تمرّ هذا الأسبوع الذّكرى الستّون لإعلان الجمهورية يوم 25 جويلية 1957 من طرف “المجلس القومي التأسيسي”. وقد شكّل هذا الإعلان حينها حدثا مهمّا بل وتاريخيّا في منطقة ترزح تحت أنظمة عائليّة ملكيّة موغلة في الرّجعية والمحافظة، تربّعت منذ زمن على كراسي الحكم أو وقع وضعها عليه خدمة لمصالح الاستعمار الذي شمل مجمل الأقطار العربيّة والإفريقيّة والإسلاميّة.
لئن مثّل إعلان الجمهورية من قبل النّخبة السياسية لحزب الدستور خطوة مهمّة خلّصت البلاد من حكم العائلة الحسينيّة الذي امتدّ لقرون ولم تعرف معه تونس وشعبها سوى الاستبداد والعمالة والفساد، فإن النظام الجمهوري الجديد سرعان ما خيّب آمال الشعب والتفّ على مطالبه الأساسيّة التي رفعها قبل الاستعمار المباشر وأثنائه، فالجمهوريّة التي من المفروض ترادفها الديمقراطية في مختلف مستوياتها الاجتماعية والسياسية، فضلا عن تكريسها للسّيادة الشعبية التي لا معنى لها دون سيادة المواطنين على وطنهم وفي وطنهم، لذلك كانت الجمهورية منذ يومها الأول بتراء.
وقد أكّدت تجربة حزب الدستور في الحكم سواء في عهد بورقيبة أو عهد بن علي صحّة هذا الاستنتاج، فجمهورية بورقيبة بنت عرشها منذ الأول على العنف الدّموي والإرهاب المنظّم ضدّ رفاق الأمس وإخوة الكفاح. ففي تلك الأثناء كان محتشد “صبّاط الظلام” يعجّ بمناضلي التيّار اليوسفي الذي ناهضوا التوجّه البورقيبي، ولما تمّت تصفية التيّار اليوسفي التفت حكم بورقيبة إلى بقيّة التيارات السياسية والفكرية لتمتدّ محاكمات ومطاردات اليسار لعقود، ثم النقابيّين الذي تمسّكوا باستقلالية منظّمتهم فالقوميّين و الإسلاميّين والليبراليّين ونشطاء المجتمع المدني، كما كرّس بورقيبة حكما فرديا استبداديّا كان ينظر باحتقار للشعب ولتعدّد الآراء والمواقف، بل أن بورقيبة كان يعتبر نفسه هو من خلق الشعب التونسي من لا شيء، أي في كلمة كان يعتبر البلاد والعباد ملكا له لا غير، وقد وصل الأمر ذروته سنة 1975 حين أعلن نفسه رئيسا مدى الحياة بعد أن قنّن تبعيّة الجمعيّات والمنظّمات لحزبه (مؤتمر بنزرت 1964)، وحضر كل الأحزاب (جانفي 1963). وبذلك تكرّست سيطرة الشّخص والحزب على كل مفاصل الحياة، وتعرّض كل الخصوم والمعارضين للاستبعاد والاضطهاد.
صحيح أن الجمهورية الأولى كرّست بعض المكاسب التي تعود في الأصل لنضال الشعب التونسي ونخبه المستنيرة، أو للبعد الحداثوي لبورقيبة مثل إصدار مجلّة الأحوال الشخصية في 13 أوت 1956 مدّة قليلة بعد إعلان الاستقلال، وتوحيد القضاء والتعليم وحل الأحباس، إلاّ أنّه في المقابل وقع الالتفاف على المطالب الأساسية للشعب سواء ما يهمّ العدالة الاجتماعية أو الحريات العامة والفردية، سواء ما يهمّ تكريس الاستقلال الفعلي والحقيقي الذي ناضل من أجله الشعب وقدّم جليل التضحيات، فالاستعمار القديم وقع تعويضه باستعمار جديد، غير مباشر تجلّى في تعميق الارتباط بالرأسمال الاحتكاري العالمي وخاصّة الفرنسي والأمريكي منه، كما تجلّى من خلال تكريس الاستعمار الثقافي وخاصة لفرنسا التي حافظت على هيمنتها القديمة، وهذا وقد عرفت مظاهر الاستبداد والتبعيّة والفساد ذروتها مع نظام الجنرال الفاشي بن علي الذي حوّل تونس من سطوة الحزب و”المجاهد الأكبر” إلى حكم البوليس والمافيا والعصابة العائلية.
