أطلق يوسف الشاهد منذ شهر تقريبا “حربه” على الفساد. وقد طالت الحملة منذ أيّامها الأولى عشرة من رجال الأعمال النّاشطين في مجال التّهريب والتّجارة الموازية. فقد أُوقِفوا ووُضِعوا تحت الإقامة الجبريّة اعتمادا على قانون الطوارئ، واتُّهِم أحدهم بالتّآمر على أمن الدولة والتّنسيق مع جيش أجنبيّ وأُحِيل على القضاء العسكري، والبقيّة وجِّهت إليهم تهم تتعلّق بالتّهريب. وبالتّزامن مع هذه الإيقافات نشطت “جوقة” المؤيّدين والمساندين والمناشدين لتطالب كلّ الأطراف السّياسية والمدنيّة بمساندة الشّاهد وحكومته “مساندة غير مشروطة” بل إنّ بعض الأحزاب المحسوبة على المعارضة طالبت بعقد “هدنة” مع الحكومة حتى تتوفّر لها “الظّروف المناسبة” للنّجاح في “حربها” على الفساد معتبرة أنّه لا مجال للتّحفّظ أو النّقد أو التّمايز، إذ المطلوب، حسبما روّجت له ودعت إليه، هو الاصطفاف ولا شيء غيره. وقد خِلنا أنفسنا في وقت من الأوقات في “عِزّ” أيام بن علي حين كان هو يقرّر و”الجوقة” تسبّح بحمده.
لقد حاولت الجوقة تسويق صورة مفادها أن البلاد تعيش “طورا جديدا من الثّورة” بقيادة رئيس الحكومة، يوسف الشّاهد، الهدف منه تحقيق المطلب الشّعبي في استئصال سرطان الفساد من جذوره وإيقاف كلّ من تثبت إدانته ومصادرة أملاكه. ولم يبق خارج هذه الجوقة إلّا حزب العمال والجبهة الشّعبية اللّذان أبديا احترازا حول توقيت الإيقافات التي تزامنت مع سقوط أوّل شهيد في الكامور والأسلوب الذي تمّت به والتكتّم الذي أحاط بها وتساءَلَا منذ اللّحظة الأولى عن مدى جدّية الحكومة في مقاومة الفساد وعمّا إذا لم تكن العمليّة كلّها تهدف إلى إنقاذ حكومة الشّاهد المعزولة والمهدّدة بالسّقوط وصرف الأنظار عمّا يجري في تطاوين وعن الحراك الاجتماعي المتنامي عامّة وتصفية حسابات سياسيّة داخل قيادة حزب نداء تونس الذي خرّبه سوس الفساد والانقسامات والصّراعات على الغنائم والتّنافس على المواقع استعدادا لخلافة شاغل قصر قرطاج.
وكما كان منتظرا سارعت الجوقة إلى إدانة حزب العمال والجبهة الشعبية وإطلاق حملة تشويه ضدّ ناطقها الرّسمي ووصفه بأبشع النّعوت في محاولة يائسة لعزل هذا الموقف والتّشويش عليه حتى تستقرّ الأوضاع لفائدة الائتلاف الحاكم وتعود الحكومة إلى إدارة أزمتها في أيسر الظّروف بعيدا عن الاحتجاجات وكل أشكال الضّغط. وقد جاءت الوقائع مرّة أخرى لتؤكّد صحّة موقف حزب العمال والجبهة الشعبية. فقد توقّفت “حرب الشّاهد على الفساد” فجأة ودون سابق إنذار مكتفية بمجموعة شفيق الجرّاية دون المرور على الأقلّ إلى باقي القائمة التي قدّمها رئيس هيئة مكافحة الفساد والتي تتضمّن وزراء ومستشارين ومسؤولين كبار في الدّولة. وهو ما بيّن صدقيّة موقف حزب العمال والجبهة الشعبية الذي أشار منذ البداية إلى أن حرب الشّاهد المزعومة على الفساد لن تذهب بعيدا وأنّها محكومة بحسابات سياسيّة ظرفيّة ولا علاقة لها بأي توجّه جدّي لمقاومة الآفة التي تنخر الدّولة والاقتصاد والمجتمع، وهو ما يتطلّب إرادة سياسيّة حقيقيّة واستراتيجية متكاملة سياسيّة واقتصادية واجتماعية وأمنيّة وهو ما لا يتوفّر عند الائتلاف الرّجعي الحاكم المورّط حتى النّخاع في تفاقم الفساد.
إنّ مناورة الشّاهد لإنقاذ حكومته والتي تغلّفت بغلاف مقاومة الفساد، ولئن وفّرت له متنفّسا ظرفيّا، فإنّها لن تساهم في معالجة الأزمة بل ستزيدها تعقيدا واستفحالا. إنّ الشعب التونسي يريد حلولا جدّية وعميقة لمشاكله وفي مقدّمتها مشكل البطالة والتّهميش والفقر وغلاء الأسعار وتردّي الخدمات الاجتماعية الخ… وهو ما لا جواب للشّاهد وللائتلاف الحاكم عليه، بل إنّهما يحاولان في هذه الأيّام استغلال المتنفّس الذي وفّرته لهما المناورة المذكورة كي يمضيا قدما في تكريس إملاءات صندوق النقد الدّولي بما فيها من خوصصة لمؤسّسات عمومية ومراجعة لأنظمة التّقاعد وغير ذلك من الإجراءات المعادية للوطن والشّعب. وهو ما لن يمرّ بسهولة، فالذين صدّقوا من بين الفئات الشعبيّة كذبة الحرب على الفساد سيعودون هذه المرّة إلى الشّارع بأكثر تصميم ووضوح ولن يقبلوا بأقلّ من تغييرات جدّية تضع البلاد على سكّة تحقيق أهداف الثورة.