تضيع الكلمات في حضرة الشّهيد، أيقونة النّضال، والأسطورة التي تربّت على مآثرها الأجيال، وlا زالت، وتتعلّم معنى الفعل الواعي والمنحاز، معنى “أن تكون شيوعيّا هو التزام يومي” ومعنى أن الشّيوعي لا يعرف الانحناء. هو ذاك نبيل البركاتي ابن قعفور، المدينة الصّغيرة التي عرفته إبنًا بارًّا وشيّعته شهيدا وبطلا.
نبيل المربّي الشّيوعي:
كان لأبناء قعفور ككلّ الصّبية، طقوسهم في اللّهو وتمضية الوقت في الشوارع في منافسات بريئة وألعاب يقودها منطق الرّبح والخسارة ويغلب عليها طابع الأقوى والأضعف، في انعكاس مباشر للقيم التي تسود المجتمع. لكن نبيل كان بينهم يؤطّر ويعدّل ويبدع، ففي لعبة الكجّة (البيس) مثلا كان يجمع الجائزة من جميع اللاّعبين فحوّل قانون الربح إلى قانون التّشارك. وكان يسهر على تنظيم دورات كرة قدم تعزّز الرّوح الجماعية ويقوم بجمع تبرّعات مالية ليعدّ الزّي الرّياضي الخاصّ باللّاعبين ويشتري جائزة للفريق الفائز. يتحوّل اللعب مع المربّي الشّاب إلى قيمة إنسانية ودرس مبسّط في مفهوم العمل الجماعي ومقاومة الأنانيّة والفردانية وهاجس الرّبح. وكانت تلك بذرات التّربية الشّيوعية يغرسها في شباب قعفور.
نبيل الإنسان:
ولأنّ قعفور، كغالبية المدن والقرى الداخلية، مدينة الفقراء والكادحين، ونبيل واحد منهم، يشاطرهم أفراحهم وأتراحهم، فقد كان يسعى إلى إدخال البهجة أينما حلّ وأن يصنع من الحرمان قدرا جميلا. نبيل كان في الأعراس يجمع جريد النّخيل والأزهار ليصنع منها أكاليل للزينة ويستعير من نساء قعفور الزّرابي ليكسو بها “منصّة العرس” ويحقّق الحلم من التّفاصيل البسيطة. كان نبيل قادرا على صنع الابتسامة وتمتين التآزر الاجتماعي بين أهل مدينته. نبيل الإنسان كان أيضا ذلك المربّي الذي يُقضّي أوقات راحته بين الدّروس يرقّع ملابس تلاميذه، يخيط ثيابهم الرثّة ومحافظهم التي يمزّقها مرور الزّمن وقلّة ذات اليد.
وبعيدا عن المثاليّة، ضرب نبيل مثلا، فشهادات من التاريخ تثبت أنّه كان نصير المظلومين والمقهورين قولا وفعلا. ففي أوّل ذكرى لنبيل بعد استشهاده قدّم أحد فلّاحي الرّيف الفقراء ليروي شهادة تمسّك بها رغم الحصار الأمني وتهديدات البوليس، وذكر أنّ نبيل مرّ قربه يوما على درّاجته النارية الزرقاء التي يعرفها الجميع، وكان هذا الأخير مهموما حزينا، وبسؤال نبيل عن السّبب أخبره أنّ له بقرة دخلت أرض أحد كبار المزارعين سهوا واشترط عليه هذا خمسين دينارا “غرامة” ليعيدها إليه، وكان الرّجل معدما. فمدّه نبيل بالمال المطلوب ليستعيد مورد رزقه. وكانت هذه الحادثة عيّنة عمّا يحمله نبيل داخله من قيم وعمّا يتركه الإنسان من أثر.
نبيل السّياسي:
يعرف كلّ من اطّلع على سيرة نبيل أنه أحد مؤسّسي حزب العمال الشيوعي التونسي في جانفي 1986. لكنّ نشاط نبيل ونضاله السّياسي بدأ فعليّا قبل تأسيس الحزب، فلم يفوّت أيّ محطّة نضاليّة. فهو المناضل الذي يؤمن بالحقّ في العيش الكريم، والمقاوم لتوجّهات الرأسمالية والمناوئ لنظام بورقيبة الاستبدادي. كان من أبرز المشاركين في تنظيم المسيرات والاحتجاجات بجهة سليانة إبّان انتفاضة الخبز 1984، وهو ما جعله رهن الإيقاف مع مجموعة من المناضلين، ورغم إطلاق سراحه فإنه لم يتخلّ عن خمسة مناضلين تمّت محاكمتهم فأوكل لهم محاميا وظلّ يزورهم كلّ أسبوع وفي يده “القفّة”.
