ألقى الباجي قايد السبسي، يوم الأربعاء 10 ماي الجاري، خطابا سبقته حملة إشهارية وضجّة إعلاميّة كبيرة، حتى ذهب في اعتقاد البعض أنّ تاريخ يوم 10 ماي هو بمثابة تحوّل كبير في تاريخ تونس مثلما ذهب إلى ذلك أحد مستشاريه. والحقيقة أنّ شيئا من ذلك لم يقع. فحتى قاعة الاجتماع لم تُبد حماسا كبيرا لأغلب ردهات الخطاب رغم الجهد الذي بذله الباجي لاستدرار الإعجاب والتّصفيق له.
لقد ركز الباجي في خطابه على مسألتين أساسيّتين هما المصالحة الاقتصادية والتعامل مع الاحتجاجات الاجتماعية. وفيما عداهما فهي تفاصيل تتّصل بهذا أو ذاك من هذين الموضوعين واستطرادات أخرى عادة ما يجنح إليها الباجي لإضفاء شيء من الطرافة و”الضمار” على خطبه.
المرور بقوّة
لئن تعرّض الباجي إلى موضوع “المصالحة الاقتصادية والمالية” في الجزء الثاني من خطابه فإنه كشف عن إصراره على تمرير هذا المشروع بالقوة، معتبرا ذلك المخرج الوحيد لـ”تونس من المأزق” معوّلا بالطبع على البرلمان (المؤسسات الدستورية) حيث يحظى الائتلاف الحاكم بأغلبية كافية لتمرير القانون ملمّحا إلى أنّ الرفض الذي لاقاه هذا المشروع من قَبْلُ (تحركات الجبهة الشعبية) ما عاد من الممكن أن يستمرّ بدعوى أنه يؤسس للفساد ويتنافى وأحكام الدستور واتّهام كلّ منظومة الحكم والمنظمات الشريكة (اتحادات الشغل والأعراف والفلاحين) بالضلوع في الفساد.
لقد اعترف الباجي بأنّ البلاد “على قاب قوسين من النار” كما قال ولكنه لا يعترف بذلك إلاّ عندما يتعلق الأمر بتبرير مشروع تبييض الفساد والفاسدين وإعادة رسكلة رموز النظام السابق الذين حسم أمره وأعلن بوضوح انتصاره وهو في الحقيقة انتصار لمنظومة الفساد التي لم ينبس ببنت شفة ضدّها رغم تفشّيها كظاهرة ورغم ما يروج بخصوصها من معطيات وحقائق وما يصدر في شأنها من تقارير آخرها تقرير مجموعة الأزمات الدولية (International Crisis Group).
العسكرة مقدّمة لعودة الاستبداد
وهو ما خصّص له الباجي الجزء الأوفر من خطابه معترفا طورا بحق المواطنين والشباب الذين لم يجنوا من الثورة شيئا على صعيد التنمية والتشغيل وهدّد طورا آخر بمواجهة الاحتجاجات وكلّ أشكال التعبير باستعمال القوة بدعوى تطبيق القانون. وبطبيعة الحال اتّخذ من بعض الأشكال الاحتجاجية ذريعة لإعلان الحرب على الحركة الاجتماعية وتهديدها بالقمع. بل باتخاذ قرار اعترف هو نفسه أنه “قرار خطير” يقضي بوضع “مناطق الإنتاج” في مادّتي الفسفاط والبترول على الأقل (في الوقت الحاضر) تحت حماية الجيش. وبذلك قطع الخطوة التي تردّد الائتلاف الحاكم في قطعها طوال المدة الماضية وهي مواجهة النضالات الشعبية بالقمع والانتقال صراحة إلى سياسة استبدادية قوامها إقحام الجيش في الصراعات السياسية والمدنية وإعادة هيكلة وزارة الداخلية، أي تهيئتها للمرحلة الجديدة مرحلة العصا الغليظة.
