لا تكاد تخرج بلادنا من أزمة سياسية حتى تقع في أخرى. هذا هو الانطباع الحاصل لدى الجميع تقريبا. فما إن تمّ الإعلان عن نتائج الانتخابات في أكتوبر 2014 حتى انطلقت حملة دعائية حول نجاحنا في الخروج من الوضع الانتقالي ودخولنا في فترة استقرار مؤسسات الحكم وخاصة بعد تشكيل حكومة الصيد التي جمعت حولها أربعة أحزاب وحصلت على أغلبية مريحة في البرلمان. لكن شيئا من ذلك لم يحصل لأنّ حكومة الصيد نفسها لم تعمّر طويلا وارتدّت عليها أحزابها التي ولأسباب غير مقنعة أطاحت بها لتستبدلها بحكومة الشاهد الحالية التي رافقتها هي الأخرى حملة تهليل وتطبيل لإقناع الرأي العام بأنّ مرحلة الاستقرار قد بدأت وأنّ ساعة الدخول في التنمية ومعالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية قد حانت. غير أنه وفي أقل من سنة وجدت ذات الحكومة نفسها في كل مرة أمام عواصف جديدة تهدّد بقاءها أصلا.
آخر هذه العواصف ما عرفته الحكومة من انتقادات حادة في أوساط الحكم واحتجاجات شعبية عارمة في عديد الجهات وخاصة في تطاوين والكامور حتى باتت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار والرحيل وجرى الحديث عن البدائل المحتملة. لكن مبادرة الشاهد بنقل المعركة إلى ساحة الفساد والادّعاء بمحاربته أعطت لحكومته فرصة لتتنفّس الصعداء وتؤجّل المصير الذي كانت ومازالت تخشاه. ولئن يبدو الساحة السياسية في الوقت الحاضر هادئة وبعيدة نسبيا عن التجاذبات فإنّ ما يجري وراء الستار والمناورات التي تحاك في الكواليس توحي كلّها بأنّ هذا الهدوء ليس غير الهدوء الذي يسبق العاصفة.
الحكومة تفقد حزام الأمان
خُيّل للبعض ممن غالطتهم الحملة حول حكومة “الوحدة الوطنية” و”وثيقة قرطاج” أنّ حكومة الشاهد التي جمعت حولها عددا متزايدا من الأحزاب وزكّتها المنظمات الوطنية الكبرى ستكون في مأمن من كلّ الهزّات. غير أنّ الأشهر القليلة الموالية للمصادقة على الحكومة جاءت بما يخالف ذلك. فسرعان ما دبّت الخلافات داخل الائتلاف الحاكم وأعلن “الوطني الحر” عن سحب ثقته في الحكومة وعبّرت حركة “آفاق” عن قلقها بصدد عديد الملفات والقضايا وصوّتت كتلة حركة المشروع ضدّ عديد المشاريع القانونية والاقتصادية للحكومة بل وامتنع شقّ من كتلة حركة النهضة ولأوّل مرّة عن التصويت لأحد مشاريع الحكومة (القانون الانتخابي). أكثر من ذلك لم يعد يخفي شق من حزب النداء قلقه من أداء الحكومة وارتفعت أصوات لانتقادها (الفاضل بن عمران الرئيس السابق لكتلة نداء تونس). وحتى طفرة الحماس التي عبّر عنها البعض لحملة “محاربة الفساد” سرعان ما اعتراه البرود وتحوّلت لدى عديد الأطراف إلى مساندة مشروطة ثم إلى انتقاد ناعم فتشكيك في مصداقيتها.
أكثر من ذلك ترتفع أصوات من النداء ومن خارجه بما في ذلك النهضة وإن بلغة حذرة للمطالبة بضرورة تحوير الحكومة. ويقصد بعضهم بذلك تغييرها أصلا ولا تخفي أوساط نافذة في النداء رغبتها في رحيل الشاهد نفسه. أمّا الاتحاد العام التونسي للشغل فهو يراوح بين التّنويه بالحكومة وانتقادها علنا وآخر ما صدر عنه في هذا الاتّجاه بيانه حول الزيادة في أسعار المحروقات. هذا ما يعني أنّ الدعم الذي تلقاه الحكومة و”الاستقرار” الذي “تنعم” به ليس غير دعم واستقرار ظرفيّين وعلى درجة كبيرة من الهشاشة.
