في العدد الأخير من “صوت الشعب” نشرنا بمناسبة الذكرى الثامنة لرحيل الرفيق الطاهر الهمامي، مقالين، الأول يهتمّ بإرثه الإبداعي، شعرا ونقدا، والثاني بنضاله النقابي. ونخصّص المقال الحالي للطاهر الهمامي المناضل السياسي.
إنّ من ميزات الفقيد أنه كان حاضرا في أكثر من واجهة، فالنضال عنده وحدة متكاملة، لا يقتصر على وجه دون آخر خاصّة أنّه كان يمتلك من المؤهّلات ما يسمح له بمثل هذا الحضور متعدّد الأوجه. فرغم أنّ الطاهر الهمامي عُرف في الساحة التونسية والعربية كمبدع بالأساس، إلاّ أنه كان، كما أسلفنا، نقابيّا تحمّل مسؤوليته في مختلف المعارك النقابية التي شهدتها بلادنا في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي عندما كان ينشط صلب النقابة العامة للتعليم الثانوي. ولكنّ الطاهر الهمامي لم يكن المبدع، والنقابي فحسب، بل كان أيضا المناضل السياسي. ولئن ظلّ هذا الجانب غير معروف عند عامة الناس ولم يُكشف بشكل صريح إلاّ بعد وفاته، فذلك راجع إلى أجواء القمع المستشري في ظل الديكتاتورية الدستورية النوفمبرية، وهو ما فرض على حزب العمال النشاط السري منذ تأسيسه في جانفي 1986 حتى لا تصل يد البوليس السياسي إلى هياكله ومناضليه.
الطّاهر الهمّامي في منظّمة العامل التّونسي
لقد التحق الطاهر الهمامي في منتصف السبعينات من القرن الماضي بـ”منظمة العامل التونسي” وكان وقتها يدرّس في التعليم الثانوي وينشط نقابيا صلب الاتحاد العام التونسي للشغل. وقد كان انضمامه إلى هذه المنظمة التي تتبنّى الفكر الاشتراكي نابعا عن قناعة بأنّ هذا الفكر هو الوحيد الذي يفتح أمام الطبقة العاملة والكادحين عموما باب التّحرّر من الاستغلال والاضطهاد. وكانت مواقف الفقيد من قضايا بلادنا الأساسية ومن النضال ضد الدكتاتورية واضحة منذ البداية. ففي الفترة التي التحق فيها الطاهر الهمامي بـ”منظمة العامل التونسي”، كانت هذه الأخيرة عرضة لحملة قمعية واسعة طالت غالبية مناضلاتها ومناضليها ولم يبق منهم خارج السجن سوى عدد قليل يعيش في السرية المطلقة. وقد كان لهذه الحملة القمعية تأثير سلبي في مسار المنظمة، فقد ظهر في صلبها تيار يميني يبحث عن مهادنة الدكتاتورية بعنوان مواجهة “الخطر الامبريالي الاشتراكي السوفياتي”. ولم تكن هذه التنظيرات المتأثّرة بنظرية “العوالم الثلاثة الصينية” التي تُضفي على الأنظمة العميلة للقوى الاستعمارية الغربية طابع “الوطنية” سوى غطاء للتخلي عن النضال ومهادنة الديكتاتورية الدستورية في وقت كانت فيه الحركة العمالية والنقابية في صعود، والحركة الشبابية في تطوّر مستمر، وهو ما كان يتطلّب من الحركة الثوريّة، الالتحام بهاتين الحركتين والتّفاعل معهما وتسليحهما برؤية وبرنامج واضحين، لا الاستسلام أمام أعدائهما.
لقد كان التحاق الطاهر الهمامي بـ”منظمة العامل التونسي” في ظرف صعب كالذي كانت تعيشه في منتصف السبعينات من القرن الماضي في مواجهة القمع، ليتحمّل أعباء النضال صلبها وليدافع عن خطّها الفكري والسياسي الثوري في وجه التيار اليميني الذي كان يعمل على السيطرة عليه، خطوة جريئة وشجاعة. لقد كان الفقيد ينظّم شعرا ثوريا وتقدميا يدافع فيه عن الكادحين والفقراء، وينخرط في نفس الوقت في نضالاتهم عبر الواجهة النقابية. كما كان من جهة أخرى يحضر حلقات “منظمة العامل التونسي” السرية ويساهم في بلورة المواقف من مختلف القضايا المطروحة وطنيا وعربيا ودوليا. وإلى ذلك فقد كان الطاهر الهمامي عنصر ربط بين تنظيم العامل التونسي السري، وبين المساجين السياسيين التابعين. فقد كان يوصل إليهم المراسلات والمواقف، عبر شقيقه، الرفيق حمه الهمامي، ويستلم منهم الردود الكتابية متحدّيا المخاطر الأمنية التي كانت تتهدّده. ولكنّ الفقيد كان على درجة كبيرة من اليقظة والانضباط جعلته يقوم بتلك المهمة بنجاح تام، دون ارتكاب أيّ خطإ على مدى سنوات عديدة.
