بقلم حسن الصعيب : عضو الكتابة الوطنية للنهج الديمقراطي بالمغرب
جسدت الندوة الدولية التي عقدها النهج الديمقراطي فرصة ذهبية لتبادل الأفكار والتجارب السياسية لمختلف التنظيمات اليسارية: حزب بوديموس الاسباني، حزب العمل البلجيكي، حزب اليسار الألماني، حزب العمال التونسي والحزب الشيوعي اللبناني.
كانت المداخلات جد غنية، من حيث محتواها السياسي والنظري، والتي توزعت على شقين: الشق النظري أو الاديولوجي والشق السياسي العملي. نظرا لاختلاف السياق التاريخي والسياسي، بين ضفتي الشمال والجنوب، كانت المقاربات تخضع لهذا التفاوت.
ففي غياب إنجاز الثورة البرجوازية، واستمرار الاستبداد السياسي، في ظل أنظمة ومجتمعات تابعة للغرب الرأسمالي، مثل مجتمعاتنا العربية والمغاربية، يصبح الحديث عن اليسار وتقعيده نظريا، صعب المنال، بسبب تشابك العلاقات الاجتماعية والسياسية والتكوينات الاجتماعية والاديولوجية المختلفة، التي تحدد طبيعة التناقضات السياسية والطبقية والطابع الرئيسي فيها من الثانوي.
إن مهام التحرر الوطني من ربقة الامبريالية من خلال فك الارتباط بها وانجاز الثورة الزراعية وتحقيق الديمقراطية ودولة الحق والقانون التي تفتح الطريق نحو الاشتراكية، تجعل من بنية اليسار كوعاء تنظيمي، يتسع لمختلف التكوينات الاديولوجية والسياسية، ويصبح الرابط بينها شديد التعقيد والتشابك، لدرجة أن صيرورة الفرز السياسيي والطبقي على أسس سياسية وطبقية، لا تحصل إلا في شروط اندفاعة جماهيرية قوية، ومواجهة صريحة وبناءة ضد العدو الأكثر شراسة. في مثل هذه الشروط يصبح الفرز واضحا بين تيار وطني عريض، قد يأخذ لباسا ايدولوجيا متنوعا: إما إسلاميا أو قوميا أو ليبراليا، وبين تيار اشتراكي هو أيضا عريض بطابعيه الجذري والإصلاحي. ينبغي استيعاب هذه الأطروحة، من خلال فهم التحولات العميقة للبنية الاجتماعية الطرفية ومرادفتها الاستقطاب غير متكافئ مع الرأسمالية العالمية، التي تحدد في نهاية المطاف هذا الفرز.
بينما في الضفة الأخرى، فاليسار محدد بشكل واضح أو يتم التعريف به، من خلال كتلة الطبقة العاملة ومختلف الطبقات الشعبية، على المستوى الطبقي، وتبلورها تاريخيا كقوى يسارية تسعى إلى القطع مع النظام الرأسمالي وإحلال محله النظام الاشتراكي، والتي توجد في تناقض عدائي مع كتلة الرأسماليين والليبراليين والملاكين الكبار، المسنودة بقوى سياسية يمينية ويمينية متطرفة، والتي تسعى إلى تأبيد واستمرار هيمنة النظام الرأسمالي المؤسس على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وسيطرة القطاع المالي الطفيلي على باقي القطاعات الصناعية والخدماتية المنتجة.
تجمع تجارب حزب بوديموس وحزب العمل البلجيكي واليسار الألماني، على تجاوز الدوغمائية النظرية التي سادت ردحا من الزمن في الأحزاب الشيوعية، رغم التفاوت في الانجاز السياسي لبلدانها، وسبب اختلاف السياقات لتكوينها. كما أن هذه التجارب، استطاعت أن تراكم عددا من التغييرات الايجابية، مثل القدرة على تنويع أساليب نضالها، وتأسيسها لبنية تنظيمية مرنة، حققت القرب والتواصل مع هموم الجماهير، وعمقت أكثر فأكثر الارتباط بفئات متنوعة التي تتعرض للاضطهاد والتهميش والإقصاء من الممارسة السياسية، وتعديل نمط خطابها الموجه للدعاية السياسية والشعبية، من خلال استبدال التركيز على الإشكاليات الايدولوجية، إلى التركيز على المشاكل الحياتية الملموسة، وتحقيق انتصارات جزئية تمس الحقوق الأساسية في التشغيل والخدمات العمومية ذات الأولوية الملحة كالتعليم والصحة. إلى جانب كل ذلك، مارست عملية تفكيك اللعبة السياسية البرجوازية، التي تقوم على ثنائية اليمين واليسار، وتداول السلطة بين اليمين الليبرالي واليسار الليبرالي، إلى ثنائية أخرى أكثر راديكالية، وتعكس مصلحة الجماعة النقدية، المشكلة من كافة الفئات والطبقات المضطهدة في المجتمع الرأسمالي، أي ثنائية بين من هم في الفوق وبين من هم في التحت، أي المجردين من جميع وسائل العيش الرغيد والتعبير الحر، والانخراط في العملية السياسية التي تدافع عن طموحاتهم الاجتماعية والسياسية، وبالاعتماد أيضا على نتائج الثورة الإعلامية والإمكانيات الهائلة التي تفتحها من خلال اتساع دائرة استخدام أدوات التواصل الاجتماعي، التي لعبت دورا محوريا في بناء خطاب يساري نقدي ومحكم، وتوسيع نطاق وفضاء المناقشة السياسية العمومية والتعبئة لبرنامج اجتماعي واقتصادي وسياسي نابع من عمق معاناة الشعب ومصاغ بلغة المقهورين وممهور بأملها في غد أفضل. لم تقف مبادراتها في هذا الحد، بل نسجت تحالفات قوية مع الحركات الاجتماعية الجديدة: حركة النضال من أجل السكن والشغل، حركة الشباب المناهض للحرب ومن أجل السلام، الحركة النسائية ضد البطريركية والرأسمالية والحركة البيئية.
