أجرى رئيس الدولة يوم الاثنين الفارط (4 سبتمبر الجاري)، حوارا صحفيا مع جريدة “الصحافة”. وفي رأينا فإن هذا الحوار يستحقّ الردّ. فما جاء فيه يكتسي خطورة إذ هو يعكس، على الأقل، جزءا من المخطط الذي يدبّره رئيس الدولة ومحيطه للانقلاب نهائيا على مسار الثورة التونسية والعودة بالبلاد إلى مربّع النظام القديم لتستقرّ الأوضاع من جديد للفئات الاجتماعية الطفيلية التي استفادت دائما من ذلك النظام وتستمرّ معاناة الطبقات والفئات الكادحة والفقيرة التي ثارت من أجل تغيير حالتها.
وبالنظر إلى ضيق المجال فإننا سنكتفي في هذا الردّ بالتطرق إلى أهم النقاط الواردة في الحوار:
1ـ في النظام السياسي:
لقد خصّص رئيس الدولة معظم كلامه للنظام السياسي الناجم عن دستور 2014. وهو لم يخف رغبته في مراجعة هذا النظام بدعوى أنه “شاذّ” و”تتداخل فيه الصلاحيات” و”تتمتع فيه بعض الهيئات باستقلالية مشطة”، بل إنه ذهب إلى حدّ إٍرجاع مسئولية التعطل الذي تعيشه البلاد إلى هذا النظام دون أن يقدّم دليلا واحدا على ذلك ودون أن يبيّن كيف أن تحوير الدستور سيمكّن من تجاوز ذلك التعطّل.
إن النظام السياسي الحالي رغم كل ما يمكن أن يعاب عليه يظل، نسبيا، الأصلح لبلادنا في الظرف الراهن. فهو نظام مزدوج، يعطي للسلطة التشريعية، مسؤولية تكليف الحكومة ورقابتها ويضمن التوازن بين طرفي السلطة التنفيذية أي الحكومة والرئاسة، ويوفّر للسلطة القضائية استقلاليتها علاوة على أنه يضع لأول مرة أسس السلطة المحلية والجهوية ويرسى حجر أساس المؤسسات الدستورية ذات الدور الرقابي في المجال التشريعي والقضائي والإعلامي والحقوقي.
أما التعطّل الموجود اليوم أو بالأحرى أزمة الحكم القائمة فلا تعود في الأساس إلى طبيعة النظام السياسي بل أوّلا وقبل كل شيء إلى فشل الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية التي ينتهجها الائتلاف الحاكم والتي أوصلت البلاد إلى حافة الإفلاس والانهيار. أضف إلى ذلك الصراع الضاري واللامبدئي على المواقع داخل “النداء” خاصة والائتلاف الحاكم عامة. وقد كان رئيس الدولة وما يزال، وخلافا لما يتظاهر به من حياد ومن تفكير في “المصلحة العامة”، أحد اللاعبين الرئيسيين في هذا الصراع. فهو الذي يغذّيه ويديره ويوجّهه بما يخدم مصالحه ومصالح عائلته والمقربين منه وهو ما جعله جزءا من المشكل لا جزءا من الحل.
وقد كان الأجدر برئيس الدولة أن يعترف بهذا الفشل وأن يبحث عن سبيل مواجهته الذي تراه الجبهة الشعبية في انتخابات عامة مبكرة لاستفتاء الناخبين والناخبات من جديد فيما يريدونه للخروج ببلادهم من الأزمة الخانقة التي تتردّى فيها.
ولكن رئيس الدولة الذي تربّى على ثقافة سياسية استبدادية، لا يمكن أن يفكّر في مثل هذا الحل، فهو يريد أن يلتفّ على المسار الديمقراطي وعلى الدستور ويلغي الفواصل بين مختلف السلطات ليجمعها بين يديه و”يحكم وحدو”، كما قال في أحد الأيّام، ليغلق “قوس الثورة” ويفرض على الشعب، عبر حكم فردي مطلق، شبيه بحكم بورقيبة وبن علي، كل الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية المعادية للشعب والوطن والمملاة من الخارج والتي ستشكّل هذه المرة العمود الفقري لميزانية سنة 2018 التي ستكون أصعب سنوات ما بعد الثورة على الشعب التونسي.