حرب الكواليس
هذا ما يظهر في المشهد العلني. أمّا ما كان خافيا فهو أعظم، ذلك أنّ التحوير الجزئي الذي قام به الشاهد في هياكل رئاسة الحكومة وتغيير مدير ديوانه يؤشّر على بداية صراع حقيقي داخل مؤسّسات الحكم وخاصة بين قرطاج والقصبة. قد يبدو للبعض مـن هذا التغيير هو مجرد إجراء إداري روتيني وغير مفاجئ بما أّن خبر تنحية الهادي الماكني من خطة رئيس ديوان الشاهد قد تمّ تداوله منذ أيام لضعف أدائه وقلة معرفته بالكثير من الملفات. ولكن الحقيقة هي أنّ هذا القرار يُعزى إلى كونه أصبح (أي الماكني) منذ شهر مارس الماضي محسوبا على حافظ قائد السبسي. ولو تمعّنّا أكثر عند قراءة هذا القرار في سياقه السياسي الراهن وفي ضوء الصراعات الداخلية الجارية الآن في الفريق الحاكم وبين الفاعلين في مراكز القرار الأساسية لوجدنا أنّ له دلالات أعمق من أن يكون مجرّد تحوير إداري.
أوّل هذه الدلالات أنه جاء بمثابة تحوير وزاري جزئي اقتصر على رئاسة الحكومة ويندرج ضمن عملية إعادة هيكلة لهذه المؤسسة، ذلك أنّ القرار شمل ثلاثة مراكز مهمة في رئاسة الحكومة هي إدارة الديوان والكتابة العامة للحكومة والوظيفة العمومية. ولعلّه يمثّل مقدمة لتحوير آخر في الأفق يذهب الكثير من المراقبين إلى القول بأنه لن يتجاوز نهاية شهر جويلية القادم فيما يتوقعه البعض لشهر أكتوبر. وهو ما يؤكد ما سبق أن قلناه أنّ منظومة الحكم ككل والحكومة بشكل خاص لم تستقرّ بل وتتخبّط فيأازمتها ومرشّحة إلى أن تغرق في أزمات أخرى أشدّ سنعود إلى الحديث عن مؤشراتها.
من دلالات هذا التحوير أيضا أنّ وضع شلغوم في هذا المنصب وهو المعروف بولائه للباجي سيكون عينا للقصر عمّا يجري في الحكومة. بطبيعة الحال الأوساط الرسمية تقدم ذلك على أنه قرار في محلّه لتحسين مستوى التنسيق بين قرطاج والقصبة. ولكن الحقيقة غير ذلك، فهو من جهة يمثّل كسبا ليوسف الشاهد بما أنّ مجيء شلغوم مكان الماكني سيخلّصه من تدخّلات حافظ قائد السبسي في شؤون الحكومة. وهو من جهة أخرى يمثل كسبا للباجي الذي تمكّن من وضع أحد أوفيائه في مكان حسّاس في القصبة. ومن غير المستبعد أن يكون تعيين شلغوم بهذا الموقع هو تمرين وإعداد للمرحلة القادمة ربما لتعيينه رئيسا للحكومة رغم أنّ أصوله الجهوية (جهة قفصة) لا تتلاءم مع نزوة البلدية والعائلة التي لا تقبل بأن تخرج رئاسة الحكومة عن حلقتها الضيّقة المقرّبة منها.
من جهة ثالثة وبعيدا عن تفاصيل هذا التحوير لا بدّ من التّمعّن أكثر فيما يعتمل داخل فريق الحكم من تجاذبات ومناورات خفية – يستعصي فهمها على عامة الناس – تؤشّر على تطوّرات سياسيّة قادمة لها أبعاد وطنيّة وعربيّة ودوليّة.