الطّاهر الهمّامي في حزب العمّال
بعد خروج آخر مجموعة من مناضلي “العامل التونسي” من السجن في عام 1980 والتحاقهم مجدّدا بالتنظيم وبالنضال الميداني، بدأ التفكير بشكل جدّي في تأسيس حزب الطبقة العاملة الثوري، الماركسي اللينيني استجابة إلى متطلبات الواقع الذي شهد انفجارات اجتماعية كبرى، انتفاضة الخبز خاصة (جانفي 1984) التي كانت تحتّم بعث مثل هذا الحزب لقيادة نضال الطبقة العاملة والشعب عموما. وكان الطاهر الهمامي من بين العناصر التي قامت بدور مميّز في تأسيس حزب العمال الشيوعي التونسي (جانفي 1984). فقد ساهم من موقع متقدّم في بلورة خطه الفكري والسياسي وبرنامجه. ويعود له الفضل في إعداد وثيقة حول تاريخ الحركة النقابية، بمعية أحمد المانسي، أحد مؤسسي الحزب البارزين في ذلك الوقت. لقد كانت هذه الوثيقة الأساس لتحديد الخط النقابي الطبقي للحزب. كما كان أحد محرري برنامج الحزب. ولم يتردّد الفقيد في تحمّل المسئولية في أول لجنة مركزية للحزب.
أدّى الطاهر الهمامي كافة المهام لتي أنيطت بعهدته منذ تأسيس الحزب في جانفي 1986 إلى تاريخ وفاته في ماي 2009، على أحسن وجه. فقد عُهدت إليه مهمة محرر دائم في جريدة “صوت الشعب”، اللسان المركزي للحزب، فلم يتخلّف إلاّ نادرا ولأسباب قاهرة عن الكتابة فيها وتأثيثها بافتتاحياته وبمقالاته التحليلية في مختلف المجالات. كما كان أحد محرّري المجلة النظرية للحزب: “الشيوعي”. وقد كان الطاهر الهمامي بارعا في السجال، في الفكر والسياسة والثقافة، وساهم في محاربة أعداء الفكر الثوري من زبانية الدكتاتورية ومن الأرهاط الانتهازية المختلفة. وفي نفس الوقت لم يتوقف نشاط الفقيد الأدبي. فقد كان ينشر الدواوين الشعرية والمقالات النقدية التي يدافع فيها بشراسة عن الواقعية الاشتراكية وعن دور الأدب والفن في الرفع من وعي العمّال والكادحين والنّهوض بالوطن وتخليصه من الهيمنة الاستعمارية الجديدة. وكان صيته يتجاوز الحدود التونسية ليصل إلى البلدان المغاربية وإلى المشرق. فقد كان الفقيد مدافعا أبيّا عن القضية الفلسطينية وعن القضايا العربية العادلة. وترك كتابات تعكس وضوحا لا لبس فيه في كلّ ما يتعلق بالقضايا الوطنية والقومية. وإلى ذلك كله كان الفقيد مهتمّا بتطوّر الأوضاع الدولية وبنضال الشغيلة العالمية والشعوب المقهورة. وكان يعكس ذلك في كتاباته.
لقد كان الفقيد يناضل على واجهتين، فهو يكتب في منشورات الحزب السرية بأسماء مستعارة. وهو من ناحية ثانية لا يترك أية فرصة لاستغلال مكانته الأدبية لينشر مقالات وكتب وكراريس بشكل علني بهدف نشر الوعي الثوري والتقدّمي. وكانت له قدرة فائقة على إيصال الأفكار بأسلوب واضح وسلس ومقنع دون أن يتفطّن الرقيب إلى ذلك. لقد كان البوليس السياسي يدرك من خلال كتابات الفقيد أنّ توجّهه ثوري وأنّ مواقفه تصبّ في مواقف حزب العمّال، ولكنه لم يتمكّن أبدا من العثور على حجّة ملموسة توقع به، لذلك كان يلاحق الفقيد ويراقبه ويحاصره ويمنعه من الاتّصال بالناس، بل أغلق في وجهه، في أكثر من مناسبة، المنابر الأدبية والصحف والمجلات. وكم مرّة جنّد أزلامه من أشباه الكتاب والشعراء لمهاجمة الفقيد والتعريض به وتشويهه. ولكنّ كلّ ذلك لم يفتّ في ساعده بل كان يزيده قوّة واقتناعا بعدالة القضية التي يناضل من أجلها مع حزبه ورفيقاته ورفاقه الذين كان يحبّهم وكانوا يحبّونه. وقد ظلّ الفقيد إلى آخر لحظة من حياته متفائلا، وكانت قناعته بأنّ الثورة قادمة لا تتزعزع… وهو ما حصل بعد عام ونيف من رحيله…
إنّ الواجب يقتضي من حزبنا اليوم تجميع كلّ كتابات الطاهر الهمامي السياسية ونشرها حتى يطّلع عليها الناس ويتعرّفوا من خلالها على شخصية هذا المناضل المتميّز في أكثر من مجال وفي أكثر من واجهة.
عبد المومن بلعانس