جيلاني الهمامي
عاش الرأي التونسي في الأيام الأخيرة على وقع حملة دعائية روّجت من خلالها السلطة – سواء عن طريق بعض أعضاء الحكومة أو بعض أبواق الدعاية – للتّحسّن النسبي في الأوضاع الاقتصادية وخاصة نسبة النمو المسجّلة خلال الثلاثية الأولى من السنة الجارية 2017. وكان الباجي قائد السبسي أوّل من أعطى إشارة الانطلاق لهذه الحملة في خطابه “التاريخي” ليوم 10 ماي الماضي. ولأنّ قضايا الاقتصاد والأرقام كانت ومازالت من المواضيع التي يصعب على الرأي العام الشعبي فكّ طلاسمها فقد أُريد للحملة الأخيرة تضليل الشعب التونسي بتقديم نسبة النمو المُروّج لها 2.1 % على أنها فعلا بداية الخروج من الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد منذ مدة طويلة. والحقيقة أنّ وراء هذا الرقم أكاذيب كثيرة ومراوغات نحاول فيما يلي كشف زيفها وإنارة التونسيّات والتونسيّين بحقيقة هذه النسبة وحدودها وبحقيقة الوضع الاقتصادي الحالي في بلادنا ككل.
منهجية المغالطة
أعلنت الدوائر الإحصائية الرسمية أنّ اقتصادنا حقّق نسبة نمو بـ2.1 % خلال الثلاثية الأولى من السنة الجارية مقارنة بنفس المدة من السنة الماضية. وهي تريد أن تنشر في أذهان التونسيين أنّ الوضع الاقتصادي تحسّن وأنّ البلاد تتدرّج نحو الخروج من الأزمة. غير أنّ الحقيقة غير ذلك تماما لأنّ هذه النسبة ظرفيّة ولا تمسح سوى الثلاثة أشهر الأولى من السنة الحالية، ولا شيء يؤكّد أنها ستظلّ على نفس الحالة لما تبقّى من السنة الجارية أي للتسعة الأشهر المتبقّية من هذا العام. ومن جهة أخرى فإنّ هذه النسبة جاءت مقارنة بالنسبة المسجلة خلال الثلاثة أشهر الأولى من سنة 2016 والتي كانت نسبة ضعيفة للغاية 0.7 % ، بمعنى آخر تمّت المقارنة بين السّيء والأسوأ. ومن جهة ثالثة ترتكز هذه النسبة على جملة من النسب الفرعية في مختلف قطاعات النشاط الاقتصادي ومنها نسبة النمو في الفلاحة والتي لا تعني سوى قطاع القوارص وزيت الزيتون وكذلك قطاع السّياحة. في حين أنّ هذين القطاعين الموسميّين لم ينطلقا بعد. ومن هذا المنطلق تُعتبر هذه النسبة غير ذات دلالة حقيقية ولا تقدّم دليلا قاطعا على تعافي الاقتصاد التونسي.
قلب الحقائق ونشر الوهم
للتّأكّد من صحّة هذه النسبة لا بدّ من التدقيق فيها وفي تفاصيلها. وبالاطّلاع على المعطيات الإحصائيّة المنشورة نلاحظ أنه تمّ احتساب هذه النسبة بناء على نسب خمسة قطاعات أساسية نستعرضها كالآتي:
1 – الصناعات المعمليّة، وتشمل صناعة مواد البناء والخزف والصناعات الفلاحية أو الغذائية والصناعات الكيميائية والصناعات الميكانيكية والكهربائية والنسيج والجلود والأحذية وهو المهم في خلق القيمة المضافة وقد حقّق نسبة نمو سلبية بـ1.1 – %.
2 – الصناعات غير المعملية ويشمل إنتاج الفسفاط والبترول والغاز (المواد الاستخراجية) ويخلق هو الآخر قيمة مضافة تسويقية، وقد حقّق نسبة نموّ طفيفة وقريبة من الصفر (0.2 %).
3 – الفلاحة والصيد البحري، وتُعزى نسبة النمو التي حقّقها (4.9 %) لصابة القوارص التي بلغت هذه السنة 560 ألف طن (مقابل 280 ألف السنة الماضية)، أي أنّ هذه النسبة موسمية ومرتبطة فقط بمنتوج الثلاثية الأولى من هذه السنة ويمكن أن تتحوّل إلى نسبة سلبية بالنّظر إلى النقص الذي يمكن أن يتأتّى من صابة الحبوب التي مهما تحسّنت قياسا بالموسم الماضي لن تصل إلى تغطية حاجاتنا من هذه المادة، وبالتالي لن تعفينا من واردات كبيرة ومكلفة للميزانية العامة للدولة.