فقد راج في مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام (موقع الحرية وهو موقع جديد انطلق يوم 10 ديسمبر الماضي يعمل لصالح بقايا التجمع) أنّ إدارة ترامب تدعم يوسف الشاهد في العمل على “إنهاء التحالف بين النداء والنهضة” و”إنهاء حقبة السبسي”. ويقال أنّ الشاهد سيقوم في غضون المدة القادمة بزيارة إلى واشنطن (ما بين 9 و13 جويلية) ليلتقي فيها بالرئيس الأمريكي وللحصول على عون مالي مهم (هبات وقروض). ويستدل على صحة هذا التوجّه بما يسود من جفاء بين الشاهد وشقّ من نداء تونس بل بما يقوم به الشاهد من استدراج لجزء من الكتلة النيابية لحزب النداء إلى جانبه. ويذهب أصحاب هذا التحليل إلى القول بأنّ ما لاقاه الشاهد من مساندة في حملته على الفساد في الشارع من قبل بعض القوى السياسية (الجمهوري والحرة ومهدي جمعة ومحمد عبو الخ…) قد يكون شجّعه على المضيّ قدما – ولو في نطاق التكتم وبهدوء – في مشروعه، وربما هو الآن بصدد ترتيب أموره بخطوات محسوبة ومدروسة باتّجاه أهدافه المذكورة (إنهاء حقبة السبسي وإنهاء التحالف بين النهضة والنداء).
“محاربة الفساد” سلاح محدود الفاعليّة
وممّا لا شكّ فيه أنّ العلاقة بين الباجي والشاهد ليست على ما يرام كما أنّ العلاقة بين الشاهد وشقّ من النداء بقيادة نجل الرئيس سيّئة. وممّا لا شكّ فيه أيضا أنّ الباجي غير مرتاح لمجريات حملة الفساد التي أطلقها الشاهد دون أن يعني ذلك أنّ الشاهد يتّجه فعلا إلى مكافحة الفساد بل كلّ ما في الأمر أنه يستعمل هذه الحملة لتلميع صورته وتنفيس حكومته وبناء أسس استقلاليّته عن القصر وتوابعه. ويتّضح الآن أكثر فأكثر أنّ الشاهد قد وجد ضالته في ملف من جهة ولكن من جهة أخرى ليصفّي حساباته مع خصومه على اختلافهم.
ومصدر القلق في ذلك بالنسبة إلى الباجي هو أنه يريد أن يظلّ هو وحده الذي يُمسك بخيوط المسرحية، الأمر الذي لا يبدو حاصلا مع بعض “الطلعات” التي يقوم الشاهد من حين لآخر (زيارة ميناء رادس مؤخرا). واضح أنّ الباجي غير مرتاح لنسق ما يسمّى بحملة الحرب على الفسا،د وهو الأمر الذي يجعله في أكثر من مرة يدعو الشاهد إلى الإسراع بغلق هذه “العملة” خشية أن تتجاوز الخطوط المسموح بها فتطال أطرافا لا يودّ الباجي المسّ بهم. وردّا على محاولة الشاهد التصرف باستقلالية عن قصر قرطاج في حملته على الفساد جاءت عملية توقيف أحد رموز التهريب المحسوبين على الشاهد (الخشناوي) في إشارة من أوساط الرئيس على أنّ هذه الحملة يمكن أن ترتدّ على الشاهد نفسه.
صراعات رجعيّة لا مصلحة للشّعب فيها
وفي انتظار أن تنضج عناصر الصراع وتتضح صورتها فإنّ ما ينبغي قوله هو أنّ هذه الصّراعات والمناورات الجارية داخل الائتلاف الحاكم وداخل النداء وفي بنية الحكم ككل والفريق الحكومي الحالي خاصة لن تهدأ. بل الأصح أنّ هذه الصراعات ستستمر وستستمر معها الأزمة السياسية في تونس. ولا شكّ في أنّ الصراعات الجارية الآن في الكواليس في شكل مباراة “ممتعة” في علاقة بموعد 2019 قد تنقلب على المتبارين إلى كابوس مزعج إذا ما هبّ المارد الغافي الآن ونقصد الحركة الاجتماعية والاحتجاجات الشعبية التي بدأت تباشير نهوضها تظهر من جديد.
ومهما كانت الأحوال فإنّ ما ينبغي التنبيه إليه هو أنّ هذه المناورات ستزيد في تعميق الأزمة السياسية إلى جانب الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المستفحلة بطبعها وهو ما سيضع بلادنا أمام مخاطر أكبر خاصة في ظل التقلبات السياسية الجارية في المنطقة سواء منها القريبة منا (ليبيا) أو في المستوى الإقليمي (الشرق الأوسط والخليج) أو حتى في المستوى الدولي.