جيلاني الهمامي
تسارعت الأحداث والتطوّرات في ما يسمّى بحملة “الحرب على الفساد” التي انطلقت بصورة مفاجئة يوم الثلاثاء الماضي بإيقاف شفيق جراية لتمتدّ الإيقافات في الأيام الموالية ولتطال أسماء أخرى معروفة في عالم التّهريب والتّجارة الموازية. وفي ظلّ التّكتّم المضروب على العمليّة نشطت سوق الإشاعة وكثرت التأويلات وبقي الرأي العام الوطني يتابع بين التصديق والشكّ إلى أن بدأت الحقيقة تنجلي رويدا رويدا ليكتشف – ولو نسبيا – في غمرة الخلط والتّمويه والمغالطات دوافع هذه الحملة وحقيقة مغزاها ومراميها.
ولئن بدأ تضارب التّصريحات الرّسميّة حول أسباب هذه الحملة عند انطلاقها كمجرد لخبطة اعتادت عليها الحكومة وبقية أطراف السلطة في مثل هذه الأوضاع، فقد تبيّن فيما بعد أنّ الأمر يبعث حقّا على الشك في جدّيّة “الحرب على الفساد” ومبدئيّتها. وبدأت الأخبار الرّائجة من هنا وهناك تقدّم التّفسيرات الصحيحة لذلك الارتباك الذي تملّك الحكومة.
واليوم، وقد هدأت تخميرة “الحملة” واكتملت الصورة لمبعث ما قامت به الحكومة وأغراضها يمكن القول إنّ المسألة ليست سوى حلقة من حلقات الصّراع داخل شقوق النداء ومسعى من مساعي الفريق الضيّق القريب من القصر لحسم هذا الصّراع تمهيدا لمحطّات أخرى على درب ترتيب الأجواء وتمهيد الطريق لبقاء مراكز النفوذ – وأساسا قصر قرطاج – بين أيدي العائلة الحاكمة.
تفكيك المشهد
ولو عدنا إلى الحملة منذ انطلاقها لتركيب أجزاء الخطة لأمكن لنا إدراك المشهد في مجمله. بداية ينبغي القول إنّ الحكومة استعجلت الشّروع في الحملة وقد يكون ذلك بناء على أوامر (الأرجح أنها من قرطاج). ولكن يبدو واضحا أنها لم تُعِدّ لها جيّدا من حيث الرواية والمسوّغات اللاّزمة لإقناع الرأي العام. وقد يكون هناك اتّجاه إلى وضعها تحت يافطة مقاومة الفساد (الشاهد خاصة) وهو ما يفسّر فحوى الخطاب المقتضب الذي توّجه به إلى العموم مساء يوم الأربعاء (أنا اخترت تونس اخترت الشعب على الفساد). لكن يبدو أنّ بعض الأوساط السياسيّة والقانونيّة والأمنيّة الأخرى كانت تجد في هذه الرواية بعض الحرج بسبب ثغراتها، خصوصا بعد أن نفت النيابة العمومية علمها بالحملة. فقدّمت تفسيرا آخر حيث أصدرت وزارة الداخليّة بلاغا أوعزت فيه حملة الاعتقالات إلى “ارتكاب الموقوفين لأعمال من شأنها المساس بالأمن والنظام العامّين” وألمحت إلى أنّ إيقافهم مجرّد عملية ظرفية ووقتية (سينتهي بانتهاء فترة الطوارئ). ثم بعد ذلك جاء تصريح وكالة الدولة العامة لإدارة القضاء العسكري بإحالة شفيق جراية على القضاء العسكري لأسباب أخرى مغايرة تماما لا صلة لها بالفساد، وتتعلق بالاعتداء على أمن الدولة الخارجي والخيانة والمشاركة في ذلك ووضع النفس تحت تصرف جيش أجنبي زمن السلم إثر بلوغ شكاوي ضدّه في هذا الصدد. وفي الأثناء اعتمدت لجنة المصادرة على مرسوم المصادرة (مارس 2011) لتعلن في ندوة صحفية مصادرة أملاك الموقوفين من منقولات وتجميد أرصدة… علما وأنه كان من المقرّر أن تعقد ندوتها الصحفية مساء يوم الخميس وأخّرتها إلى يوم الجمعة دون توضيح لأسباب التأخير.
ويروج الآن أنّ النيابة العمومية ستتولّى إحالة بقّية الموقوفين على التحقيق أمام القطب القضائي المالي وسيكون ملفّهم مجرّد ملف حق عام ويتعلق فعلا بالفساد المالي بما أنه تمّ الترويج إلى أنّ إيقافهم تمّ بعد أن اتّضح كما قال منير الفرشيشي رئيس هيئة المصادرة “المستقلة” (أي اكتشاف!!) أنّ الموقوفين مرتبطين بعائلة المخلوع والطرابلسية.
يُستشفّ من كلّ هذا أنّ النّيّة اتّجهت أساسا إلى اعتقال شفيق جراية وتصفية “الحسبة” معه. ولكن وللتغطية على العملية كان لا بدّ من القيام باعتقالات أخرى لإكسائها المصداقية الكافية، وهو ما استوجب استحضار شعار “حملة ضدّ الفساد”. ما يعني أنّ السبعة المتبقّين من المعتقلين سيدفعون ثمنا ما كانوا ليدفعوه لولا حسابات الضرورة ومقتضيات تصفية ملف جراية، وبذلك هم في الحقيقة ليسوا سوى عناصر لتأثيث مسرحيّة عمقها حسابات سياسيّة أخطر ولا تتّصل بمسألة الفساد أصلا. ولا يُستغرب أبدا أن يقع إخلاء سبيلهم في وقت لاحق أو بلورة شكل من أشكال التّسوية معهم بعد أن يكون الملفّ قد طُوي وانزاحت عنه أضواء الحملة الإعلامية. هذا ما يعني أنّ المستهدف من كلّ هذه المسرحيّة المفتعلة حول الفساد هو شخص شفيق جراية. ووراء ذلك “حسبة” سياسية ذات دلالات أخرى.
