) ولدى إدارة الجباية أي ما لا يقلّ عن 7 مليارات من الدنانير.
- يُلزِم الحكومة بإعلان نتائج الاستشارة الوطنية حول إصلاح الأراضي الدوليّة وإلغاء صفقات التفويت في جزء منها لفائدة زبانية النظام السابق وأتباع حركة النهضة في عهد الترويكا ويقرّر توزيع تلك الأراضي وغيرها المهملة على الشّباب العاطل عن العمل وإصلاح أوضاع الفلاحة ككلّ ليقوم هذا القطاع بدور فعّال في إخراج تونس من أزمتها وفي تلبية جزء من حاجات أبنائها وبناتها في مجالي التشغيل والتغذية؟
- يُلغي برامج التخدير والكذب من قبيل “عقد الكرامة” ويسنّ منحة لأصحاب الشهادات المعطّلين وتسوية أوضاع عملة الحضائر وأشكال العمل الهشّ الأخرى؟
- يِلْزم الحكومة باحترام الحريات العامة والفردية والكفّ عن تجريم التحرّكات الاجتماعية وقمعها وإيقاف التتبّعات القضائية ضدّ الشباب على خلفية تحركات سابقة كاحترام حرية التعبير والصحافة والاعلام والكفّ عن التدخّل في سير المؤسسات الإعلامية والضغط على الإعلاميّين؟
لو كان يراودنا أبسط أمل في أن يتحلّى رئيس الدولة بالحدّ الأدنى من الشجاعة السياسية لإعلان مثل هذه القرارات وأن تكون له ذرّة من الإرادة الحقيقية لتغيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية التخريبية التي تسير عليها ما يسمّى زورا وبهتانا حكومة “الوحدة الوطنية” لكنّا من الحاضرين لحفل الخطاب “الهام” و”التاريخي” الذي سيلقيه يوم الأربعاء ولصفّقنا له. ولكن هيهات… إنّ فاقد الشّيء لا يعطيه.
إن السّياسة هي فوق كل شيء مبادئ وأخلاق. وأوّل هذه المبادئ هو قول الحقيقة، كلّ الحقيقة للجماهير الشعبية. بلغة أخرى، إنّ أي مناضل سياسي مبدئي ونزيه ومتماسك – حتى لا نقول ثوريّا – لا يمكنه أن يشارك في مسرحية سيّئة الإخراج ويساهم في بثّ الوهم ومغالطة الشعب والكذب عليه ولا يمكنه بالتالي الحضور لهذه “اللمّة” التي يراد بها فعلا وأساسا مغالطة التونسيّات والتونسيين في ظرف يتطلّعون فيه حقا إلى بارقة أمل للخلاص من المأساة التي يعيشونها منذ زمن طويل، وهو خلاص ممكن ولكنّه مشروط بتوفّر الإرادة والبرامج الجديّة التي ما فتئت الجبهة الشعبية تقدّمها والواقع يؤكّد يوما بعد يوم صحّتها، بل حاجة البلاد الملحّة إليها.
جيلاني الهمامي
نائب بمجلس الشّعب عن الجبهة الشعبيّة