بقلم مصطفى القلعي: كاتب وباحث سياسي تونسي
يدرك المفكّر في الشأن التونسي اليوم أنّ المعضلة الجدلية الكبرى التي تعيق مسار الشعب التونسي نحو تحقيق ما حلم به وما رفعه من شعارات إبّان ثورته الهادرة منذ ستّ سنوات ونصف هو العقل السياسي. فهذا العقل الذي يصنّف بكونه متقدّما على نظرائه في بعض الأقطار العربية كان الأكثر عرضة لاعتداء الإسلام السياسي. وطبعا هذا تجلّى في الصورة الحاصلة لدى التونسيين حول هذا العقل إذ يقيّمونه بكونه كسولا عجز عن مجاراة فورة الشعب ولم يكن جاهزا جهوزية الشباب المعطّل عن العمل والجهات المهمّشة المحرومة لتدارك النقائص والإخلالات والانتهاكات الفظيعة التي ارتكبها النظام السياسي الذي حكم تونس من مارس 1956 إلى جانفي 2011. طبعا هذا تقييم وليس محاكمة ولا تبخيس.
لكن الحقيقة التحفت بكثير من الأغشية لاسيما الإعلامية منها والبروباغاندية خاصة بعد أن أخذت وسائل التواصل الاجتماعي مكان المنابر الإعلامية في التعاطي مع الرأي العام وبعد أن أخذت المساجد والجمعيات الخيرية ودور حزب التجمع المحلول وماكيناته القديمة مكان مراكز الدراسات والبحث والمؤسسات المحكمة في التخطيط لتحويل وجهة الثورة من الإقدام إلى الإدبار.
هنا وقع الالتباس وتداخلت الخيوط بتعمّد طبعا لخلط الأوراق من أجل الالتفاف على الثّورة من قبل جهتين؛ النظام القديم المتمترس وراء مصالحه والإسلام السّياسي المدعوم بسيول مالية ضخمة بدأ الرأي العام الدولي يعترف للشّعب التونسي بمصادرها رغم أنّه كان سبّاقا في فضحها في شعاراته المرفوعة عاليا “لا أمريكا لا قطر.. شعب تونس شعب حر”، وذلك منذ طلوع رأس الإسلام السّياسي وتبجّحه برخائه المستفزّ أمام ضيق التونسيّين وصلف عيشهم في فترات حسّاسة كانوا فيها ضحيّة أسلوب التّرغيب بالمال السياسي المتدفّق على الجمعيّات الخيرية والأحزاب الإخوانيّة والسّلفية، من ناحية، والتّرهيب بسيل السّلفيين الجارف الذي غزا شوارع مدن تونس ومساجدها وأريافها وحقولها.
أول عملية صدّ واجهها العقل السياسي التونسي من قبل الإسلام السياسي كانت لما كان المشهد السياسي ملتبسا إبان سقوط نظام بن علي فقرر هذا العقل السياسي بعد تردد أن يختار فكرة المحو والبدء من أول على فكرة إصلاح الموجود. فكان قرار إيقاف العمل بدستور 1959 وحل المجالس المتعلقة به كمجلس النواب والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ومجلس المستشارين والذهاب رأسا نحو انتخاب مجلس تأسيسي له مهمة واحدة هي كتابة دستور جديد لتونس.
لم يكن للإسلام السّياسي أي دور في هذا الاختيار لأنه لم يكن قادرا على التّقييم والمبادرة باعتباره لم يكن مقيما في تونس ولا قدرة له على التفكير في الشّأن التّونسي والتأثير فيه عبر المداخل العقليّة والفكرية والمؤسّساتية الاستشرافيّة. ولهذا اشتغل بأدواته الشّعبوية الدّخيلة على المشهد التونسي وغير الأصيلة والتي تقوم على أدوات شوفينيّة تصنّف المواطنين والنّاشطين عبر ما يُظهِرونه من إيمان وتقوى لا عبر برامجهم وأفكارهم وبدائلهم، وهذا ما رآه التونسيّون مطلع حكم التّرويكا، إذ حرص وزراء حركة النهضة على ترويج صورهم وهم يؤمّون المصلّين في مكاتب الوزارات. وهذا ما حاول دستور 2014 تلافيه عبر التّنصيص على حرّية الضمير فيه.
