بقلم: حمه الهمامي
من داخل «لجنة الحريات الفردية والمساواة»، تفيد أن هذه اللجنة سائرة نحو تقديم مقترح المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة «كحالة اختيارية (….) لا بقانون عام يلزم الجميع». وأضاف رئيس تحرير «المغرب»: لو صحّ هذا التمشي فسنكون ضرورة في الطريق الخطأ وسنضيّع على البلاد فرصة تاريخية لأنّ لا شيء يؤكّد أننا سنجد شروطها وإمكانيتها من جديد (…) إن قانونا يبيح المساواة في الميراث كاختيار لا يضيف شيئا الى الوضعية الحالية ولا يؤسس لحقوق جديدة».
هذا ما كتبه زياد كريشان. وهو ما أكّده، تقريبا، عضو اللجنة المذكورة، صلاح الدين الجورشي، الذي أفاد في تصريح للصباح الأسبوعي بتاريخ 22 جانفي الجاري بأن النقاش في اللجنة دار حول إمكانية «توفير الفرصة للبنت أو للأخت أو الزوجة حتى يصبح من حقّها المطالبة بالمساواة في الإرث أي أنه إذا ما طالبت بذلك فإن القانون سيطبّق مبدأ المساواة بينها وبين الرجل وإذا لم تفعل فإن هذا القانون لن يكون ملزما». وبعبارة أخرى لو صحّ كلام الجورشي وانتهت اللجنة إلى مثل هذا الموقف فإن ذلك يعني أن الحسابات السياسية الضيقة تكون قد طغت على قيمة المساواة.
وفي كلّ الحالات فإنَّ القادم من الأيّام سيبيّن لنا بشكل واضح مدى صدقية صاحب المشروع، أي رئيس الدولة، ومدى جدّية اللجنة التي كوّنها وصرف عليها من المال العام. إن الحقّ لا يتجزأ، فمن يؤمن به يدافع عنه حتى النهاية، وحين يكون في موقع القرار، أي في الحكم، فعليه أن لا يتردّد وأن يقرّ هذا الحقّ، ويحوّله إلى قانون حتى وإن اقتضى منه ذلك الصراع ضد التيار. فلا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يحصل إجماع حول مسألة كمسألة الميراث، أو غيرها من المسائل الإشكالية في مجتمعنا وغيره من المجتمعات العربية الإسلامية التي ما تزال فكرة المساواة بين البشر ومن باب أولى وأحرى المساواة بين الرجل والمرأة، لم تحسم عندها من حيث المبدأ.
إن فكرة التمييز، أو اللامساواة ماتزال راسخة في ثقافة غالبية مجتمعاتنا العربية والإسلامية ومفاهيمها. فهذه المجتمعات تنظر إلى التمييز على أنّه أمر «عادي» و»طبيعي». فالرجل والمرأة لا يتساويان، والمسلم وغير المسلم لا يتساويان، حتى ولو كانا من الوطن الواحد والشعب الواحد، والعرف والعامل لا يتساويان. وكذلك السني والشيعي إن كان الحاكم المستبد سنيا والعكس بالعكس الخ…وهو ما يعني أنّ أحد مرتكزات المجتمع الحديث، ونعني به تنظيم الدولة على أساس مبدأ المواطنة دون اعتبار للجنس أو الدين أو العرق أو اللون، لم يتوفّر بعد في مجتمعاتنا التي تطورت تطورا مشوّها بفعل الاستعمار وعملائه المحليين من القوى الاجتماعية الرجعية.
ورغم أنّ تونس توفرت لها فرصة لتحوّل نوعي مع ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011، فإنّ هذا التحول تعطّل، لأن الثورة التونسية وقفت في منتصف الطريق، فأسقطت الاستبداد، دون أن تعوّضه بنظام جديد، قادر على تحقيق التحولات الثورية الضرورية في البنية التحتية للمجتمع كما في بنيته الفوقية، السياسية والفكرية والحقوقية والثقافية. فالقوى التي ظلّت تسيطر على الدولة والمجتمع، هي «قوى قديمة محافظة» بالمعنى الاجتماعي والفكري، وهي تجد اليوم تعبيرتها السياسية في التحالف «النداء ـ النهضة» (دساترة وأخوانجية كما يردّد الشباب). وقد أعطى وجود «النهضة» «الأخوانية»، التي تستخدم الدين أداة لتعطيل تحول المجتمع التونسي إلى مجتمع حديث متناسق ومنسجم، طابعا أكثر محافظة لهذا التحالف.
