لقد دأبت الامبريالية على اللجوء إلى سياسة الاغتيالات ضد الزعماء اليساريين كلما قلت حيلتها وأدركت أن هؤلاء باتوا يشكلون خطرا جديا على مصالحها. إنها تعمل دوما على تأبيد نظامها الرأسمالي المتوحش بكل السبل الخادعة خاصة عبر منابرها الاعلامية الدعائية، لكنها حينما تفشل في دلك ويصبح الأسلوب غير مجديا لافتضاح مشروعها الاستعماري فإنها تتخلى عن الآليات الناعمة وتكشر عن أنيابها وتفصح عن نواياها الحقيقية بطريقة فجة وفاضحة تعكس طبيعتها الدموية. قد يكون ما نشهده الآن في قضية رفع الحماية الأمنية عن الناطق الرسمي للجبهة الشعبية يندرج في اطار هدا المشهد المقرف أين تطغى سلطة المال ويداس الانسان وقيم الانسان وتستباح الأرض وينتهك العرض.
الترصد الدائم والمستمر للقوى الثورية من قبل الامبريالية
لا نبالغ في شيء حينما نقول أن هده المسألة دات بعد دولي وتتجاوز الاطار المحلي الضيق، حيث أن الشواهد على دلك كثيرة ومتعددة. زعماء يساريون عديدون في العالم تم اغتيالهم من طرف الامبريالية بسبب مواقفهم النضالية، ندكر من بينهم خاصة الرئيس الأسبق لبوركينا فاسو، طوماس سانكارا، الدي اغتالته المخابرات الفرنسية بالتنسيق مع صديقه كومبواري الدي قام بانقلاب ضده واغتاله سنة 1987 ، وكدلك رئيس فينزويلا، هوغو تشافيز، الدي قد يكون اغتيل، حسب العديد من الشهادات والتقارير، باستخدام مواد ذات درجة عالية من الإشعاع مثل تلك التي استعملت ضده خلال الزيارة التي أداها سنة 2006 إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما تفطن أمنه الرئاسي إلى وجود اشعاعات ضارة فوق الكرسي الدي كان سيجلس عليه.
الأول الدي كان يلقب بغيفارا إفريقيا تمت تصفيته بسبب مناهضة للامبريالية ورفضه للمساعدات الخارجية وتصديه لسلطة ونفوذ صندوق النقد الدولي، والثاني لمقاومته المستميتة لمصالح الأقوياء وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية ورفضه الخنوع والاستسلام لارادتهم وتسليمهم الثروات الهائلة لبلاده أين يوجد أكبر احتياطي النفط في العالم. هدا علاوة على السياسة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الوطنية والشعبية التي اعتمدها كل منهما والتي تعادي بالضرورة مصالح الامبريالية بما أنها كانت تهدف إلى تأسيس الاشتراكية.
إن القوى الاستعمارية تحاول دائما قطع كل الطرق وكل السبل أمام هؤلاء اليساريين حتى لا يصعدوا إلى سدة الحكم، وتتقهقر أمام ارادة الشعوب وتخضع لها مثلما فعلت سنة 1983 حينما تمكن القائد الثوري توماس سانكارا من الاستلاء على السلطة بواسطة انقلاب لاقى تأييدا شعبيا كبيرا، وكدلك مع البوليفاري تشافاز عندما انتخب من طرف أغلبية الشعب الفينيزويلي سنة 1999 بطريقة ديمقراطية لا غبار عليها.
لكنها لا تستسلم تماما وتبقى تترصد الفرص السانحة حتى تتمكن من القضاء على هؤلاء اليساريين الدين يقفون بالمرصاد ضد مخططاتها التخريبية، كما يتجلى دلك عبر المحاولات الانقلابية المتعددة التي نظمتها الامبريالية الامريكية ضد تشافاز والتي باءت جميعها بالفشل على غرار تلك التي نفدت سنة 2002 بالتنسيق مع القوى العميلة والمتواطئة معها في الداخل والتي اختطف خلالها وكاد يعدم لولا الانتفاضة الغير مسبوقة لشعبه وتدخل القوى العسكرية الوفية التي أعادته إلى السلطة بعد نحو 48 ساعة فقط. وأكبر مثال في هدا المجال يبقى الزعيم الكوبي الراحل، فيدال كاسترو، الدي تعرض إلى 638 محاولة اغتيال فاشلة طيلة حياته نفدت جميعها من قبل المخابرات الأمريكية.
توزيع الأدوار بين السادة والأدناب
وتبقى الامبريالية تعيد الكرة وتلاحق أعداءها إلى أن تتخلص منهم ودلك باستعمال طرقا متعددة كتلك التي استعملتها مثلا في البرازيل أين وقعت إقالة الرئيسة ديلما روسيف دات التوجه اليساري وسحب الثقة منها بدعوى شبهة فساد بالاعتماد على المحكمة العليا الفيديرالية واللجنة البرلمانية الخاصة المواليين لها، ويمكن لنا هنا أن نشير أيضا إلى ما حدث مؤخرا في فرنسا أين استعمل الاعلام الخانع الدي يخضع لسيطرة المال الفاسد لتشويه صورة مرشح اليسار جان لوك ميلانشان وازاحته من الانتخابات الرئاسية لفسح الطريق أمام منافسه المبتدئ في عالم السياسة وصنيعة الدوائر المالية ، إيمانوال ماكرون.
