حبيب الزموري
طوى معتصمو الكامور خيامهم بعد أكثر من شهرين من الاعتصام والصمود على مشارف مناطق استخراج النّفط بصحراء تطاوين، مطالبين بتحمّل الشركات النفطيّة والدولة لمسؤولياتها الاقتصادية والاجتماعية ووضع حدّ لعقود من الحيف في استغلال الثّروات الباطنيّة، ولم يكن هذا الاعتصام لينفضّ لولا تدخّل الاتّحاد العام التونسي للشغل بكلّ ثقله كوسيط بين المعتصمين والحكومة وكطرف ضامن لتنفيذ الإجراءات المقترحة من الحكومة المتمثلة أساسا في إحداث 1500 موطن شغل بالشركات البترولية منها 1000 موطن شغل ابتداء من جويلية 2017، إحداث 2500 موطن شغل بشركة البيئة والغراسة ابتداء من جوان 2017، تخصيص 80 مليون دينار لصندوق التنمية بالجهة، تشغيل فرد من عائلة الشهيد أنور السكرافي وفرد من عائلة الجريح عبد الله العواي، فضّ اعتصام الكامور فورا والالتزام بعدم التّتبّع الأمني للمعتصمين.
هل نجحت الحكومة في تصدير أزمة الثّقة إلى الاتّحاد؟
إنّ المطّلع على النّقاشات السّائدة في أوساط الشباب المعطّل عن العمل في تطاوين وأعضاء تنسيقيّة الاعتصام يلاحظ الحذر الشديد في تعامل المحتجّين مع الوعود الحكوميّة منذ بداية المفاوضات ليتطوّر هذا الحذر إلى انعدام ثقة فمقاطعة نتيجة التّصريحات اللاّمسؤولة لوزير التشغيل عماد الحمامي، ليتدخّل الاتّحاد العام التونسي للشغل كوسيط وضامن لتنفيذ تلك الوعود، وهي للأمانة ليست المرّة الأولى التي يتدخّل فيها الاتحاد للوساطة بين محتجّين والحكومة لفضّ إضراب جوع أو اعتصام وأكبر مثال على ذلك ملفّ المفروزين أمنيّا الذين علّقوا إضرابهم الشهير بناء على تطمينات من قيادة الاتحاد بتطبيق الاتّفاق من قبل الحكومة ولكن حكومات اليمين الرّجعي كانت وفيّة لتقاليدها في الالتفاف على الاتّفاقيات و لسياساتها القائمة على المخاتلة والمراوغة لتجاوز أزمة ما ولكنّها سرعان ما تجد نفسها غارقة في أزمة أخرى.
المثير للاستغراب حقّا هو مدى وعي قيادة الاتّحاد بأنّها تضمن في طرف لا يتردّد في التسويف والالتفاف حتى على اتفاقيات مبرمة؟ وتجربة الاتحاد مع هذه الحكومة بالذّات في المفاوضات الاجتماعية الأخيرة خير مثال على ذلك، ولكن بعض النقابيّين بتطاوين يذهبون إلى أنّ تدخّل الاتحاد في أزمة الكامور، بعد عجز الوفد الحكومي عن التوصّل لاتّفاق مع المعتصمين وانزلاقه إلى خطاب تجريم وتشويه الاحتجاجات، لم يكن إنقاذا للحكومة بقدر ما كان إنقاذا لمئات مواطن الشّغل المهدّدة لا سيما بعد تلويح عدّة شركات نفطيّة بتسريح عمّالها وإيقاف نشاطها بالجهة.
هل نجحت الحكومة في طمس قضيّة تأميم الثّروات الباطنيّة؟
لم يرفع المعتصمون ومؤيّدوهم مطلب تأميم الثروات منذ البداية بقدر ما كان هذا الشّعار ثمرة من ثمار تطوّر الحركة التي قادها المعتصمون وتطوّر الوعي والتنظيم الذي يحكمها حتى وإن كان لم يصل بعد إلى جذور القضية، قضية توزيع الثروة في بلادنا وعلاقتها بالقاعدة الاجتماعية للسّلطة القائمة التي تستميت في التّفنن في طرح الإجراءات والقوانين والمشاريع كلّما تعلّق الأمر بالدفاع عن مصالح اللّوبيات التي تحتكر الثروة في بلادنا وتدير علاقات الإنتاج بما يضمن ديمومة هذا الاحتكار سواء كان الأمر متعلّقا بالسياحة أو الصناعة أو الفلاحة وهو ما يفسّر تسارع نسق المفاوضات وتعدّد المقترحات الحكومية بالتّوازي مع صعود شعار التأميم ولو بصورة خافتة كما صعّدت مختلف الأجهزة الدعائيّة، التي تخدم مصالح نفس اللّوبيات التي يدافع عنها الائتلاف اليميني الرجعي الحاكم، من تشويهها وتجريمها للتحرّك الاحتجاجي لبنات وأبناء تطاوين.
