في خضم نضالات شعبنا بعد 14 جانفي 2011 وبمقتضى التطور الموضوعي لهذه النضالات، اهتدت الحركة النضالية إلى طرح مطلب التأميم خاصة في علاقة بالثروات الباطنية والاستخراجية مثل الفسفاط والنفط والملح، فضلا عن عديد المؤسسات العمومية التي تتّجه الدولة إلى خوصصتها أو شرعت في ذلك. في المقابل، استنفرت البرجوازية كلّ أجهزتها وأدواتها وخاصة الإعلامية منها للهجوم على هذا المطلب وتشويهه واعتباره مطلبا غير مسؤول أو ايديولوجي تطرحه الجبهة الشعبية وحزب العمال.
وهاهي فرائص البرجوازية ترتعد كلما تعالت الأصوات التي انطلقت في الجولة الاحتجاجية الأخيرة من “الكامور” وانتشرت في جهات أخرى تحركات مساندة لمطالب أبناء جهة تطاوين وقبلي. فما المقصود بالتأميم؟ وماهي مصلحة الشعب فيه؟ ولماذا ترفضه البرجوازية في تونس؟
التّأميم استحقاق اجتماعي ووطني
تُشيع البرجوازية حملات دعاية مغرضة مفادها أنّ التأميم “إجراء اشتراكي تتّخذه الدولة حين تريد وضع يدها على كلّ مفاصل دورة الإنتاج، وهو يعني مصادرة وسائل الإنتاج المملوكة عند كبار الملاكين وغيرهم بما يضرب الملكية الخاصة ويعوّضها بملكية الدولة”.
وفي اعتقادنا في هذا التعريف مغالطة كبرى مقصودة. صحيح أنّ الدولة الاشتراكية تقوم بعملية تأميم واسعة للثروات والملكيات الكبرى، لكنّ الدولة الرأسمالية أيضا قامت في عديد الأحيان بالتأميم. وقد انتشر هذا السلوك الاقتصادي زمن الأزمات الكبرى التي شهدها النظام الرأسمالي وذلك سواء بمصادرة بعض الأملاك أو شرائها أو تحويل ملكيتها بشكل من الأشكال.
كما أنّ الدول الرأسمالية، حتى في زمن انتعاشاتها، احتفظت فيها الدولة بالملكية الحصرية لبعض القطاعات التي تسمّى “استراتيجية” رغم الاعتماد الكلي على مبادئ الليبرالية الاقتصادية. ففي بريطانيا زعيمة “النيوليبرالية” منذ بداية الثمانينات مع “تاتشر”، انتظم منذ سنوات بين صفوف قيادتها السياسية المتبنّية لذات التّوجّه السّائد نقاش حول ضرورة تأميم بعض القطاعات بالكامل مثل صناعة الأدوية والصناعات الحربية وغيرها.
كما التجأت عديد الدول الخارجة من الاستعمار إلى اتّخاذ إجراءات تأميم الملكيات التي استحوذ عليها المستعمر وأعوانه وأتباعه من أراض وشركات وأملاك. وقد قام نظام بورقيبة الليبرالي بتأميم الملكيات والعقارات والثروات التي كانت بيد الاحتلال الفرنسي والمعمّرين وتحويلها إلى الدولة. فاحتكرت الدولة عقود ملكية بعض القطاعات التي كانت عمومية بالكامل. وبعد دخول سرطان الخوصصة تحوّلت ملكيّة عديد القطاعات الحيوية إلى يد الخواص المحلّيّين أو الأجانب. وارتبطت عمليات الخوصصة في الغالب بشبهات فساد ولصوصية وعمالة.
أمّا الحفاظ على عمومية المرافق والمؤسسات أو التأميم فهو في الأصل إجراء اقتصادي مهم من ناحية نتائجه الاقتصادية والاجتماعية المهمّة، وهو إجراء وطني يتصدّى للهيمنة والتبعية. فتأميم “قناة السويس” في مصر الناصرية وتأميم النفط من قبل شافيز وموراليس، مثّلت إجراءات وطنية مكّنت هذه البلدان من الانتفاع بمقدراتها وثرواتها وأرضها والتّحكّم في مجالها الجغرافي (في الحالة المصرية). كما أنّ برلمانات عديد الدول اتخذت قرارات بالتأميم خاصة التي تهم الثروات الكبرى مثل النفط والغاز أو القطاعات الحساسة والحيوية، علما وأنّ هؤلاء البرلمانيين لم يكونوا دائما من ذوي الخلفية الاشتراكية أو الاجتماعية أصلا. فمصلحة الدولة أو البلاد والشعب في لحظة ما من التاريخ تقتضي تأميم الثروات مهما كان حجمها.