ومن هذا المنطلق فإن من واجب القوى الديمقراطية اليوم التصدي لمراجعة الدستور، التي ستكون، إن حصلت، من أخطر الخطوات التي تقطعها الثورة المضادة للالتفاف على المسار الثوري والديمقراطي في بلادنا.
2ـ في الثورة والعدالة الانتقالية
من الواضح أن من المسائل التي تؤرّق رئيس الدولة في هذا الحوار هو العدالة الانتقالية. فهو لا يؤمن بها وله رغبة في نسفها ونسف هيئة الحقيقة والكرامة التي تتولى الإشراف عليها. وقد قدم رئيس الدولة لكلامه عن العدالة الانتقالية بالحديث عن الثورات في تونس زاعما أن “الاحتجاجات والثورات في تونس لحظات تكثّف الغضب والمطالب ثم تنتهي وتزول”. ولا يخفى أن مقصد كلام رئيس الدولة، هو أن الثورات مجرد أقواس تفتح لتغلق سريعا وتتم العودة إلى النظام القديم، وبمعنى آخر فقد آن الأوان لتنتهي ثورة الشعب التونسي الحالية.
إن الثورات لحظات فارقة في تاريخ الشعوب. وهي لا تحصل كل يوم. والثورات يمكن أن تنجح وتحقق هدفها كما يمكن أن تفشل مؤقتا لتشتعل من جديد في وقت لاحق. وقد عرف الشعب التونسي في تاريخه انتفاضات واحتجاجات كبرى، وانتهت لا رغبة من الشعب التونسي في إنهائها بل لأنها أغرقت في الدم. ولكن ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011 اختلفت عن سابقاتها لأنها حقّقت انتصارا على الدكتاتورية وأسقطتها. ولكنها لم تصل إلى النهاية ولم تؤدّ إلى تغيير النظام الاقتصادي والاجتماعي. وما يزال المسار الثوري متواصلا إلى اليوم. والثورة المضادة تسعى إلى إجهاضه بكل الوسائل.
وقد سعى الباجي قايد السبسي دائما إلى تقزيم هذه الثورة زاعما أنها مجرد حركة شبابية عفوية، لا قيادة لها، حتى يلغي عمقها الوطني والديمقراطي والاجتماعي وينفي كل دور للقوى الديمقراطية والتقدمية فيها ويتنكّر للتراكمات التي هيّأت لها ويسمح لنفسه بركوبها وبالتآمر ضدّها. وهو ما فعله ويفعله منذ عودته إلى السلطة عام 2011. وهو ما يريد أن يفعله اليوم أيضا، سواء من خلال مراجعة الدستور كما أوضحنا أو من خلال الانقلاب على مسار العدالة الانتقالية التي يقدّمها على أنها وصفات “ثأرية” و”حقدية” تحملها “مشاريع سياسية متطرفة”.
إن الهدف من العدالة الانتقالية، هو كشف الحقائق وتفكيك منظومة الاستبداد والفساد السابقة وفهم آلياتها وتحميل كل طرف مسؤوليته ومحاسبته عما فعل ووضع الأسس والآليات لاجتناب إعادة إنتاج تلك المنظومة. وهو ما تم في معظم البلدان التي مرت بأنظمة دكتاتورية، دموية وحصلت فيها ثورات أو عمليات انتقال ديمقراطي. ولا يمكن أن يكتب النجاح للعدالة الانتقالية إلا إذا توفّرت للهيئة القائمة عليها ظروف العمل باستقلالية ووضعت على ذمتها الإمكانات البشرية والمادية والتقنية الضرورية.