لقد كان من مصلحة الائتلاف اليميني الرجعي الحاكم والأقليات المتمعّشة في ظلّه قطع الطريق أمام تطوّر الحركة الاحتجاجية بالكامور وتوسّعها نحو مدينتي الحامة وقبلّي وبداية اهتمام الرأي العام بقضية الثروات الوطنية بعيدا عن الأطروحات الشعبويّة التي ساهم الائتلاف اليميني الرجعي النهضاوي – الندائي في تغذيتها برفضه المصادقة على مشروع قانون يضمن الشفافيّة في إمضاء عقود استغلال الثروات الباطنية، فكلّما تنامى الضّغط الشعبي إلاّ وتسارع تساقط أوراق التّوت عن عورة هذا الائتلاف ليظهر على حقيقته أمام الشعب بما في ذلك من راهن عليه ومنحه ثقته كائتلاف يعادي الحقيقة ويعادي الشعب.
إنّ رفع شعار “تأميم الثروات الطبيعية” جزء لا يتجزّأ من مسألة السيادة الوطنية ولا ينبغي أن تتردّد القوى الثورية والوطنية لحظة واحدة في رفعه والدّفاع عنه مهما كانت الظّرفيّة المحليّة والإقليميّة والدوليّة معادية لهذا الشعار، كما أنّ تحميل مناضلي الكامور وِزْرَ خفوت هذا المطلب بإمضاء الاتفاقية مع الحكومة وفضّ الاعتصام فيه تجنّي كبير على أبناء وبنات تطاوين الذين يكفيهم فخرا أنّهم رفعوا هذا الشّعار في وجه سلطة ما فتئت تستهين بالسيادة الوطنية لبلادنا، سواء كانت سيادة اقتصادية أو ديبلوماسية بل حتى أمنية وعسكرية باستباحة البلاد من قبل أجهزة الاستخبارات الأجنبية وتوريطها في أحلاف رجعية.
إنّ معركة التأميم جزء لا يتجزّأ من معركة التحرّر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ومن يعتقد أنّه بالإمكان تحقيق شعارات الثورة التونسية دون تحقيق هذا الشعار المركزي فهو واهم، وبالتالي فإنّ معركة تأميم الثروات ليست معركة تطاوين بمفردها أو قرقنة لوحدها أو قفصة لوحدها بل إنّها معركة شعب بأسره مسلّح ببرنامج واضح الأهداف وتنظيم يستطيع مجابهة اللّوبيات فائقة التّنظيم والنّجاعة والتي لا تتردّد في الكشف عن وجهها الأكثر وحشيّة كلما اقتربت الطبقات الشعبية من كشف حقيقتها والمطالبة بنظام بديل لعلاقات الإنتاج وتوزيع الثروة وبالتالي بدولة جديدة تدافع عن أغلبية شعب ولا تدافع عن أقليّات.
إنّ تلك اللّحظة الثوريّة آتيّة لا ريب فيها مهما كانت ضراوة الأجهزة الموالية للأقليّة المتنفّذة وسيكتشف الشعب حقيقته وحقيقة النظام الذي يحول دون تحرّره وما على القوى الثورية والوطنية سوى الإيمان بما يختزنه هذا الشعب من قدرة على التّضحية والتحرّك ما انفكّ يعبّر عنها في كلّ فرصة حتى وإن حالت موازين القوى دون حسم هذه المعركة لفائدة الطبقات الشعبية بسبب التفوّق التنظيمي للأقليّة المتمعّشة من النظام القائم وتمكّنها من إعادة إنتاج النظام المدافع عن مصالحها.
هل حسمت المعركة في الكامور؟
لئن نجح النظام القائم تحت مظلّة الائتلاف اليميني النهضاوي – الندائي من تنفيس أزمته في تطاوين، في علاقة بملفّ الثروات الطاقيّة والشركات الأجنبيّة التي تستغلّها، بفضل نجاعة أجهزته القمعية والدعائية التي غطّت الفشل السياسي الذريع، فإنّ الكامور ليست سوى صفحة من تاريخ نضالات الشعب التونسي ستسجّل بالعرق والدّم رغم شراسة حملات التشويه والتجريم ورغم هيمنة الطّابع العفوي على التّنظيم.
إنّ أبناء وبنات الشعب التونسي قدّموا دروسا خلال السنوات الأخيرة في الصمود والتضحية وراكموا تجربة نضاليّة لم يسعفهم الاستبداد وانغلاق أفق الحريات اكتشافها ومراكمتها استعدادا لجولات قادمة.