فلم يرفض الإسلام السّياسي مقرّرات العقل السّياسي التونسي وإنّما عمل على احتوائها واستلابها وتحويل وجهتها لفائدته. ههنا تلقّى العقل السّياسي التونسي الضّربة القاصمة التي جعلته يترنّح إلى اليوم فاقدا روح المبادرة. فالإسلام السّياسي لم يكن كما قلنا وراء فكرة إجراء انتخابات تأسيسيّة ولكنّه وظّف كل إمكانيّاته ليكون المستفيد منها. يعني بعبارته لم يختر الخلاف بل تحرّك داخل الإجماع. بعبارة أخرى العقل السّياسي التونسي فكَّرَ والإسلام السياسي غنم من الفكرة. وكان ذلك أيضا عبر الأدوات الديمقراطية التقليدية بدأت بتحويل حركة إخوانية إلى حزب سياسي يشارك في انتخابات ويفوز بها ويتسلّم مقاليد الحكم. ولا أحد يمكن أن يعترض على هذا.
وبعد اندفاعاته الكبيرة بعد الثورة وجد العقل السياسي التونسي نفسه بعد أوّل انتخابات ديمقراطية شفّافة ونزيهة أُدِيرت بدهاء منقطع النّظير من قبل تكتيكات الإسلام السياسي، وجد العقل السياسي التّونسي نفسه منكفئًا إلى الوراء يدافع عن مكتسباتٍ كان يعتقد أنها راسخة ثابتة لكنّ الإسلام السّياسي كرّس جهوده لتقويضها كالمجتمع المدني، حيث عاد الحديث عن المجتمع الأهلي، والديمقراطية إذ بدأ تنفيذ خطّة محكمة لاستهدافها باعتبارها وليدة الفكر الفرنجي “الكافر” ولابدّ من استبدالها بالشّورى، والدستور المدني، إذ شرع الجماعة في الحديث عن الشّريعة مصدرا للحكم، والتداول السّلمي على الحكم وقد بدؤوا في التّرويج لمفهوم التّمكين والحقّ الإلهي في الحكم…إلخ
طبعا لم تكن هذه الخطوة إلى الوراء اعتباطيّة، فقد خطّط الإسلام السّياسي لإغراق العقل السّياسي التونسي في نقاشات عقيمة ولكنّها ضرورية ولا فكاك منها، إذ لو تراخى عن طلبها التونسيّون لكانت تونس اليوم إمارة مُؤَفغنة خلافا لإرادة شعبها ونخبها. ولكن الإسلام السّياسي كان يعمل بالسّرعة القصوى في اتّجاهين: اتّجاه النقاش العلنيّ حول المفاهيم الكبرى تحت عناوين حرّية الرأي وتكريس إرادة الشّعب المتجسّدة عبر الانتخابات، والمراجعة الضروريّة للخيارات العلمانية التي أبعدت التونسيّين عن دينهم حسب شعارات ممثّلي الإسلام السياسي في تونس بمختلف أذرعهم السّياسية والخيريّة والدّعوية والسّلفية والتكفيريّة.
ومقابل مخطّط الإغراق هذا كان الإسلام السياسي يعمل على مبدإ التّقويض الأساسي الذي يستهدف عمق المجتمع في الفضاءات المسجديّة المُسْتولى عليها وفي الملاعب والجمعيّات الرياضية والجمعيّات القرآنية ورياض الأطفال، من ناحية، ويستهدف طاقات الشّباب الحيّة المتوثّبة في الجامعات وفي الأحياء والقرى والأرياف حيث يتكدّس المعطّلون عن العمل الذين أدركهم اليأس أو كاد وصاروا لقمة سائغة للتّجنيد لتنفيذ المخطّط الأكبر للإسلام السياسي.
ولم تكن بيد العقل السياسي التّونسي حِيَل كثيرة للتصدّي لهذا المخطّط الذي يهدّد جدّيا تونس ومستقبلها. فواجه بكلّ ما يملك وبكل ما تعلّم من وسائل مدنيّة سلميّة من أجل الدفاع عن مكتسباته وعن مساره الذي انحرف به الإسلاميّون. ودفع الثمن غاليا من دماء نشطائه السّياسيين من قادة التّنوير مثل الشهيدين شكري بلعيد ومحمد براهمي ومن أبناء الوطن من الأمنيّين والعسكريّين الذي يقدّمون دماءهم متصدّين لألغام الإرهابيّين وبنادقهم وخناجرهم.
وبعد ستّ سنوات ونصف من جولان الإسلام السياسي في الشأن التونسي وعبثه فيه وانحرافه بمساره، وجد العقل السّياسي التونسي بلده، غارقا في نسبة مديونيّة قدرها 63.7 بالمائة من النّاتج المحلي الخام وميزانيّته تعاني عجزا قيمته 5.4 بالمائة ونسبة بطالة فاقت 15.6 بالمائة. ومع ذلك كلّه مازال الإسلام السياسي شريكا في الحكم في تونس محافظا على كلّ مواقعه ومصالحه.