بقلم مصطفى القلعي: كاتب وباحث سياسي تونسي
تُعتبر التّعديلات الوزاريّة ظاهرة عاديّة في الأنظمة الدّيمقراطيّة لاسيّما في الحكومات الائتلافيّة التي تشارك فيها أطراف متعدّدة والتي تكون قائمة على التّرشيحات القبليّة للأحزاب وعلى الاطّلاع الآلي على السِّيَر الذاتيّة للمرشّحين للحقائب من قِبل أحزابهم أو بصفة فرديّة. والغاية المعلنة من التّعديل الوزاري دائما هي البحث عن الحدّ الأقصى من الانسجام الحكومي بما يُمكّن من ضمان شروط تحقيق البرامج المتّفق عليها وإدارة الشأن العام بحكمة والحفاظ على المصلحة العليا للوطن.
ولقد حدثت التّعديلات وبصورة متواترة في مختلف الحكومات التي تداولت على حكم تونس بعد 14 جانفي 2011. فحكومة حبيب الصيد، وهي الحكومة الأولى التي حكمت بعد انتخابات 2014، عرفت إعفاء وزاريّا واحدا تعلّق بوزير العدل محمد صالح بن عيسى في أكتوبر 2015 بسبب مُعلنٍ، هو عدم التزامه بالموقف الحكومي من قانون المجلس الأعلى للقضاء وقتها، وسبب خفيّ هو تعاطيه المسؤول مع ملفّ اغتيال الشهيد شكري بلعيد، وكان ذلك ستّة أشهر بعد التعديل الوزاري الكبير الذي وقع في فيفري 2015 والذي أدخل فيه الصّيد تعديلات كبيرة على هيكلة حكومته حيث ألغى كلّ كتابات الدولة وحذف وزاراتٍ ودَمَج أخرى واستحدث ثالثة.
ورغم صغر سنّها وحداثة عهدها بالحكم، شهدت حكومة يوسف الشاهد في تونس تحويرين وزاريين تمّ أثناءهما إعفاء أربعة وزراء. فعمر هذه الحكومة يتجاوز اليوم الثّمانية أشهر بقليل إذ هي سليلة اتّفاق قرطاج الذي دعا له رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي وتمّ توقيعه في جويلية 2016 من قبل أحزاب سياسيّة أهمّها حزبا نداء تونس وحركة النهضة، وثلاث منظّمات وطنيّة كبرى هي الاتّحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين.
ونالت حكومة الشاهد التي سمّيت حكومة وحدة وطنية الثّقة في 27 أوت 2016 من مجلس نوّاب الشعب بأغلبيّة 167 صوتا من 217. وللتّذكير فإنّ الجبهة الشعبيّة كانت صاحبة الموقف الأوضح حين التبست الرّؤى على الجميع أمام الرّجم الإعلامي الذي تعرّض إليه المجتمع السياسي التونسي باستعمال أساليب أخلاقويّة تمثّلت في المزايدة بشعارات مفرغة من محتوياتها مثل المصلحة الوطنيّة والوحدة الوطنيّة لإرغام الجميع على الهرولة إلى قرطاج حتى يتجنّبوا الفخاخ الإعلاميّة التي نصبت لهم.
وكانت الجبهة قد رفضت التّوقيع على اتّفاق قرطاج معلّلة موقفها بأنّ الاتّفاق يهدف إلى مدّ
قصبة النّجاة إلى الائتلاف الحاكم لإطالة عمر حكمه، من جهة، وإرضاء صندوق النقد الدولي بتنفيذ طلباته المعروفة والتي احترز من جلّها حبيب الصيد. كما رفضت الكتلة النيابيّة للجبهة الشعبيّة منح ثقتها لحكومة الشاهد. وتحتفظ الذّاكرة التونسيّة بمداخلات عظيمة لنوّاب الجبهة مثل عمّار عمروسيّة وهيكل بلقاسم وزياد لخضر ومنجي الرحوي وأحمد الصدّيق ومباركة عواينيّة براهمي.
