صرّح رئيس الدولة، في خطابه الأخير بتاريخ 10 ماي، ملمّحا إلى الجبهة الشعبية، أنّ الدعوة إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية سابقة لأوانها في الوقت الحالي هي “دعوة غير مسؤولة” مضيفا أنّ من يريد الحكم عليه أن ينتظر عام 2019. ولم يكن هذا الموقف من رئيس الدولة مفاجئا، إذ لا أحد كان ينتظر منه أن يعلن فشل منظومة الحكم التي يمثّل فعليّا رأسها، ويتحمّل مسؤولية الدعوة إلى انتخابات مبكّرة. فمثل هذا الموقف يتطلّب شجاعة سياسية هي اليوم مفقودة لدى الائتلاف الحاكم ورموزه لأنّهم لا يفكّرون في مصير البلاد بقدر ما يفكّرون في مصالحهم ومصالح أتباعهم الضيّقة.
إنّ الجبهة الشعبية حين تطرح الانتخابات المبكّرة ليست منقادة بأيّ شكل من الأشكال بمصالح ذاتية، بل هي منقادة بمصلحة البلاد والشعب. إنّ الأزمة التي نعيشها اليوم، والتي أغرق فيها الائتلاف الحاكم البلاد والمجتمع، هي أزمة حكم عامة، وشاملة، سياسية واقتصادية واجتماعية، فلا الأغلبية بالبرلمان ولا الرئاسة ولا الحكومة تقدّموا ولو خطوة واحدة في معالجة هذه الأزمة بما ينهض بالبلاد ويثبّت سيرها على طريق البناء الديمقراطي ويحقّق المطالب الدنيا للشعب وعلى رأسها الشغل والتنمية، وهو ما يدفع بالبلاد نحو الانهيار والإفلاس ويجعل منها لقمة سائغة للقوى الاستعمارية ومؤسساتها المالية النهّابة ويعرّض أمنها للخطر ولا يجد الائتلاف الحاكم من مخرج من هذا الوضع غير التّسريع في نسق الالتفاف على الحريات التي افتكّها الشعب بدمه والتهديد بالعسكرة الخ…
لقد أدّى هذا الوضع إلى خروج الناس إلى الشارع وإلى ازدياد وتيرة التحركات الاحتجاجية في عدّة جهات (تطاوين، القيروان، الكاف، قفصة، قبلي الخ…) وقطاعات رفضا لتفاقم البطالة والفقر والتهميش والفساد وتدهور المقدرة الشرائية وتردّي الخدمات الاجتماعية، ولم تجد نفعا محاولات إخماد هذه التحركات سواء عبر الكذب والتسويف أو عبر القمع، وقد قوبل العديد من وزراء حكومة الشاهد بشعار:”ديقاج” في أكثر من جهة. وما من شكّ في أنّ الغضب الشعبي مرشّح للازدياد لا لشيء إلاّ لكون الائتلاف الحاكم لا يحمل في جرابه حلولا جديّة لمشاكل الشعب والبلاد وهو المتورّط حتى النخاع في خدمة مصالح المافيات ولوبيات الفساد والتهريب وهو ما يؤشّر لمزيد تأزّم الأوضاع لا لانفراجها في وضع إقليمي ودولي هو ذاته غير مناسب.
في وضع كهذا لا يمكن للجبهة الشعبية وللقوى الديمقراطية والتقدّمية أن تبقى مكتوفة الأيدي، فلا بدّ من حلّ سياسي لمواجهة الوضع. إنّ البلاد في حاجة إلى اختيارات وسياسات تنقذها من الانهيار والإفلاس في أسرع وقت. وتمثّل العودة إلى الناخبين آلية ديمقراطية في هذا الصّدد حتّى يُستشاروا من جديد. وليس صحيحا أنّ مثل هذا الحلّ من شأنه أن يغذّي عدم الاستقرار، فعدم الاستقرار واقع اليوم وهو ناجم عن السياسات الفاشلة التي ينتهجها الائتلاف الحاكم والتي تُعرّض البلد والمجتمع إلى التمزّق وما الدعوة إلى انتخابات مبكّرة إلا سعيا إلى تجاوز هذا الوضع. كما أنّه ليس صحيحا أنّ الانتخابات المبكّرة ستكون مكلفة مادّيا وسياسيّا لأنّ استمرار الوضع على ما هو عليه حتى عام 2019 موعد الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة القادمة ستكون كلفته أكبر على البلاد اقتصاديّا واجتماعيّا وسياسيّا وأمنيّا.
ويتساءل البعض إن كانت هذه الانتخابات المبكّرة ستحلّ المشكل فقد تؤدّي إلى نفس النتيجة أي إلى عودة “النداء ـ النهضة” بما لديهم من إمكانيات مادية ومن سيطرة على الإعلام والإدارة، وبالتالي بما لديهم من قدرة على المغالطة وحتى على تزوير إرادة الناخبين. إنّ هذا ممكن. ولكنّه لا يدعو إلى الاستكانة والرضوخ للأمر المقضي، فلا بدّ من طرح الحلّ السياسي السليم في الوقت المناسب والعمل بجدّ على تحقيقه، فإن كانت النتيجة مناسبة فذلك انتصار وخطوة مهمّة في المسار الثوري، وإن كانت غير مناسبة سواء لتأخّر في الوعي أو لتزوير لإرادة الناخبين بشكل فجّ أو عن طريق المال وشراء الذمم، فإنّ العملية ستشكّل تراكما مهمّا في المسار الثوري والديمقراطي وتجعل الطبقات والفئات الكادحة تقتنع أكثر فأكثر بأنّ الحل لمشاكلها وتحقيق آمالها وطموحاتها ليس عند الأحزاب والقوى السياسية الرجعية التي تحتال عليها وإنّما هو عند الجبهة الشعبية والقوى التقدمية.
ولكن الانتخابات الرئاسية والتشريعية المبكّرة قد تجد اعتراضا عليها أيضا لدى عدد من أنصار الجبهة ونصيراتها وحجّتهم على ذلك أنّ الجبهة قد لا تكون على استعداد خوض هذه الانتخابات. إنّ الأمور لا تُطرح بهذه الطريقة. فالجبهة الشعبية حين تبحث عن حلّ للبلاد فهي تنطلق من تحليل موضوعي وملموس للواقع، لا من رغباتها هي ولا من مدى جاهزيّتها، وهي تكيّف نفسها وأوضاعها حسب ما يقتضيه ذلك الحلّ وليس العكس، فالواقع يتطوّر باستمرار ولا ينتظر من الجبهة أن تكون مستعدّة أو غير مستعدّة، بل عليها هي أن تحفز أمرها وتتأقلم بالسرعة المطلوبة مع الواقع وتطوّراته وإلاّ فإنها ستهمّش وستقتنص قوى أخرى انتهازية ومعادية للشعب الفرصة وتوظّفها لصالحها. وفوق ذلك كلّه فليس صحيحا أنّ الوضع غير موات للجبهة، فالناس في مختلف الجهات والقطاعات يسألون: أين الجبهة، وماذا تطرح لمعالجة الأزمة؟ والمشكل كلّه في مناضلات الجبهة ومناضليها الذين لا يتحمّلون مسؤوليتهم ويتذرّعون دائما بالظروف الموضوعية وبتأخّر وعي الجماهير حتى يبرّروا خمولهم.
إنّ الوضع موات لإنقاذ المسار الثوري، فلنتحمّل مسؤوليتنا ولا نترك المجال للقوى الرجعية كي تلتفّ نهائيّا على المسار الثوري وتُعيد إنتاج منظومة الاستبداد والفساد.