وعندما لا تجدي كل هده الأساليب الناعمة، فإن الامبريالية لا تتوانى عن استعمال القوة ضد خصومها حتى وإن تطلب الأمر تصفيتهم جسديا ، مثلما حدث مع الرئيسين سانكارا وتشافاز وكدلك مع الرئيس الشيلي من قبلهما، سالفادور ألاندي. كما اغتيل في تونس الزعيم النقابي، فرحات حشاد، من قبل المخابرات العسكرية الفرنسية ودلك بتنسيق تام مع رئيس حكومة الاستعمار المباشر آنداك، صلاح الدين البكوش، الدي هيأ الأجواء بالتحريض عليه.
تلك هي إدا الأساليب التي تعتمدها ضد كل من يقف في طريقها بالاعتماد على أدنابها وعملاءها الدين يخضعون تماما لاملاءات أسيادهم لتأمين بقائهم في السلطة والدين لا يمكن لهم بالتالي الاستمرار فيها بدونهم. تصريحات الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، بإعطائه الضوء الأخضر لأجهزة الاستخبارات الخارجية تنفيذ أربع عمليات اغتيال على الأقل تؤكد دلك.
إنها التصريحات التي وردت في كتاب أصدره صحافيان من جريدة لوموند يحمل عنوان “الرئيس لا ينبغي أن يقول هذا”، وقد دهب العديد من المراقبين والمحللين إلى الاعتقاد بأن هده الإغتيالات شملت شهيدي الجبهة الشعبية ، شكري بالعيد والحاج محمد البراهمي، بالإضافة إلى المحامي اليساري، فووي بن مراد، والناشط، طارق المكي. إدا فإن قرار التصفية الجسدية للمناضلين اليساريين يصدر دائما عن الدوائر الامبريالية والتنفيد يكون بأيادي داخلية مأجورة وعميلة.
هدا ما قد يكون يخطط حاليا ضد الناطق الرسمي للجبهة الشعبية بسبب مواقفه الراديكالية ضد حكومات قوى الثورة المضادة وعلى رأسها المنظومة القديمة التي لم تغفر لليسار إزاحته لها من السلطة يوم 14 جانفي وهي تعمل جاهدة بمعية حلفائها أساسا الإخوان حتى تنتقم منه وتعيد ترتيب البيت طبقا لما تقتضيه مصلحتهم وخصوصا المصلحة العليا لأصحاب الفضل الكبير عليهم في ما وصلوا إليه وحققوه من امتيازات، أي القوى الامبريالية الحامية لأركانهم.
الجبهة تفسد الزيجة وتفضح الأدوار
لكن تأتي الجبهة مرة أخرى لتفسد هده الزيجة وتعكر الأجواء بفضحها للصفقات المبرمة بين الطرفين مثل تلك المتعلقة بنهب الثروات الطبيعية الوطنية أو تلك المرتبطة بالدوائر المالية خاصة منها صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والتي تستهدف نسف النسيج الاقتصادي والاجتماعي للدولة التونسية كما يدل على دلك التصريح الأخير الدي أدلى به يوسف الشاهد خلال زيارته للولايات المتحدة الأمريكية لنائب مدير هدا الصندوق ودلك بتطمينه بأن “تونس ملتزمة بتنفيذ كل تعهداتها رغم صعوبة الأوضاع الإقتصادية”.
إن الجبهة الشعبية كانت ولا زالت وستظل دوما بالمرصاد لكل هده الصفقات التي تهدف إلى بيع الوطن ونهب ثروات شعبه، إن هده اليقظة المستمرة من طرفها هي التي تزعج وتربك الامبريالية والبورجوازية الكمبرادورية، بما أنها تستنهض الشارع وتحثه على المضي قدما حتى تحقيق النصر، كما يدل على دلك استمرار الحركات الاجتماعية خلال موسم الصيف خلافا للعادة.
هدا الدور الريادي الدي تلعبه الجبهة الشعبية والدي يراكم فيه الانجاز تلوى الآخر أصبح يقض مضجع الائتلاف الحاكم أكثر من أي وقت مضى خصوصا بعد أن أيقن بصفة قطعية أنه لا يمكن له ترويضها بتشريكها في السلطة حتى تكون ديكورا وشاهد زورا كما تجلى دلك في آخر محاولة له عند تأسيس ما يسمى بحكومة الوحدة الوطنية.
وحتى خدعته الأخيرة المتعلقة ب”محاربة الفساد” لم تنطل، حيث قام الناطق الرسمي للجبهة الشعبية بفضح الأمر بتأكيده أن المسألة لا تتعدى أن تكون تصفية حسابات بين أجنحة داخل السلطة وأن محاربة منظومة الفساد تستوجب وضع استراتيجية متكاملة وأن على الشاهد البداية بالتنظيف داخل حكومته إن كان جادا حقا فيما يدعي، ونتدكر جميعا كيف تعرض آنداك إلى حملة اعلامية شعواء.
وقد يكون استمرار تواجد حمة الهمامي ضمن الخمسة الآوائل في عمليات سبر الآراء التي قامت بها مؤخرا “سيقما كونساي” وجريدة المغرب وما له من انعكاسات مباشرة على انتخابات 2019 عاملا اضافيا يكمن وراء رفع الحراسة الأمنية عن الناطق الرسمي للجبهة الشعبية ودلك بعد تلقي الضوء الأخضر من طرف القوى الأجنية…
فوزي القصيبي