4 – الخدمات المسوّقة، وتشمل خدمات النقل والاتصالات والخدمات المالية والنزل والمقاهي، أي السياحة. وما تحقّق من نمو في هذا القطاع يتأتّى أساسا من خدمات السياحة (+ 8.6 %) التي يبقى الحكم عليها سابقا لأوانه بالنّظر إلى أنّ الموسم السياحي لم ينطلق بعد. وعلى العموم فإنّ نسبة النمو في هذا القطاع هي نموّ الخدمات التي لا تخلق قيمة مضافة وهي أقرب منها إلى الاستهلاك للإنتاج وبذلك تبقى نسبة نموها المقدرة بــ3.4 % نسبة هشة وغير ذات قيمة للاقتصاد ككلّ.
5 – الخدمات غير المسوّقة، تتأتّى أساسا من الاستهلاك العام وقد حقّقت نسبة نمو طفيفة بــ0.6 %.
وكما هو ملاحظ فإنّ النسبة الإجمالية لمجموع هذه النسب القطاعية (2.1 %) ليست نابعة من القطاعات الإنتاجية للاقتصاد الحقيقي (الصناعة) أو هي ناجمة عن نتائج ظرفية لأنشطة موسمية أو أنشطة غير منتجة أصلا (استهلاك).
اعتبارات أخرى
وتزداد هشاشة هذا “المنجز” الذي تتباهى به الحكومة في الوقت الذي يشهد الدينار التونسي انهيارا مع غياب ما يفيد أنّ الحكومة قادرة على وضع حد له. ذلك أنّ اليورو وصل إلى أكثر من دينارين و800 مليم والدولار الأمريكي يُستبدل مقابل دينارين و600 مليم تقريبا. هذا ما ينعكس على الميزان التجاري بتعمّق العجز علما وأنّ العجز المسجل للثلاثي الأول من هذه السنة بلغ نسبا غير مسبوقة (أكثر من 4000 مليون دينار)، أي بما يرشّحه لبلوغ أكثر من 14 ألف دينار مع موفّى هذه السنة.
على صعيد آخر، أيّ معنى لهذه النسبة والمؤشرات الاقتصادية الأخرى تتّجه جميعها من سيّء إلى أسوأ وخاصة نسبة عجز الميزانية التي بدورها تُثقل كاهل الدولة بمزيد التداين الذي يشكّل أصلا عبئا كبيرا (حوالي 63 % من الناتج الداخلي الخام).
والحل …
لا أمل طبعا في أن ينهض الاقتصاد إلاّ بتحقيق نسبة نمو حقيقية ناجمة عن خلق القيمة المضافة الحقيقية في القطاعات التي تنتج ثروات حقيقية لا خدمات هشّة استهلاكية. ولكنّ تحقيق النمو لا يمكن أن يحصل ما لم تتّبع البلاد خطط تنمية حقيقية لا أن ينحصر اقتصادها في بعض الأنشطة الريعيّة (الصناعات الاستخراجية) أو في الخدمات الهشّة المرتهنة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في بلدان أخرى. بلغة أخرى لا سبيل إلى تحقيق تنمية حقيقية ما لم نبني اقتصادا منتجا، اقتصادا مصنّعا وفلاحة منتجة ومصنعة أيضا، وما لم نثمّن كلّ المقدّرات الطبيعيّة المتوفّرة (مواد إنشائية وغابية وغيرها) وما لم تكن لدينا بنية أساسية متطوّرة. هذا علاوة على أنّ تُحقّق خطة التنمية هذه الاندماج الفعّال بين مختلف الأنشطة والتكامل بين مختلف الجهات ويكون مجمل النشاط الاقتصادي موجّها لتلبية حاجات السوق الداخلية وعلى قدرة تنافسية تسمح له بافتكاك نصيبه في الأسواق المجاورة.
إنّ تنمية خطّة مماثلة وحدها قادرة على خلق الثروة والوفرة التي تُسرّع نسق الدورة الاقتصادية ونشاط المحرّكات الاقتصاديّة الأساسيّة (الإنتاج والاستهلاك والادّخار والاستثمار) وخلق مواطن الشّغل اللاّزمة للقضاء على البطالة وتمويل الخدمات الاجتماعية الأخرى كالصحة والنقل والخدمات الإدارية بأنواعها.