مواسم الحصاد، ورائحة البيادر تفوح من نهارات صيف 2017 ولياليها، حصاد سنة دراسية شاقة ارتهنت لتجاذبات عصية بين قطبي الرحى النقابة والسلطة. حصاد سنة سياسيّة عصيبة كادت تعصف بالبلاد في استشهاد السّكرافي بكامور، ومازالت تسير في بيت لزج برغوة الصّابون ومحمولة على السقوط وإحداث الزّلزال.. فقط هي الثقافة صمام الأمان وحارس المعبد الأخير حتى لا يقع على رؤوس الجميع..
حصاد السّنة الثقافية كان صراعا جامحا وعنيدا من أجل البقاء الفاعل والمؤثّر في السّاحة الإبداعية بمدينة القيروان من جهة وفي الحياة والنّمط الحضاري التونسي الممزوج برحيق القيم الإنسانية التي قوامها الحرية والتفاعل والاحترام وقبول المختلف والمناقض لنا من جهة أخرى..
وقد كان المركز الوطني للفنون الدرامية والرّكحية بالقيروان من أهمّ المحاور التي دارت حولها الصّراعات والتفاعلات، حينًا بالجدل الحضاري ومرّات بمزايدات “نضالية” تحمل في داخلها روح وعقلية انتهازية، كانت تُمارس من قبل البعض الذّين خوّلت لهم أنفسهم أنّهم أوصياء على الفعل الثقافي بالمدينة وأحيانا، وهو الأخطر، التّحريض من قبل بعض حملة الفكر المتحجّر الذّين وصل بهم حقدهم على الإبداع والمبدعين وعلى المركز الوطني للفنون الدرامية بالقيروان وبعض المؤسّسات الثقافية لأخرى إلى غلقها، وتحريض الناس ضدّها وضدّ الناشطين فيها، مستعملين في ذلك منابر المساجد، لاعبين على منطق المساس بالأخلاق الحميدة التي لا يملكون من أواصرها شيء.
في مثل هذا الجو المشحون برغبة الحياة والتحدّي الإنساني أينعت إبداعات المركز الوطني للفنون الدرامية بالأعمال الفنية وبالفعل الثقافي البنّاء، هذا الفعل الذي يضع نصب عينيه الإنسان بما هو قِيمٌ ومبادئ جمالية وحضارية:
- أكاديمية الممثل،
هي تجربة تأخذ بيد الهواة وتصقل مواهبهم وتسلّحهم بأبجديات المعرفة المسرحية، وبفعل التمثيل بما يعنيه من مسؤولية وانضباط ومشروع جمالي يهذّب الذائقة ويؤطّر ميولات الأطفال والشباب حتى يواجهوا إغراءات الانحراف نحو منزلقات الأمراض الاجتماعية المدمرة. تجربة امتدت على طيلة السنة لتتوّج بأعمال يضعون الشباب أولى خطواتهم في مواجهة الجمهور يختبرون خلالها جدّية وجدوى مسارهم، فترسّخ بذلك مصائرهم في عالم الإبداع والفن المسرحي مهندس وعي الشعوب عبر التاريخ. ولم يقتصر مركز الفنون على مدينة القيروان بل أشع على المدن المجاورة التي لا توجد بها مراكز فنون درامية، فأسس لأكاديمية الممثل بمدينة سوسة، وهي أكاديميات كانت تُدار تحت إشراف أساتذة تخرجوا من معاهد الفن المسرحي ولهم من الخبرة الإبداعية الكثير يسند زادهم المعرفي في التسيير والإشراف وهذا ما استشفّيناه من الأعمال التي توجت تلك التجربة في سهرة رمضانية جمعت الأطفال والشّباب أبناء الأكاديمية وعائلاتهم وهو جانب مهم عمل من خلاله المركز على إقحام العائلة و”توريطها” إيجابيا في مشروع الفعل الثقافي.
- الورشات:
هي ملامسة أخرى لمستطاع الذات المبدعة، فمن خلال هذه الورشات التي توزّعت على كلّ من مدينة القيروان ومدينة سيدي بوزيد ومدينة سوسة كانت المغامرة في اكتشاف مناخات جديدة تقطع مع التّقليدي والمتعارف في هندسة العمل المسرحي، فلا وجود لمخرج ولا موجّه ممثّل ولا كاتب نصّ، هو المبدع فقط في محاولة لتقمّص كل الأدوار والتحدّي في تجربة بحثية حريّ بها أن تُدرَّس كمبحث علمي ومعرفي في معاهد المسرح.. وقد تمخّضت التجربة عن أعمال مسرحية مهمّة، مثل “كوردا” و”لو” ومسرحية “غودو” التي تقوم بعروض في مسارح عالمية مثل مسرح “أفينيون” و”مونتبيليي” بفرنسا..
- أعمال مسرحيّة ومهرجانات:
مثّلت “أليس في بلاد العجائب” العمل المسرحي الموجّه للأطفال من أبرز إنتاجات المركز لهذه السّنة، إلى جانب العمل الذي أخرجه بشير القهواجي والتي سيقع نشر نصّها في كتاب لقيمة النّص. وشارك المركز في تنشيط الحياة الثقافية بالجهة وذلك ببعث بعض المهرجانات مثل مهرجان الأمل بمعتمدية العلاء، ومهرجان مسرح المدينة وملتقى المسارح والمسرح الحديث، كما عمل المركز على المساهمة في التظاهرات الثقافية الكبرى بالجهة مثل مهرجان ربيع الفنون بالقيروان ومهرجان “المونولوق”، كما ركّزت على الجانب الفكري عبر ندوة تناولت “رفع المقدّس على الفضاء المسرحي”.
- الأعمال القادمة:
يُعِدّ مركز الفنون الدرامية لعملٍ مسرحيٍّ نص وإخراج الدكتور حمادي الوهايبي، سيكون في السنة الثقافية الجديدة بعنوان “جويف” وهو مشروع يضاف إلى تجربة المركز وإلى رصيد المخرج الذّي أنجز في السنة الفارطة مسرحية حدث أثارت العديد من الجدل بعنوان “الصابرات” والتي حصدت العديد من الجوائز والعديد من المؤيّدين وفرزت الصفّ الثقافي بين مناصري الإبداع وأعدائه.. ومن المنجزات المهمّة للمركز كتاب فكري يطرح إشكالات المسرح والقضايا التي تهمّ الشأن الثقافي جهويا ووطنيا وقطاعياّ سيقع إصدار العدد الثاني منه. وقد وَسَمه المركز بعنوان “ينابيع” حتى يعمّ خصبه المشهد الثقافي..
حصاد يبشّر بإمكانية تغيير المشهد الثقافي عسى أن تعمل وزارة الإشراف على حلّ الإشكالات القانونيّة لهذه المؤسّسات، مثل القانون الأساسي والإشكالات الماديّة التي تمثّل عائقا حقيقيا في وجه تطوّره وإرساء وجه ثقافي وطني خلاّق.
وهيبة العيدي