للمرة الثالثة على التوالي تحاول المنظومة الحاكمة بقيادة رئاسة الجمهورية تمرير ما يسمّى بـ”قانون المصالحة الاقتصادية والمالية”، متجاهلة الرفض القطعي له من قبل القوى الشعبية والسياسية التي أبدت مقاومة شرسة ضدّه وأطاحت به في المرّتين السّابقتين. وكما في كل مرّة تنشط المنابر الإعلامية عبر ترسانة من المرتزقة للدّعاية لهذا القانون طبقا لخطّة تبييض الفساد التي صُمِّمت من قبل أشباه خبراء في المجالين الاقتصادي والقانوني ضالعين في أمور التّلاعب بالأرقام والمعطيات والعقول.
العفو على الفاسدين يتصدّر اهتمامات رئيس الدّولة
يبدو أنّ الهمّ الوحيد والأوحد لرئيس الجمهورية هو “المصالحة” مع الفاسدين وليست الصلاحيّات التي حدّدها له الدستور على غرار ضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والأمن القومي المتعلّق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية وكذلك العلاقات الخارجية. فلا الأمن أُصلح ولا الديبلوماسية تحسّنت، حيث ماتزال الجماعات الإرهابية تمارس نشاطها وحدود البلاد غير آمنة والسياسة الخارجية تئنّ تحت وطأة الفضائح والخيبات المتلاحقة بسبب تعيين ذوي القربى وعديمي الكفاءة على رأس البعثات الديبلوماسيّة والقنصلية.
إذا الهاجس الوحيد لساكن قرطاج هو العفو على رموز الفساد في المنظومة القديمة باسم “المصالحة الوطنية ورفض الإقصاء والتشفّي”. وهنا تكمن المغالطة، إذ أنّ منظومة العدالة الانتقالية المتمثّلة في هيئة الحقيقة والكرامة تهدف إلى المصالحة الحقيقية القائمة على مبدإ إرجاع الحقوق إلى أصحابها عبر المكاشفة والمصارحة والمحاسبة وجبر الضّرر، بعيدا عن أيّ نيّة في الانتقام بل فقط لتنقية الأجواء وإعادة الثقة بين التونسيين.
وللتذكير فإنّ هذه الهيئة التي يأبون الاعتراف بها ويريدون تجاوزها بإحداث لجنة موازية هم من منحوها الثّقة في البرلمان وليس الجبهة الشعبية التي كانت قد عبّرت صراحة عن رفضها القطعي لمبدإ المحاصصة التي قامت عليها وصوّتت ضدّ تركيبتها.
أصحاب هذا المشروع الرئاسي يعتمدون على جملة من الغالطات القانونية من أهمّها الوقوف عند ويل للمصلّين فيما يتعلّق بتقرير “لجنة فينيز” حيث أنهم يكتفون بالإشارة بإقرارها بإمكانية تعدّد الهياكل في إطار منظومة العدالة الانتقالية، في حين أنهم يتجاهلون الشّرط الذي وضعته اللّجنة لذلك ألا وهو التمشّي الذي أشرنا إليه والذي يبدأ بالمكاشفة وينتهي بجبر الضّرر حتى نفهم ونستوعب كيفيّة اشتغال منظومة الفساد ونتمكّن بالتالي من تفكيكها وضمان عدم عودتها من جديد. إنّ قانونهم لا يشمل الضّحايا بما فيهم الدولة التي لا يمكنها مساءلة من أضرّوا بمصالحها بل يقتصر على الفاسدين الذين يمكنهم إيقاف التتبّعات القضائية ضدّهم بمجرّد تقديم مطلب صلح إلى لجنة المصالحة التي يعتزمون إحداثها برئاسة الحكومة.