لماذا ترفض البرجوازية تأميم الثّروات في تونس؟
إنّ البرجوازية لا تناهض التأميم في المطلق. فثمّة من لا يرى ضيرا في ذلك. وإن لم نسمع أصواتا مرتفعة تدافع عن ذلك في تونس، فإنّ الصوت المرتفع اليوم آت من الجماهير المنتفضة في تطاوين وقبلي والتي أصبحت لها تجربتها الخاصة وخبرتها في النضال الاجتماعي الذي خاضته للمطالبة بالتشغيل وبحق جهاتها في التنمية التي ظلت محرومة منها لعقود.
وكانت إجابة الدولة دائما التفصّي والهروب من هذه المطالب العادلة بداعي الأزمة وصعوبة الأوضاع وشحّ الإمكانيات المادية. في مقابل ذلك، كان هؤلاء يشاهدون بأمّ أعينهم ويوميّا نهب الثروات. فجاء المطلب المنطقي بضرورة قيام هذه المؤسسات بدورها الاجتماعي من خلال تخصيص نسبة من مداخيلها وأرباحها للتنمية (تشغيل، صحّة،تعليم،بيئة،رياضة…). فهذه المؤسسات مدينة لهذه الجهات بهذا الدين الاجتماعي، خصوصا وأنّها تلوّث البيئة وتتسبّب في صعوبات صحيّة وتعليمية …لمتساكنيها.
علما وأنّ شركة فسفاط قفصة مثلا وشركات أخرى كانت زمن الاستعمار وزمن بورقيبة تقوم بهذا الدور الاجتماعي الذي تراجع مع الدولة المافيوزيّة زمن بن علي. وحين تجاهلت هذه الشركات، بحكم سمات الجشع والأنانيّة والاحتكام المطلق لقانون الربح ولا غير، ساهم ذلك في تطوير وعي الشبيبة المنتفضة ورفع من سقف مطالبها إلى مطلب أكثر منطقية تمثلت في تأميم هذه المؤسسات وتحويل ملكيّتها بالكامل إلى الدولة.
وتزامن ذلك مع المطالبة بحقّ الشعب التونسي في معرفة كلّ التفاصيل عن عقود الاستغلال والمستفيدين منها محليّا وخارجيّا، وعن حجم الثروات الباطنية المستغلّة وغير المستغلّة. فهذا الموضوع ظلّ على الدوام صندوقا أسودا. فالحقيقة لا يعرفها سوى المتنفّذين وأعرافهم في الخارج. ولمّا ارتفعت أصوات المنتفضين، ارتعدت فرائص أصحاب النّفوذ وقرّر الحاكم بأمره في قصر قرطاج عسكرة مناطق الإنتاج. والأمر في جانب منه يتعلّق بالإصرار على احتكار المعلومة حول هذا الملف الذي يرتبط دون أدنى شكّ بشبهات فساد من الحجم الكبير قد يؤدي كشفها إلى الإطاحة برؤوس كثيرة، إضافة إلى أنّ ملفّ الثروات الكبرى بالذات هو ملفّ العمالة والتبعية بامتياز. وهو دليل قطعيّ على تدخّل شركات متعدّدة الجنسيات وتحكمها في مفاصل القرار الاقتصادي لبلادنا. فآبار النفط مهما كان حجم إنتاجها ظلّت على ملك شركات أجنبية ولا تملك منها الدولة التونسية إلاّ نسبا محدودة جدّا. وهذا وضع غير سويّ، إضافة إلى أنّه من حقّ شعبنا وبمقتضى الفصل 13 من الدستور أن يكون له رأي فيه، كما أنه من حقه أن يطالب بتأميم هذه الثروات وأن يكون سيّدا عليها. والسيادة لا معنى لها خارج احتكاره لملكيتها.
