أعلنت كلّ من مصر والمملكة السعودية والامارات والبحرين يوم 5 جوان الجاري قطع علاقاتها الدبلوماسية بدولة قطر ووقف الرحلات منها وإليها وغلق الأجواء والموانئ البحرية أمام كلّ حركة طيران أو سفن متّجهة إلى شبه الجزيرة أو قادمة منها، بحيث أصبحت مطوّقة ومحاصرة رغم احتوائها لقاعدة أمريكية.
ومن الواضح أنّ المملكة السعودية والبحرين والامارات تبدو مصمّمة على إسقاط حكم الأمير تميم بخنقه اقتصاديا قبل الالتجاء ربما إلى انقلاب عسكري أو على الأقل إخضاعه بالكامل وإجباره على التحرك في حدود المهام التي توكل إليه. وتأتي هذه الخطوة بعد مدة وجيزة من القمة العربية الإسلامية الأمريكية المنعقدة بالرياض بإشراف زعيم الامبريالية الأمريكية الجديد، دونالد ترامب الذي حدّد لتوابعه خطة المرحلة القادمة وهي تكوين تحالف “عربي ـ إسرائيلي” لمواجهة إيران.
إنّ النظامين القطري والسعودي، الطرفين البارزين في الصراع الحالي، لا يختلفان من حيث الولاء التام للإمبريالية الامريكية والانخراط في الأجندة الصهيونية في المنطقة. فالكل مورّط في الحرب على سوريا واليمن وليبيا وفي التآمر على القضيّة الفلسطينيّة والعربية عموما. والكل أيضا يوفّر الدعم المادي والإعلامي والسّلاح للميليشيات التكفيرية التي يستعملونها وقودا للإرهاب الأعمى من أجل تدمير المجتمعات العربية والقضاء على تطلّعات الشعوب نحو الحرّية والاستقلال في دول عصرية، ديمقراطية وتقدمية. والكلّ أيضا له روابطه بمختلف القوى الرجعية في الأقطار العربية وخاصة منها حركة الإخوان المسلمين. ولكنّ الصّراع قائم حول دور كلّ طرف في تكريس هذه السياسة. فالسعودية تريد تحجيم كلّ دور لقطر التي أصبحت لها طموحات وروابط وتدخّلات أكبر من حجمها. وهي تهدف من وراء ذلك إلى تحجيم الجماعات التي تديرها قطر وفي مقدّمتها الإخوان المسلمون وتستعملها في مناوراتها السياسية، وإلى وضع حدّ للعبها على الصّراع السعودي الإيراني بالتّقرّب إلى إيران كلّما اشتدّ عليها الضغط السعودي.
وما من شك في أنّ هذا السلوك السعودي ينسجم مع الاستراتيجية الأمريكية الصهيونية فيما يتعلق بتحويل وجهة الصراع في المنطقة إلى صراع مع إيران عوض أن يكون مع الكيان الصهيوني والامبريالية. كما أنه ينسجم مع مصالح النظام المصري وحفتر في ليبيا اللذين يواجهان “الإخوان المسلمين” المدعومين من قطر. إنّ النظام السعودي يعمل بكلّ الوسائل على أن يكون له الدور الأول عربيا في تكريس السياسات الأمريكية الصهيونية حتى يحافظ على ديمومته وعلى ديمومة الدمى العربية الأخرى في المنطقة. ولا يمكن النظر إلى المبالغ الضخمة التي وفّرها النظام السعودي للرئيس الأمريكي في شكل شراءات أسلحة أو استثمارات إلاّ كثمن للدّور الذي يرغب آل سعود القيام به. ومن هذا المنطلق فإننا أمام صراع عملاء ولصوص من أجل الفوز بالدور الأول في تسهيل اضطهاد القوى الامبريالية والصهيونية للشعوب العربية واستغلالها ونهب ثرواتها. وبطبيعة الحال فإنّ نتائج هذا الصراع ستكون له بعض الانعكاسات الإقليمية. إنّ حلفاء قطر وتوابعها بدءا بالإخوان المسلمين ووصولا إلى الجماعات الإرهابية العاملة في أكثر من قطر عربي وإسلامي ستجد نفسها بلا سند. مادّي وسياسي. لذلك تنطلق حناجر بعض رموز الإخوان في تونس وخارجها وبعض حناجر العاملين في ركاب قطر على غرار المرزوقي، لتعلن مساندة “قيادة” هذا البلد، زاعمة أنّ ما تتعرّض إليه هو ثمن مواقفها الداعمة “للثورات العربية” و”للقضية الفلسطينية”. وهي أمور مضحكة.
أمّا على المستوى الرسمي التونسي فقد اتّسم الموقف بالارتباك، إذ اكتفى وزير الخارجية بالدعوة إلى التهدئة وحلّ الخلافات بالحوار. وفي الحقيقة فإنّ الائتلاف الحاكم ليس أمامه أيّ خيار آخر. فلا يمكنه أن يكون ضدّ قطر لارتباطه، وخاصة النهضة، بنظام هذه الإمارة. كما لا يمكنه أن يكون ضد السعودية خوفا من عقابها وعقاب حلفائها الحاليّين. ولا يمكنه ثالثا أن يكون له موقف جريء متباين مع الطّرفين المعاديين لمصالح شعبنا وكافة الشعوب العربية. فالسعودية هي صانعة الإرهاب الوهّابي الذي تتضرّر منه بلادنا. وقطر هي الداعم لحركة النهضة وتوابعها. ولكنّ الباجي قائد السبسي لم يتردّد في توريط بلادنا في التحالف العربي بقيادة السعودية الذي يدمّر اليمن حاليا. كما أنه حضر القمة العربية الإسلامية الأمريكية الأخيرة بالرياض التي تحدّدت فيها التوجّهات الأمريكيّة الجديدة للمنطقة. وأخيرا وليس آخرا فهو لا يفوّت فرصة، مثله مثل زعيم حركة النهضة، للإشادة بدور قطر في “مساعدة تونس”.
لقد أكّد حزب العمال في عديد المناسبات على أن لا مصلحة لبلادنا في الانخراط في أيّ محور من المحاور العربية الرجعية، بل أكّد أنّ مصلحة بلادنا كلها في الحفاظ على استقلالية قرارها. ولكن هذه الاستقلالية لا يمكن أن تتوفر مع الائتلاف الحاكم الحالي الذي عمّق تبعيّة بلادنا في كافة المستويات وخاصة في المجالين الاقتصادي والمالي، وهو ما يجعله عاجزا عن سلوك سياسة خارجية مستقلة وضامنة لمصالح بلادنا الأساسية ومناصرة لقضايانا العربية العادلة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. ولهذا السبب ما انفكّ حزبنا والجبهة الشعبية يناضلان من أجل استكمال مسار ثورة شعبنا لتحرير بلادنا من كلّ تبعيّة وإكسابها القوة والمناعة اللاّزمتين لتحدّد سياستها الخارجية وفقا لمصالحها الأساسية.