خطاب التّناقضات والكذب
جاء خطاب الباجي حافلا بتناقضات كثيرة، فهو يعترف من جهة بفشل الحكومة معتبرا ذلك أمرا شبه عادي ولكنه في المقابل من ذلك يؤكّد أنه لا يمكن أن ينتظر منه الشعب التونسي الاستجابة إلى الدعوات المنادية بتغيير الحكومة أو إجراء انتخابات مبكرة أو التخلي عن وثيقة قرطاج. ومقابل ما أسماه المؤشرات الاقتصادية الكاذبة الدالة على “التدرج الإيجابي” المزعوم (طور نسبة الاستثمارات الخارجية المباشرة وإنتاج الفسفاط والسياحة الخ…) لم يكن بوسعه أن ينكر أنّ 632 ألف شاب عاطل عن العمل منهم 240 ألف حامل شهادة يدوسون على الجمر كما قال. ورغم التّبجّح بهذه المؤشّرات التي لا توجد إلاّ في مخيّلته والتّباهي بالمشاريع الوهمية (عقد الكرامة ومؤتمر الاستثمار الخ…) فقد سلّم بأنّ منظومة الحكم لا تحقّق نموا ولن تشغل أحدا.
ومقابل دعواته المتكررة إلى الوحدة والتضامن و”وضع اليد في اليد” تهجّم على المعارضة وعلى التحركات الاجتماعية واعتصام ” الكامور ” في تطاوين مستعرضا فقرات من بيان نسبه لتنسيقيته في محاولة لتبرير ما اعتبره طلبات مشطّة وتعجيزية ملوّحا مرة أخرى باستعمال القوّة ضدّهم. ولم تستثن تهجّماته طرفا من القوى السياسية من داخل الائتلاف الحاكم ومن خارجه إن تصريحا أو تلميحا وكذلك رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات المستقيل.
لقد حاول الباجي تقمّص شخصية بورقيبة وحركاته الركحية دون أن يفلح في ذلك. ففيما حاول الظهور بمظهر الحازم القوي بدت عليه علامات التّردّد والارتباك بل لم يخف أحيانا الرعب الذي يتملّكه من الحركة الاجتماعية والمعارضة السّياسيّة.
خلاصة القول
انتظر الشعب خطاب الباجي طمعا في قرارات وإجراءات اجتماعية تخفّف من وطأة البطالة وتدهور مقدرته الشرائية وتردي خدمات الصحة والنقل والتربية والسكن والبيئة فجُوبه انتظاره بخيبة أمل حقيقية. خطاب هزيل جدّد فيه الباجي موقفه المنحاز على المكشوف للفساد والفاسدين ولمنهج القمع والتشبث بمنظومة الحكم العاجزة والفاشلة حكومة وبرلمانا ورئاسة ومؤسسات دستورية.
كلّ ما يمكن اعتباره جديدا في خطاب الباجي هو الطابع الاستفزازي الذي سيكون عاملا إضافيا في تأجيج الاحتجاجات لا فقط في تطاوين وقفصة بل في كامل جهات البلاد من جهة والزج بالجيش في الصراعات الاجتماعية والسياسية ممّا قد يعقّد الأوضاع أكثر ويضع البلاد أمام احتمال العنف والفوضى والاحتراب الأهلي.
لقد اتضح اليوم، وبجلاء أنّ مركز السلطة الأهم قد انتقل إلى قصر قرطاج وبين أيدي الباجي قائد السبسي وعائلته وأنّ المسؤولية فيما قد تعرفه البلاد من انخرام أمني وتدهور اقتصادي وانفجار اجتماعي ستكون مسؤوليته الشخصية. وهو ما بات يطرح في مقدمة المطالب إلى جانب الدفاع المستميت عن حق الفقراء في الدفاع عن حقوقهم ومطالبهم العمل على تخليص البلاد من شبح الباي الجديد والنسخة المشوّهة لبورقيبة زمن “خرفه” ومن كلّ منظومة الحكم التي وضعها تحت إبطه.
إنّ الشعب التونسي، وشبابه وقواه الديمقراطية، الذي وقف بكلّ عناد في وجه بن علي وآلته القمعية لا يمكن أن ترهبه تهديدات الباجي وهو يدرك جيّد الإدراك أنّ منظومة الحكم المنهكة جرّاء الغضب الشعبي وصراعات أحزاب الائتلاف الحاكم والتطاحن المزاجي بين شقوق حزب النداء ودسائس القصر قد باتت على وشك الانهيار والسقوط. فلا نخال أنّ هذه التهديدات ستفتّ من عزيمته وأنّ شعار “الرخ لا” هو مجرد شعار بقدر ما هو كلمة السر الفاصلة في المعركة القادمة.