الرّأسماليّة المتوحّشة ليست مجرّد آليّات اقتصادية تضمن للفئة النّاهبة تحقيق فوائض في الأرباح على حساب مجهودات الفئة المنهوبة. هي تتجاوز هذا الإطار الاقتصادي البحت لتكتسح كلّ زوايا حياة المجتمعات، فترسم لنفسها بذلك نظاما شاملا يتمازج فيه الثّقافيّ بالسياسيّ والاجتماعي تحقيقا للمنفعة الاقتصادية الضيّقة وغير المشروعة المتمثّلة في مراكمة فائض القيمة داخل خزائن المجموعات النّاهبة لمجهود وذكاء بقيّة المجتمع الكادح.
ولذلك تحتاج الرّأسماليّة المتوحّشة إلى ساسة ينفّذون أجندتها ويقمعون المتصدّين لها وإلى دعاية تجمّل نظامها وتشوّه المعترضين عليه. هذا ما أصبحنا نراه بأمّ العين واضحا جليّا لا لبس فيه في تونس اليوم. فبعد أن خسرت الرّأسماليّة المتوحّشة نظامها الدّيكتاتوريّ النّمطيّ بهروب بن علي إثر اندلاع ثورة 17 ديسمبر، عملت على صياغة نظام -جديد في شكله قديم في مضمونه- وضع صلب عينيه ضرورة مراعاة المعايير الشّكليّة لواقع الحريّة الذي فرضه الشّعب التونسيّ على الجميع.
وطبعا كما هو واضح من الأسطر أعلاه، فإنّ الرّأسماليّة المتوحّشة لن تمضي إلى مراعاة المعايير الأصيلة والصّميمة للحريّة، فهي عدوّتها الأولى والأزليّة. ولن يأتي على الإنسانيّة يوم نرى فيه تصالحا بين الرّأسماليّة المتوحّشة والحريّة الحقيقيّة بمفهومها الشّامل والصّميم. فكلاهما ينفي الآخر ويتضادّ معه. ولكنّ ميزة الرّأسماليّة المتوحّشة تكمن في إحساسها باللّحظة التّاريخيّة وإتقانها أساليب التّعامل معها اندفاعا أو تراجعا بما يخدم أجندتها العامّة والمستمرّة في معاداة الحريّة والعمل على القضاء عليها. فالنّاهب لمجهودات وذكاء غيره لا يرتاح إلاّ في البيئة المظلمة، تلك التّي تغطّي وتستر تحرّكاته اللّصوصيّة. وليست الحريّة في مفهومها الصّميم غير ضوء يكشف كلّ ما يقع عليه. وهنا يأتي دور السّاسة وأبواق الدّعاية.
فإذا كانت حريّة التّعبير أمرا واقعا في تونس بعد اندلاع الثّورة واستمرار مسارها، فإنّ الرّأسماليّة المتوحّشة رسكلت نفسها بسرعة وأرسلت جنودها يقتحمون الأحزاب والجمعيّات في مغلب أطيافها. وصدّرت أبواقها لتركب أمواج الإذاعات والبث التلفزيونيّ وتكتسح شبكات التّواصل الاجتماعي. وهي عن طريق آليّة حريّة التّعبير تحارب فكرة الحريّة نفسها. ولعلّ ما نشهده هذه الأيّام من تعامل فجّ لوسائل الإعلام مع التّظاهرات والتحرّكات الشّعبيّة في تطاوين، يمثّل درسا علينا الاستفادة منه قبل فوات الأوان. فقد خرجت الجماهير بأعداد غفيرة لتملأ شوارع تطاوين وساحاتها تنديدا بالسيّاسة الظّالمة لتحالف النّهضة والنّداء تجاه غالبيّة أبناء وبنات تونس في تطاوين وغيرها.
فكان التّعامل الإعلاميّ الغالب تجاه هذه التّحرّكات مازجا بين التّجاهل التّام والتّهكّم. وتقريبا لم يلتفت بجديّة إلى هذه التّحرّكات إلاّ النّاشطين العاديّين صلب شبكات التواصل الاجتماعي والمجموعات المشكّلة لـحملة “مانيش مسامح” وبعض الحساسيّات السياسيّة المعارضة مثل الجبهة الشّعبيّة. أمّا أصحاب السّطوة الإعلاميّة فلا حديث لهم أثناء تلك الفترة إلاّ عماّ يجمّل ممارسات السّلطة و”يعقلن” تجاوزاتها بل ويروّج لفكرة التّصالح مع الفاسدين واعتبارهم محرّكا لا غنى عنه للتطوّر الاقتصادي.