تابع نشاطه دون كلل، حيث كان سنة 1985 مسؤولا عن توزيع مجلّة “الشيوعي” ومشرفا على حلقة الشّيوعي في سليانة ومؤطّرا للشّباب. كان المناضل الذي لا يهدأ، يتنقّل بين معتمديات ولاية سليانة لنشر الوعي الشيوعي ويعود إلى قعفور ليستكمل مهامّه فيها رغم ظروف العمل السرّي ومخاطر الرّقابة البوليسية. وكان من أوّل المشرفين على تأسيس حزب العمال الشيوعي بالجهة رفقة ثلّة من المناضلين الذين طبعوا تاريخ الجهة والحزب ومنهم ذكرا لا حصرا: النّاصر بن رمضان، منجي المرواني، بوبكر الفرشيشي، هشام الطرابلسي، علي الطرابلسي…
نبيل المثقّف:
كان نبيل يردف العمل السّياسي بالفعل الثقافي وهو من أبرز مؤطّري نادي السينما وكان يعرف كيف يجعله منبرا مشعّا لتأطير الشّباب ونشر الثقافة التقدميّة على غرار نادي الأدب.
نبيل البركاتي يناضل بلا هوادة ضدّ الجهل والرّجعيّة والظّلاميّة، وكانت قعفور عصيّة على عصا بن علي وميليشيات حركة الاتّجاه الإسلامي. ولهذا كانوا جميعا يترصّدون خطواته. ولكن العسَس لم يمنعوه يوما من ممارسة قناعاته والمضيّ في طريقه. ورغم أنّ بعض العناصر المنتمية إلى حركة الاتّجاه الإسلامي آنذاك تتعرّض إلى المناضلين وتمعن في هرسلة رفيقات نبيل ورفاقه حدّ العنف، إلاّ أنّ المناضل الشيوعي عرف كيف يتصدّى لاعتداءاتهم ويردّ على هجماتهم المسعورة.
نبيل النّقابي:
منذ كان في تبرسق يزاول تعليمه الثانوي، بدأت تجربة نبيل البركاتي النقابية، فقد كان أحد أبرز مؤسّسي الحركة التلمذيّة ونشطائها. كبر نبيل وكبر انتماؤه ووعيه النقابي، وبالتحاقه بالمدرسة الوطنية للمهندسين سنة 1981، انخرط في صفّ النقابيين الثوريّين بالجامعة. وبالتحاقه بسلك التّدريس سنة 1985، تعزّز نضاله النقابي صلب الاتحاد العام التونسي للشغل. كان نقابيا شرسا يعرف أنّ الحقوق تفتكّ ولا تهدى وكان أحد أبناء الاتحاد الأوفياء، فقد كسرت ذراعه أمام باب الاتحاد المحلي للشغل بقعفور وهو يتصدّى للهجوم الذي قام به ما اصطلح على تسميتهم بـ”الشّرفاء” وهم يحاولون الانقلاب على الاتحاد والاستيلاء على دوره، فكان نبيل البركاتي ورفاقه يحمون “دارهم” بكلّ شرف.
نبيل البركاتي الذي يعرف كيف يكسو العمر النسبي بكثافة الحركة، كان مناضلا متعدّد الأوجه سياسيا، نقابيا، ثقافيا، كان معلّما في المدرسة وفي الاتحاد وفي هياكل الحزب. كان يشرف على نشريّة حائطية في دار الاتحاد يوثّق فيها أخبار الجهة. ولم يكن ينتظر البيانات الحزبيّة لتفِدَ من القيادة المركزية فهو يرقنها بأدوات بدائية ويوزّعها.. حتى كان يوم 23 أفريل 1987 وكان البيان الشّهير “الصراع الدستوري –الإخوانجي لا مصلحة للشعب فيه”. امتلأ مركز الشرطة بالمناضلين المعتقلين (الهادي المناعي، بوبكر الفرشيشي، علي الطرابلسي، الفقيد فتحي المرواني، الشاذلي الجويني وغيرهم) وكان نبيل الصّيد الثمين لـ”حاج” الجريمة وصنيعة التحالف الدستوري – الاخوانجي. أحد عشر يوما تحت التعذيب لم تكن قادرة على جعل نبيل يخون ويعترف..
كان نبيل مدركا أنّها قد تكون النهاية، لكنّه جابه جلّاده بالجلَد وبصلابة إيديولوجية غريبة عن بوليس الجِنرال الفاشي بن علي الذي كان آنذاك وزيرا للداخلية. لم يفضّل نبيل الانصراف خائنا فخرج إلى نور قعفور شهيدا باسلا.. شيّعته المدينة المنتفضة وجعًا تحت الحصار، وظلّت قلعة النضال خمس عشرة يوما تواجه آلة القمع.. وغاب الحاجّ عمار مجرما، ورحل بن علي ذليلا، وبقي نبيل البركاتي شهيد الحرية اسما وتاريخا ورمزا للنّضال.
محمود الدقّي