ولكن الباجي قايد السبسي ليس من أنصار هذا التمشي، أوّلا لأنه طرف في المنظومة السابقة التي ثار عليها الشعب التونسي ومن مصلحته طمس الجرائم التي ارتكبت وتشريع الإفلات من العقاب وثانيا لأنه، وحزبه، بصدد رسكلة رموز النظام السابق وإعادتهم إلى الخدمة. وليس أدل على ذلك العودة الملحوظة لعديد الوجوه القديمة في الصفوف الأمامية لنداء تونس وفي حكومة الشاهد الجديدة. وهو ما يفسّر سعي رئيس الدولة إلى تمرير ما سمّاه قانون المصالحة وهو قانون لا هدف منه سوى العفو على من أذنب في حق الشعب والوطن دون مساءلة ومحاسبة.
وهنا لا بد أيضا من التحلّي باليقظة والتصدي لكل محاولة لنسف مسار العدالة الانتقالية وعدم الخلط بين هيئة الحقيقة والكرامة كمؤسسة وبين تركيبتها القابلة للنقد والمراجعة.
3-في العلاقة بحركة النهضة
تطرق رئيس الدولة في حواره إلى العلاقة بحركة النهضة. وقد ادعى أنه اضطرّ اضطرارا، بعد انتخابات 2014، إلى التحالف مع هذه الحركة لأن الأحزاب التي كانت تصنّف “مدنية” لم تكن مستعدة “لالتقاط الفرصة من أجل سد الطريق أمام من كان يسعى على الدوام إلى شكل من أشكال “الردة المجتمعية”. وهذه مغالطة أخرى.
فقد كنت ورفاقي في الجبهة الشعبية شاهدين على ما ردده على مسامعنا السيد الحبيب الصيد عند مناقشة تركيبة الحكومة آنذاك. فقد أعلمنا بوضوح أن رئيس الدولة يرغب في التحالف مع حركة النهضة لإكساب حكمه أغلبية عريضة في البرلمان. وهو نفس ما سمعناه في اجتماع مع قيادات نداء تونس في نفس الفترة. كما كان وقتها بعض مستشاري الرئيس ينظّرون للتحالف الاستراتيجي مع “الإسلام السياسي”. وكان الباجي نفسه يقول إن التحالف ضروري “حتى نحصل على الإعانات من الخارج”. وهو ما صرّح به رئيس حركة النهضة أيضا إثر زيارة لوفد من صندوق النقد الدولي. وبشكل عام فقد كان المناخ الإقليمي والدولي في أواخر عام 2014 يدفع نحو هذا التحالف اليميني الذي يدافع عن نفس الخيارات الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة.
وقد كانت الجبهة الشعبية رافضة لهذا التوجه، متبنية برنامجا ذا طبيعة أخرى مطالبة أيضا بالكشف عن حقيقة الاغتيالات السياسية وبمحاربة الإرهاب بصفة جدية وشاملة.
ولكن لماذا يبدو الباجي اليوم وكأنه “ضجر” من تحالفه مع النهضة؟ وهل يمكن تصديق أنه “نادم” عما فعله وأنه قد يتخلى عن هذا التحالف؟ في رأينا لا ينبغي الانخداع بكلام رئيس الدولة. فتحالفه مع حركة النهضة ما يزال قائما وهو ما يزال في حاجة إليه. ولكن زمن الانتخابات قرب والباجي يريد لعب ورقة الحداثة لاستعادة القاعدة الانتخابية التي خسرها. زد إلى ذلك الظرف الإقليمي. فالرياح ليست لفائدة “لإخوان المسلمين” كما كانت في الماضي وهو ما يعطي الباجي هامش مناورة أوسع اليوم ليفرض بعض شروطه على حليفه ويخضعه ولكنه لن يتخلى عنه، فالمصالح ماتزال تشدّهما بعضا إلى بعض.
بقلم : حمّه الهمامي
نشر بجريدة المغرب ص 8 يوم 10 / 09 / 2017