تأتي خصوصية تجربة حزب العمال التونسي، من كونها ساهمت بقوة، في تأطير ثورة الياسمين، والمساهمة الفعالة في القضاء على الاستبداد السياسي، وتحقيق بعض المكتسبات السياسية، وفي مقدمتها بلورة دستور ديمقراطي يكرس حرية العقيدة والضمير والمساواة التامة بين المرأة والرجل، على طريق تأسيس العلمانية الحقة، بالإضافة إلى المساهمة في خلق الجبهة الشعبية التي تضم مختلف التشكيلات القومية والديمقراطية واليسارية، كوعاء تنظيمي لمواجهة كتلة الرجعيين والليبراليين والإسلاميين التي تسعى إلى عودة فلول النظام البائد، كما لعبت الجبهة دورا مهما في فضح الفساد والضغط على السلطات القائمة، من أجل تقديم بعضا من رموزه إلى العدالة، وما تزال تلعب دور المحرض للنضالات الشعبية، وتأجيجها حتى تحقيق مطالبها الملحة في العيش الكريم، وضد السياسات النيوليبرالية المملاة من طرف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
غير أن تجربة الحزب الشيوعي اللبناني تكتسي أهمية فائقة، لأنها تواجه ثلاثة أعداء، ترتبط مصالحهم أشد الارتباط بالطغمة المالية المتحكمة في شرايين المجتمع، والمستندة إلى نظام الطوائف الدينية.
العدو الأول: هو الامبريالية الأمريكية، والامبريالية العالمية، الذي يحاول تكريس وتوسيع اتفاقية سايس-بيكو التقسيمية وتحويل دول منطقة الشرق الأوسط إلى دويلات صغيرة وطائفية من أجل خدمة الكيان الصهيوني بصفته الدرك العسكري الذي يمنع تقدم ووحدة الشعوب العربية في المنطقة.
العدو الثاني: هو الكيان الصهيوني، الذي يسعى إلى التوسع والمزيد من احتلال جزء من الأراضي اللبنانية والسورية، بتنسيق مع أطراف سياسية محلية، وتمكن الحزب الشيوعي في هذا الإطار، من عقد تحالف استراتيجي مع حزب الله، وفرض معركة طويلة النفس، لصد العدوان الصهيوني وتحرير الجنوب اللبناني من غطرسة الكيان الصهيوني سنة 2006.
أما العدو الثالث: فهو نظام المشايخ والمماليك الخليجية، التي تمول مختلف التيارات الرجعية والدينية والتنظيمات السياسية والعسكرية من أجل استمرار نظام المحاصة الطائفي. ويتبنى الحزب الذكور سياسة للتحالفات جد معقدة، فهو من جهة يتحالف مع حزب الله في مواجهة “إسرائيل” الاستيطانية والعنصرية، لكنه يعارض سياسته على مستوى تدبيره دفة الحكم، ضد سياساته النيوليبرالية، كما يتحالف مع تيارات اشتراكية وقومية للدفاع عن نظام سياسيي ديمقراطي وتقدمي ومناهضة الحروب الامبريالية في المنطقة، وفي نفس الوقت يتحالف مع القوى التقدمية والديمقراطية في سوريا لدحر العدوين الامبريالي الأمريكي والصهيوني، من جهة ورفض أي تدخل أجنبي وكافة الأحلاف الرجعية والدفاع عن حق تقرير مصير الشعبين السوري واللبناني وحق العودة للاجئين الفلسطينيين والسوريين إلى وطنهما الأم.