ونحن نعتبر هذا المطلب مطلبا عادلا ومشروعا، بل هو مطلب وطني يواجه فيه الشعب تحالف الطبقات التابعة واللاّوطنية والتي تنهب خيرات البلاد وتحرم الشعب من ثمراتها ومن نصيبه فيها. إنّ مطلب التأميم يجب أن يطال اليوم كلّ الثروات الباطنية والاستخراجية من فسفاط ونفط وملح. فهذه الثروات محكومة بعقود استغلال مهينة لا تراعي مصالح البلاد. إنّ السيادة على هذه الثروات هي عنوان الاستقلال الفعلي من عدمه، وهذا ما أكّدته تجارب شعوب أخرى خاصة في أمريكا اللاتينية التي يمكن الاستفادة منها في هذا الصدد وخاصة ما يهمّ الأساليب والخطوات القانونية والدبلوماسية والإجرائية وفي مقدمتها خلق تعبئة شعبية واسعة لإنجاحها.
كما أنّ التأميم لا يجب أن يقتصر على الثروات الباطنية فحسب، بل يجب أن يشمل كلّ المؤسسات والأملاك المصادرة لأزلام النظام السابق، وهي تهمّ كلّ المؤسسات العمومية التي وقع خوصصتها دون أيّ موجب مثل اتصالات تونس ومصنع الإطارات المطاطية “الستيب”…أو التي تنوي الحكومة خوصصتها مثل معمل الفولاذ بمنزل بورقيبة أو “السيليلوز” بالقصرين وغيرها. فهذه أملاك للشعب التونسي بناها من عرق جبينه وكد يمينه ولا موجب لخوصصتها إطلاقا. فهي تاج القطاع العام التونسي رغم محدوديته وضعفه.
إنّ التأميم هو إجراء اجتماعي من شأن اعتماده أن يحسّن قدرات الدولة وأن يدعم القطاع العمومي الذي لا يستفيد من ضربه ومحاصرته إلاّ الجشعون وأولئك الذين يروّجون أنّ دور الدولة الراعية قد انتهى وأنّ الدولة لا دور لها سوى ضمان الأمن وتسيير شؤون البلاد في أبعادها الإدارية أساسا. إنّ هذا المنطق خرّب البلدان وفقّر أغلبيّة سكّانها وركّز الملكية والثروة عند الأقلية الجشعة لا أكثر.
لماذا ندافع عن مطلب التأميم؟
لقد ضمّن حزب العمّال في برنامجه منذ التأسيس مطلب تأميم الثروات والممتلكات والمؤسسات الكبرى باعتبارها ملكا حصريا للشعب وجب أن تكون تحت تصرف الدولة ولا يجب بأي وجه من الوجوه وتحت أيّ يافطة من اليافطات خوصصتها سواء من رأسماليين محليين أو أجانب. إنّ دفاعنا عن التأميم لا يتمّ لاعتبارات ايديولوجية كما يزعم بعض خصومنا، بل لاعتبارات اجتماعية واقتصادية وأيضا وطنية، أي بمعنى جعل هذه المقدّرات وعائداتها في خدمة الشعب وليس في يد حفنة من الأثرياء لا تهمّهم سوى مصالحهم الخاصة. بل جعلها في خدمة المجتمع على أساس الاحتكام إلى مبادئ الحوكمة الرشيدة والشفافية. فضلا عن كون السيادة على الثروة هي علامة على السيادة الوطنية والكرامة والاستقلال الفعلي لا الشكلي. من هذه الزاوية فنحن ننحاز ونناضل من أجل تأميم كلّ ثروات تونس الأساسية والاستراتيجية، ليس هذا فقط بل أيضا تأميم كلّ الخدمات الاجتماعية الأساسية من صحة وتعليم ونقل وتنوير وماء وسكن.
لقد أثبتت التجربة المعيشة لشعبنا وكادحيه الكلفة الغالية لخوصصة هذه الخدمات وتحويلها إلى سلع وبضاعة لا يقدر أغلبية بنات تونس وأبنائها على التمتع بها بحكم أوضاعهم المعاشية الصعبة، لذلك فهم يغرقون في خدمات اجتماعية بائسة ولا إنسانية تطال المرافق الأساسية المذكورة، ما عمّق وضعية التفاوت الطبقي والاجتماعي. لذلك فدفاعنا عن التأميم هو دفاع عن فقراء تونس وكادحيها الذين يشكّلون الأغلبية.