والملاحظ أنّ الإعفاءات في حكومة الشاهد، والتي تبرهن عن تصدّع سريع إذ أنّها لم تكمل التعارف بين أعضائها، طالت حقائب مختلفة هي الشؤون الدينية وكتابة الدولة للتجارة ثمّ الوظيفة العموميّة والحوكمة فالماليّة والتّربية. أمّا الوزراء المعفيّون فهم إمّا من المستقلّين مثل وزير الشّؤون الدّينيّة عبد الجليل بن سالم ووزيرة الماليّة لمياء الزريبي ووزير الوظيفة العمومية والحوكمة عبيد البريكي وإمّا من المنتمين إلى حزب نداء تونس الحاكم مثل كاتب الدولة للتجارة فيصل الحفيان ووزير التربية ناجي جلول.
والغريب أنّ الإعفاءات بدأت منذ 4 نوفمبر 2016، أي بعد شهر ونيف من مباشرة الحكومة عملها، وكان أوّل المعفيّين وزير الشؤون الدينية عبد الجليل بن سالم “لعدم احترامه لضوابط العمل الحكومي وتصريحاته التي مسّت بمبادئ وثوابت الدّبلوماسيّة التّونسيّة” حسب بيان رئاسة الحكومة.
وبقيت وزارة الشؤون الدّينيّة بلا وزير، كُلّف وزير العدل بتسييرها بالنيابة إلى موفّى فيفري 2017 حيث أعفي كاتب الدولة للتجارة فيصل الحفيان، الذي كان يشغل خطّة مستشار برئاسة الجمهورية قبل تعيينه عضوا في حكومة الشاهد، ووزير الوظيفة العمومية والحوكمة عبيد البريكي من مهامّهما. وبعدها أعلن رئيس الحكومة عن تعديل وزاري تمّ بموجبه سدّ الشّغور الحاصل في حقيبة الشّؤون الدّينيّة فيما ألغيت وزارة الوظيفة العموميّة والحكومة وألحقت إدارة عامّة برئاسة الحكومة.
وجاء الإعفاء الثّاني قويّا حيث تعلّق بحقيبتين مهمّتين هما الماليّة والتّربية. ولم يتفاجأ التّونسيّون بإعفاء وزيرة المالية لمياء الزريبي لاسيّما بعد خطئها الاتّصالي الفادح المتمثّل في تصريحاتها الكارثيّة حول انزلاق الدّينار التّونسي في مرحلة صعبة جدّا تمرّ بها تونس لاسيّما والحكومة تصارع من أجل إقناع صندوق النّقد الدّولي بضخّ القسط الثاني من القرض الائتماني الممنوح لتونس والذي تأخّر وأثّر بشكل كبير على التّوازنات الماليّة التونسيّة وعلى الاستقرار المصرفي.
بينما كان إعفاء وزير التربية ناجي جلول مثار جدل كبير في تونس إذ لم يتوقف الوزير المُقال عن ترديد كونه يحظى بدعم رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية وحزبه نداء تونس وشريكه في الحكم حركة النهضة.
وكان العامل الحاسم في التقييم السّلبي لرئيس الحكومة المتعلّق بوزير التربية هو صدامه المفتوح مع نقابات التعليم وقطع التّواصل بينه وبينها بما أثّر سلبيّا على المناخ التّربوي والاجتماعي في تونس، إذ أنّ التربية والتعليم شأن يهمّ التّونسيّين جميعا بلا استثناء.
وللتّذكير فإنّ وزير التربية حافظ على حقيبته منذ حكومة حبيب الصيد التي سُحبت منها الثّقة وتولّت حكومة الوحدة الوطنيّة إدارة شؤون البلد بدلا عنها. ورغم العلاقة الصدامية الاستفزازية للوزير المذكور مع نقابات التعليم وتعطّل مرفق التربية في عهده تمسّك به رئيس الحكومة الجديدة يوسف الشاهد وفي الحقيبة نفسها. وهو ما كان يشكّل خطرا على حكومة الوحدة الوطنية التي انضمّ إليها الاتحاد العام التونسي للشغل ووقّع على اتّفاق قرطاج. ولعلّه كان من الأجدى الحرص على هذه الوحدة الوطنيّة منذ البداية وإسناد حقيبة التربية إلى شخصيّة أخرى غير صداميّة تتحلّى بالهدوء والرّصانة والقدرة على التّفاوض مع النقابات.