إن تحالف «النداء ـ النهضة» هو أحد العوامل الأساسية التي تفسّر التباطؤ في تكريس ما جاء في الدستور من مبادئ تساوي بين كافة المواطنين ومن باب أولى وأحرى بين الرجل والمرأة (الفصل 21 والفصل 46) بما يعني ذلك من مراجعة للمنظومة القانونية بكاملها لتطهيرها من كافة مظاهر التمييز بين الجنسين. ومن نافل القول إن أخطر ما يحصل هو التذرّع بالدين لرفض التقدّم بمجتمعنا وتحقيق الحد الأدنى للدخول به نهائيا إلى مجتمع الحداثة وهو إقرار مبدأ المساواة القانونية بين البشر، في انتظار تغييرات ثورية، جذرية، تحوّل تلك المساواة القانونية إلى واقع فعلي. إنّ من بين ما يعمد إليه الرجعيون بمختلف أصنافهم هو تلبيس ما هو سياسي واجتماعي وثقافي وأخلاقي، بما فيه من طابع نسبي وانتقالي، بلبوس ديني، قدسي لإكسابه طابعا ثابتا، أزليا، صالحا لكل زمان ومكان، لضمان مصالحهم الأنانية وتحويلها إلى «مقدس» غير قابل للتغيير واعتبار كل مساس بها كفرا وإلحادا.
إن مسألة الميراث، المثارة منذ مدّة، هي من بين المسائل التي شُوّهت طبيعتها. فمن مسألة اجتماعية خالصة حُوِّلت إلى مسألة دينية، عَقَديّة، وحُنّطت عن طريق فقهاء وأتباع تحرّكهم نظرة ذكورية معادية للمرأة. والميراث مسألة اجتماعية لأنه يهمّ أسلوب توزيع الثروة داخل العائلة. ومن البديهي أن يرتبط أسلوب توزيع الثروة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية لكل عصر وبالتالي بموقع الذكور والإناث في العلاقات الاجتماعية السائدة في ذلك العصر. ومن المعلوم أن موقع النساء في هذه العلاقات قد تحرّك عبر العصور ولم يبق ثابتا، بسبب تحرّك/تغيّر أساليب إنتاج الثروة والعلاقات الاجتماعية النابعة عنها. وقد عرف موقع الإناث تغيّرا هائلا بشكل خاص مع ظهور النظام الرأسمالي في العصر الحديث وحاجته إلى قوة العمل النسائية.
كانت القاعدة في قريش وفي الحجاز عامة أن لا ترث النساء لأنّهن «لا يَحُزْن الغنيمة ولا يقاتلن على ظهور الخيل». وكان الحرمان من الإرث يشمل الصغار من الذكور لنفس الأسباب المتعلقة بنمط الحياة الاجتماعية التي يقوم فيها الكبار من الذكور بدور أساسي في حماية القبيلة وتوفير الغذاء لها. وتذكر كتب التاريخ أن من ابتدع قاعدة «للذكر مثل حظ الأنثيين» هو القرشي «ذو المجاسد»، عامر بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر. كان له بنات فخيّر أن يترك لهنّ جزءا من ثروته. (جواد علي. المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج5، ص562).
وحين ظهر الإسلام، أخذ هذه القاعدة، كما أخذ قواعد وأحكاما أخرى معمولا بها عند قريش وقبائل عربية أخرى (قطع يد السارق، الجلد الخ…) وعمّمها. وكون الإسلام أخذها وعمّمها لا ينفي إطلاقا طابعها النسبي. لا ينفي كونها «نتاجا تاريخيا» نابعا من واقع اجتماعي محدد، ويخطئ من يصبغها بصبغة إطلاقية ويجعل منها قاعدة مِيتَا- تاريخية (فوق التاريخ وخارجه) لأنّ الإسلام ذاته لم يكن خارج التاريخ بل كان نتاجا من نتاجاته، بمعنى أنه جاء في زمان ومكان محددين، ضمن علاقات اجتماعية محددة، ولم تكن أحكامه خارجة عن تلك العلاقات التي نبع منها وأثر فيها وعمل على تطويرها ضمن سياق تاريخي، لم يكن ليخرج عن قوانينه الموضوعية وبما تسمح به من تقدّم. وقد كان ما جاء به الإسلام في خصوص المرأة إصلاحا ذا أهمية كبيرة إذا أخذنا بعين الاعتبار ما كانت عليه أوضاع المرأة بشكل عام من تخلّف في ذلك الوقت.
لقد نسّب الطاهر الحداد، أحد أهم رموز الإصلاح في تونس في الثلث الأول من القرن العشرين، «حكم الميراث» الوارد في النصّ ودعا إلى تجاوزه بإقرار مبدأ المساواة بين الجنسين مستندا إلى تغيّر الواقع الاقتصادي الذي تغيّر معه موقع المرأة في العلاقات الاجتماعية. فقد خرجت إلى الشغل. وأصبحت تسهم في إنتاج الثروة الاجتماعية وفي الإنفاق على العائلة وهو ما يجعل الحفاظ على اللامساواة في الإرث أمرا تجاوزه الزمن. كما يجعل تبرير هذا الحفاظ بحجج دينية أمرا غير معقول، «لأن ما كان للمرأة في الماضي ليس ناشئا عن جوهر خلقتها وإنما كان فصلا من فصول حياتها الطويلة» (الطاهر الحداد- امرأتنا في الشريعة والمجتمع) أي فصلا من فصول الاضطهاد الذكوري المسلّط عليها.