وقد بلغ الاعتداء على الحريات ومنعها حدّا غير مسبوق مما حول تونس إلى سجن كبير وصل فيه الظلم والقهر والتهميش ما خلق شروط ثورة هزت عرش هذا الطاغية وطرح على جدول أعمال الشعب إعادة تأسيس الجمهورية التي لم يعرف منها شعبنا سوى مظاهرها وقشورها ممّا حوّل تونس إلى نظام هجين هو في الأصل “جملكية” أي واجهة جمهورية حداثية للتّسويق والمغالطة، وفي الجوهر نظام ملكي، فرديّ مطلق، هو أقرب إلى الأنظمة العائلية والقبليّة المتخلّفة الموجودة حولنا هنا وهناك.
لقد أعاد شعبنا الثّائر طرح مهمّة إعادة تأسيس الجمهورية، لذلك فرض انتخاب مجلس وطني تأسيسي لإعلان بعث الجمهورية الثّانية على أسس صحيحة هي الأسس المدنية الديمقراطية الاجتماعية التي عملت الأغلبية الرجعيّة في المجلس التأسيسي على التصدّي لها في أفق دولة استبدادية جديدة هي الدولة الدينيّة التّيوقراطية التي تعمل حركة النهضة من أجلها. وقد ساهمت النّضالات الشعبية الواسعة والتي كان ثمنها تقديم شهداء، على رأسهم شهداء الجبهة الشعبية بلعيد والبراهمي وبلمفتي والعجلاني، في الحدّ من هذه النوازع الالتفافية وتمكّنت النّضالات العارمة في فرض دستور مدني ديمقراطي فيه المقوّمات الأساسية للجمهورية.
لكن وكما مع الجمهورية الأولى، هاهو حزب الدستور في نسخته اليوم “حزب النداء” يلتفّ على طموحات الشّعب باستعادة أفظع ما يمكن أن يمسّ النظام السياسي، وهو العودة إلى مربّع العائلة، وهو ما يتجلّى في قصر قرطاج بؤرة التآمر لإعادة العائلة ومنطق التّوريث والإعداد من الآن لانتخابات أكتوبر 2019 سواء بعودة منظومة المناشدة التي افتتحها وزير “التربية” السّابق ناجي جلول، أو بالعمل على فرض ابن الرئيس الذي يحظى اليوم بوضعية “الفاتق النّطق” مثله مثل أي بلد يخضع للاستبداد ولحكم العائلة، أي وضعيّة وليّ العهد التي يكرّسها واقعيا حافظ ابن الباجي الذي لا يختلف وضعه عن وضع أي ولي عهد في أنظمة الخليج.
إن هذا الحزب هو خطر فعليّ على الجمهورية تماما كما نوازع الاستبداد باسم الدين هي خطر عليها. وإذا تحالفت هذه النوازع، فإنّه لا خيار أمام الشعب وقواه التقدّمية إلا الوعي بهذا الخطر وتنظيم القوى للتصدّي للالتفاف على الجمهورية، وإنّ شعبنا الذي تصدّى بتماسك لدكتاتورية بورقيبة وفاشيّة بن علي والتفاف التّرويكا ثم الحلف المقدّس للنهضة والنداء، قادر على مواصلة السّير دفاعا عن الجمهورية المدنية الديمقراطية الشّعبية الإطار القادر فعلا على تحقيق السّيادة الشعبية والاستقلال الوطني والانعتاق الاجتماعي.
علي الجلولي