هذه الأبواق المجمّلة للمافيا والمطبّعة معها، تنقلب بعنف إلى جنرالات تعلن الحرب على الوعي الشّعبيّ الجمعيّ حين يمسّ جوهر مشكل السّيادة الوطنيّة…حين يمسّ موضوع الثّروات الوطنيّة ويطرح على نفسه مهمّة كشفه عاريا شفّافا أمام الجميع. هنا انتبهت الدّعاية الرّأسماليّة المتوحّشة إلى التحرّكات الشّعبيّة في تطاوين، وهنا أصبحت تطاوين شغلها الشّاغل تُعمل فيها كلّ خناجر التّشويه وترميها بكلّ سهام التّخريب الإعلاميّ. فعندما تحوّلت الجماهير إلى الكامور أين ينتصب الاحتلال الرّأسماليّ الأجنبيّ لثرواتنا، هبّت “النّخبة الإعلاميّة” للاحتكارات معلنة حرب “البروباقاندا” الشّاملة على النّاشطين هناك وعلى كلّ من يؤيّدهم. أمّا أسلوب الحرب فمعروف: حديث مصطنع مركّب عن الوطنيّة وعن وحدة البلاد وعن نهضتها التّي تقتضي أن يصمت الشّعب عند بعض المواضع وأن يدرك أنّ هناك محرّمات تصيب البلاد بلعنتها إن تجرّأ طرف على تجاوزها.
لا أحد ضمن هذه الأبواق تحدّث عن قوانين الماليّة المتعاقبة التّي شرّعت آليّات تفقير الفقراء والمتوسّطين في مقابل مزيد ملء خزائن الأقليّة تحت ذريعة التّشجيع على الاستثمار. لا أحد منهم تساءل بجديّة عن مغزى تقنين عدم الكشف عن الاتفاقات المبرمة بين الدّولة التونسيّة والشّركات العالميّة المستخرجة للمحروقات في بلدنا صلب مجلّة المحروقات التّي تمّت المصادقة على تنقيحاتها تحت قبّة البرلمان خلال الأيّام القليلة الماضية. لا أحد من هؤلاء تساءل ولو همسا عن الأسباب الحقيقيّة والمؤلمة التّي جعلت آلاف النّاس يخرجون في مختلف شوارع مناطقنا الدّاخليّة خلال الشّهر الماضي وهذا الشّهر. لم يتجاوبوا مع آلام النّاس بل وفي كثير من الأحيان تهكّموا عليها ونسبوها إلى ما يسمّونه بغريزة الخمول التّي “غزت شّعب بعد الثّورة” وبأنّها مموّلة بالمال الفاسد وبالدّعم الإرهابيّ…هكذا!
أمّا اليوم، وبعد أن ارتقى الوعي الشّعبيّ إلى درجة الفعل المؤثّر والمؤلم للرأسماليّة العالميّة ومن يمثّلها من النّاهبين في تونس، أطلقت “النّخبة الإعلاميةّ” صرخة ألم مدويّة تعبّر عن صرخة الألم التّي أطلقتها قبلها الاحتكارات التّي بدأت ترتعب من سطوة هذا الشّعب ومن وعيه الذّي أخذ ينمو بشكل لم ينتبهوا إليه إلاّ بعد فوات الأوان.
الدّرس من كلّ هذا، هو أنّ طليعة هذا الشّعب الكادح يجب أن تواجه هذه الحرب الإعلاميّة بحرب مماثلة لها في القوّة والعنفوان. وإذا لم نفهم بأنّ أوان المواجهة قد حان، نكون قد فوّتنا على أنفسنا فرصة استيعاب الدّرس مرّة أخرى. علينا أن نفضح من يتّهم التحرّكات في تطاوين بأنّه هو وليس غيره من سوّق لتجميل رعاة الإرهاب وتطبيع التّعامل معه. وهو وليس غيره من ساهم في تجميل الحملات الانتخابية لرؤوس المافيا التّي قامت على نثر المال الفاسد على رؤوس النّاخبين تحضيرا للانقضاض على السّلطة والاستئثار بأموال الشّعب كلّه في مرحلة لاحقة. هو ذاته الذّي يتعاطى مع باروانت التّهريب وسادة الاقتصاد الموازي، “أعوان الإرهابيّين”، ويستقبلهم في منابره الإعلامية ويقدّمهم للشّعب على أنّهم ساسة هذه المرحلة ورجالات ونساء تونس الجديدة.
علينا أن نعلن الحرب الإعلاميّة الشّاملة على هؤلاء في مواقعنا الاجتماعية وفي كلّ مساحة إعلاميّة تفتح أمامنا ولو بزوايا ضيّقة. وهذا ما يجب أن تضطلع به الجبهة الشّعبيّة عن طريق هياكلها المختصّة وتنتصب مدافعا شرسا عن جماهيرنا المحتجّة في تطاوين وغيرها بعد أن تتجاوز نقائصها وهناتها لترتمي في خنادق المواجهة…خنادق الشّعب المضطهد.
وليد سلامة