ورغم أنّ إعفاءات أعضاء الحكومة المتحزّبين طالت وزراء حزب نداء تونس فإنّها مرّت بهدوء وسلاسة ودون أيّ تعليق من حزب الرؤساء الثلاثة بما يعني أنّ هناك تنسيقا بينهم في اتخاذ قرارات الإعفاء والتعديل أملا في تحصين الحكومة من التصدّعات لاسيما وهي تواجه وضعا اجتماعيا متفجّرا في مناطق متعدّدة من الشمال إلى الجنوب يتطلّب حلولا لا تملكها حكومة الشاهد ولا الائتلاف الحزبي الذي يدعمها.
واليوم هناك إشارات على أنّ تقييم قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل لأداء الحكومة وللوضع العام في تونس سلبي جدّا. فحكومة الشاهد وُلدت تحت عباءة شعار الوحدة الوطنيّة تحتمي به رغم أنّها كانت منذ البداية مفرغة من كلّ المقوّمات الفعليّة التي يحتاج إليها تأكيد هذا الاسم على مسمّاه. وظلّ الاسم غير منطبق على مسمّاه ولم تنجح الحكومة حتّى في تذكير التّونسيّين باسمها.
إنّ وتيرة الإعفاءات لأعضاء الحكومة غير مريحة وتدفع إلى مراجعة مسار تشكّلها الذي يمكّن من اعتبار جميع من وقّعوا على اتّفاق قرطاج بما فيهم اتّحاد الشّغل مسؤولين عن هذه الحكومة المتصدّعة وأدائها الهزيل المرتبك اللّامسؤول. إنّ شعار الوحدة الوطنيّة كان شعارا خارجيّا بين الأحزاب دون أن تتبنّاه فعلا وإنّما فرضه عليهم رئيس الجمهورية فقبلوه. بينما أعضاء الحكومة لا علاقة لهم بهذا الشعار ولا حتى بالحكومة التي دُعِيُوا للمشاركة فيها. فتسلمّوا مفاتيح حقائب شرعوا في إدارتها كما عنّ لهم الخاطر. وكلّ وحساباته وولاءاته.
طبعا لم يسمع أحد رأي الجبهة الشعبية حول الأخطاء التي شابت مسار تشكيل حكومة الوحدة الوطنية وحول مفهوم الوحدة الوطنية نفسه الذي أفرغ من محتواه. ولم يكن أكثر من شعار أخلاقي أجوف لرجم الخصوم والرّافضين والنّاقدين تمّ تعويمه في المغالطات والنّوايا بلا برامج ولا رؤى ولا بدائل حقيقيّة، وإنّما الغاية منه فقط هو التّرويج الإعلامي للداخل والخارج لاسيما المانحين الذي أغلقوا حنفيّة القروض حتى جفّت حلوق الطّامعين.
لقد وُلدت حكومة الشاهد عرجاء ضعيفة تفتقد للتّجانس والتّضافر والتّضامن والكفاءة والدّراية بالحقائب والرّؤيا العميقة والقدرة على إدارة الملفّات وإيجاد الحلول. وغرقت الحكومة في ذاتها تحرص على صورتها الخارجيّة ويحرص رئيسها على إبعاد كلّ عضو فيها يقدّر أنّه لا يخدمها. فتواترت الإعفاءات وبهذا المقياس فإنّ ربع الحكومة على الأقلّ يجب أن يغادر مثل وزيرة الشباب والرياضة ووزير الشؤون المحليّة والبيئة ووزير الصناعة والتجارة…إلخ
ماذا سيبقى في هذه الحكومة بهذا المقياس؟ سيبقى فقط رئيسها يعفي أعضاء ويعيّن آخرين بمباركة رئيس الجمهورية، ولكن إلى متى والأوضاع تزداد تعفّنا وتضيع مصالح التّونسيّين وتشتدّ وتيرة الاحتجاجات وتزداد رقعتها توسّعا؟ بينما الحكومة منشغلة بضعفها تعالجه وبوزرائها الأغرار تنهرهم وتنهاهم وتُقيلهم. وهل يعدّ الاتحاد العام التونسي للشغل لمبادرة إنقاذ؟ وما هو موقع الجبهة الشعبية في المرحلة المقبلة؟ خاصّة وقد تبيّن، بعد خطاب رئيس الجمهورية أمس، أنّه لا جديد لدى الفريق الحاكم غير المغالطة والتهديد بالعصا؟