مغالطات قانونيّة واقتصاديّة
المغالطة القانونية الأخرى تتمثل في التلاعب بمبدأ التقادم الذي يتمّ بمقتضاه إسقاط الدعوى الجنائية بعد مرور مدّة معيّنة على ارتكاب الجريمة وكأنه كان من الممكن مقاضاة الفاسدين في ظلّ النظام الدكتاتوري البائد. هنا تتّضح نواياهم الخبيثة أكثر إذ أنهم يريدون تمتيع المجرمين في حقّ الوطن والشعب بامتياز قانوني دون وجه حق في حين أنهم يدركون تمام الإدراك أنّ الغاية من إرساء هذا المبدأ هي حماية المصلحة العامة. وبناء على ذلك فإنّ جرائمهم لا تسقط بالتقادم لأنّ في ذلك مساسا بهذه المصلحة بل وتهديدا لها. إلى جانب هذه المغالطات القانونية هنالك مغالطات اقتصادية ومالية يتعمّد مستخدموها من خلالها الإيهام بالجدوى التي يوفّرها “قانون المصالحة” في هذين المجالين، مدّعين أنّ العفو على هؤلاء الفاسدسن سوف يفسح المجال لاستثمارات جديدة كما أنه سيمكّن من ضخّ أموال ضخمة في السوق وبالتالي دفع عجلة الاقتصاد. كيف لهم أن يدّعوا ذلك والحال أنهم لا يعرفون قيمة هذه المبالغ إلاّ إذا كانوا ضالعين في الجريمة. من جهة ثانية كيف لعدد قليل من “رجال الأعمال” الفاسدين، حسب تقديراتهم، أن يعطي دفعة قوية للاقتصاد في حين أنّ الأغلبية السّاحقة من هؤلاء الذين لا تلتصق بهم تهمة الفساد عجزت عن القيام بذلك؟
الأنكى من هذا كلّه هو التعامل مع جرائم الصّرف، حيث يقع تخطية مقترفي الجريمة المالية بنسبة 5 % فقط من المبالغ التي يصرّحون بها ودون التّثبّت من صحّتها، أي أنه يتمّ تمتيعهم من إعفاء ضريبي بنسبة % 25 بما أنّ رجال الأعمال غير مورّطين يخضعون إلى ضريبة تقدّر بـ30 %، وبالتالي تتمّ مكافأة الفاسدين ومعاقبة غير الفاسدين. ففي الوقت الذي يدّعي فيه رئيس الحكومة محاربة الفساد من خلال إطلاق وعود للاستهلاك الإعلامي لا غير يطلّ علينا من جديد رئيس الجمهورية بمشروع قانون العفو عن الفاسدين لتكريس سياسة الإفلات من العقاب والالتفاف على مسار العدالة الانتقالية وبالتالي تمكين المنظومة القديمة من العودة بكامل طواقمها. هذا التّوجّه أصبح أكثر وضوحا في خطابه الأخير أين تجاهل تماما مسألة الفساد التي لم يأت على ذكرها لا من قريب ولا من بعيد.
صفقة الائتلاف الحاكم لن تصمد أمام الإرادة الشّعبيّة
إنّ هذا التسرّع يعكس ارتباك السّبسي وجماعته، فعلاوة على مصلحته الشّخصية في تمرير هذا القانون بحكم تورّطه هو وأخوه في الاستيلاء على الأموال المصادرة لصهر الرّئيس المخلوع، سليم شيبوب، فإنه مُحرج أمام هؤلاء الفاسدين الذين موّلوا حملته الانتخابية الفارطة وقد يتخلّوا عنه في المواعيد القادمة خصوصا منها الانتخابات البلدية التي هي على الأبواب إن لم يردّ لهم “الجميل” في أقرب وقت وقبل انقضاء الآجال المذكورة.
إلى جانب كلّ ذلك هنالك حركة النهضة التي تناور كالعادة بخطابها المزدوج بما أنّ مجلس شورتها قرّر عدم التصويت لفائدة “قانون المصالحة” في صيغته الحالية وطالب بإدخال تغييرات عليه للقبول به. هذا الموقف المراوغ ليس مفاجئا ولا جديدا في أيّ من مفرداته حيث أنّ جزءا منه موجّه إلى قواعدها التي تعترض على هذا القانون قصد طمأنتها، أمّا الجزء الثاني فهو موجّه إلى شريكها في الائتلاف الحاكم في شكل مقايضة: المصالحة مع الفاسدين من نظام بن علي مقابل غضّ الطرف عن فساد وجرائم الترويكا وكذلك عودة “التّائبين” العائدين من بؤر التوتّر في إطار ما يسمّى بـ”المصالحة الشاملة”.
لقد أساء السّبسي اختيار التّوقيت كعادته، ففي المرّة الأولى التي عرض فيها مشروعه كانت البلاد تعيش على وقع عملية إرهابية نوعية لم تعرف لها مثيلا في تاريخها المعاصر هزّت أركان العاصمة باستهدافها المتحف الوطني بباردو، محاولا من خلال ذلك استغلال هرع وصدمة التونسيّين الذين استفاقوا سريعا وأطاحوا بمشروعه. وفي هذه المرّة ها أنه يتجاهل الأزمة الاجتماعية الحادّة التي تعيشها البلاد من جرّاء مواصلة الحكومات المتعاقبة انتهاج نفس الخيارات القديمة واستشراء الفساد. لكنّه لن يمرّ كما عبّرت عنه حركة “مانيش مسامح” وقوى المعارضة السياسية بقيادة الجبهة الشعبية يوم السّبت الماضي في وسط العاصمة، وسوف يسقط في هذه الجولة أيضا كما سقط في الجولتين الماضيتين حتى وإن اتّفق طرفاّ الائتلاف الحاكم، النداء والنهضة، على إبرام الصفقة. لن يصمدا مهما فعلا أمام إصرار وعزيمة الشارع، الفضاء الحقيقي لممارسة الديمقراطية، فصراع الحلبة يستوجب طول النفس. والتحلّي بالصبر والإرادة خصال لا تتوفّر إلاّ لأصحاب الحقّ والقضايا العادلة…
فوزي القصيبي