من علامات أزمة الحكم
يُشتمّ من كلّ هذه العملية تصفية حساب داخل النداء وحسم لصراع تدور رحاه منذ مدة لصالح شقّ حافظ قائد السبسي. ولئن بدا يوسف الشاهد هو المستفيد الآن من حملة “الحرب على الفساد” فليس غير فائدة مؤقتة تستعيد فيها حكومته بعض الأنفاس ولكن لفترة قصيرة. وقريبا قريبا ستعود رحى الصّراع إلى مدارها الأصلي بعد أن تمّ التّخلّص من خصم مقلق ومشاكس هو شفيق جراية. وسيكون الشاهد مجدّدا في عين العاصفة ولن يشفع له ما غنمه مؤقتا من “معركة الفساد” وسيرى بعين أمّه كلّ الذين هلّلوا له وكبّروا وخاصة من حزب النداء كيف سيديرون له ظهر المجن. أمّا الذين هرولوا لإعلان الولاء – عن غباء وقصر نظر أو جريا على عادة “الله ينصر من صبح” – فسيكتشفون أنهم نفخوا في طبل أجوف وكانوا مجرد أبواق دعاية في حملة لا صلة لها بمقاومة الفساد. ويوم ستعود حرب الصّراع بين الشق المتنفّذ في النداء من جهة ويوسف الشاهد من جهة أخرى سيدركون فداحة “القوادة” التي قدّموها مجانا.
إنّ حملة “الحرب على الفساد” ليست غير وجه مشوّه من أوجه أزمة مؤسّسات الحكم وعلامة من علامات استعار الصّراع الفئوي على مراكز النفوذ بحسابات سابقة لأوانها. وحتى إن حَبَكَت المجموعات المسيطرة اليوم في قصر قرطاج خيوط هذه المناورة وحوّلتها إلى هجوم سياسي لاستعادة المبادرة فإنّ هذه الحملة محكوم عليها بالفشل. وقد بدأت بالافتضاح بصورة مبكّرة وانكشفت حقيقتها كمجرّد عمليّة انتقائيّة أبعد ما تكون عن “محاربة الفساد”. لقد توقّفت الحملة عند عدد من المهرّبين الذين لا تنطبق عليهم بدقة صفة الفساد المتعارف عليه دوليّا فضلا عن كونهم ولو سلّمنا بأنهم فاسدين أو طرف في الفساد، كانت مصداقية أية حملة على الفساد تقتضي أن يقع جلب بقية الأطراف الضالعة معهم في هذه الجريمة إلى حضيرة الإيقاف والبحث والملاحقة. غير أنه وفي ضوء المعطيات الحالية بات من شبه المتأكّد أنه سيقع الاكتفاء بالأسماء التي طالها الاعتقال. بل وبات من الواضح أنّ العديد من السّياسيّين والإعلاميّين ورجال الأعمال المعروفين بفسادهم والذين قد يكشف عنهم البحث هم في مأمن من كلّ تتبّع وبعضهم يتمتّع بالفيتو من قبل المتنفّذين في حزب النداء.
الحرب على الفساد يجب أن يكون خيارا مبدئيّا ومتماسكا
ومهما كان من أمر وبصرف النظر عن كلّ التخمينات والاستنتاجات فإنّ الحرب على الفساد في تونس استحقاق مستعجل لا يقبل التأجيل وسيظلّ غير ذي معنى ما لم يتوجّه مباشرة إلى تطهير مؤسّسات الدولة أوّلا ذلك أنّ الفساد الحقيقي والأكبر حجما والأخطر أثرا إنما هو الفساد الذي يقترن بالحكم والنفوذ السياسي. فإذا كانت الحكومة جادّة فعلا في مقاومة هذه الآفة فما عليها إلاّ أن تبدأ من حيث ينبغي لها أن تبدأ وبالضبط من مؤسسات الديوانة وإدارة الجباية والمؤسسات العمومية والبنوك وهيئات عقد الصفقات العمومية ومن مصالح الوزارات المتصلة بالأنشطة الاقتصادية والتجارية المدرّة للمنافع والتي تتمتّع بنفوذ وتتّخذ القرارات.
إنّ حملة “الحرب على الفساد” ليست سوى ترتيب للأوضاع داخل النداء ولفائدة العائلة (حافظ) وتعديل لموازين القوى الداخلية وتمهيد للمرور لصراع جديد سينشب قريبا وسيكون فيه رأس يوسف الشاهد مطلوبا طال الزمن أو قصر. وعلى قدر ما تُسرع الحركة الاجتماعية في النهوض مجدّدا وعلى قدر ما تستعيد حركة المعارضة وزنها في الضغط على قدر ما سيكون موعد نشوب هذا الصراع أقرب. فمن نافل القول إنّ استمرار حالة الهدوء من شأنه أن يعطي ليوسف الشاهد فرصة للبقاء على رأس الحكومة. أمّا إذا اتّسعت رقعة الاحتجاج والغضب الشّعبي فمن شأنها أن تضعف جانبه.