ومن باب أولى وأحرى أن لا ينزل الإصلاح اليوم إلى أقلّ مما طالب به الحداد منذ قرابة التسعين سنة أي المساواة في الميراث التي تمليها ظروف اليوم والتي أصبحت مبدأ قانونيا إنسانيا عامّا إلاّ لدى حفنة من الأنظمة العربية والإسلامية الاستبدادية والمتخلفة. إن مجتمعا تونسيا ألغى الرق منذ عام 1846 وكان سبّاقا في إلغاء تعدد الزوجات وفي تمدرس البنات وإلغاء العديد من مظاهر التمييز لحقيقٌ بأن يتخلص من آخر مظاهر التمييز الجنسي في المستوى القانوني على الأقل، بما في ذلك في مجال الميراث، في انتظار الأهم والأعمق ألا وهو المساواة الفعلية أي في الواقع. ولا يمكن اعتبار المسلم الذي يواكب هذا التطور مرتدا عن دينه أو متنصلا من هويته كما يحاول تجار الدين وأنصار الظلام الإيهام به. إن هوية المسلم ليست مرادفا لاضطهاد المرأة وتعدد الزوجات واستعباد البشر وقطع الأطراف وغيرها، فإن تخلى عن هذه الأحكام تخلى عنها، بل إن الهوية ظاهرة متحركة ومتطورة من عصر إلى عصر، تستوعب التقدم وكلّ ما فيه من خدمة لتحرير الإنسان من كافة أشكال الاستلاب الفكري والاقتصادي والاجتماعي، ولا يمكن أن تكون بأي شكل من الأشكال جامدة وثابتة لأن ذلك يعني الموت.
وما من شك في أن السؤال الذي سيطرح على الذين يرفضون اليوم هذه المساواة بحجة الدين، لماذا هم قبلوا إذن إلغاء الرق وتعدد الزوجات والجلد وقطع يد السارق وغيرها من الحدود؟ أليست هي أيضا من «الدين» وفقا لمنطقهم الذي يستعملونه في حكم الميراث؟ أم أنهم قبلوا إلغاء تلك الأحكام غصبا عنهم ودون اقتناع وأنهم لو توفرت لهم الفرصة لانقلبوا على هذا المكاسب و»تدعّشوا» من جديد عادوا بمجتمعنا إلى الوراء؟ إن الموقف اليوم من مسألة الميراث يمثل في الحقيقة امتحانا لمختلف القوى السياسية والاجتماعية إن كانت فعلا مع مبدأ المساواة أو ضده. هذا أوّلا. وثانيا إن كانت حقا متماسكة في تبنّيها للمكاسب التي حققتها المرأة في بلادنا.
إن الوقت قد حان لإلغاء كل أشكال التمييز ضد المرأة وإقرار المساواة القانونية بينها وبين الرجل كحد أدنى للقطع مع إرث ثقيل يكرس اضطهاد النساء بذرائع عدة. وكل محاولة للوقوف بالمسألة في منتصف الطريق لن تكون سوى إعادة إنتاج للفكر الرجعي المعادي لتحرر المرأة. أما إذا طرحت المساواة في الميراث كاختيار وليس كقانون ملزم، كما توحي بذلك بعض التسريبات، فلن يكون ذلك غير كذبة على النساء وتملّص للدولة من مسؤوليتها وإلقاء الأمر على عاتق العائلة بما سينجر عن ذلك من «حروب» بين أفرادها.
إن واجهات النضال كثيرة ومتنوّعة في الظرف الحالي. ولكنّ كثرتها وتنوّعها لا يمثّلان ذريعة لإلغاء واجهة من هذه الواجهات فهي كلها تصبّ في مصب واحد وهو تحقيق كرامة التونسيات والتونسيين وإخراجهم من الظلمات إلى النور. وبعبارة أخرى فإن المعركة واحدة حتى لو تعددت واجهاتها فلنعرف كيف نخوضها بثبات وكيف نمضي بها حتى النهاية فالضوء لا يخشاه إلا أعداء الحرية وأعداء الكرامة الإنسانية. إن المسألة ليست دينية، عقدية، في آخر المطاف بل هي تتلخص فيما إذا كنا نريد مجتمعا متقدما متحررا، عادلا أم نريد مجتمعا متخلفا ينخره الجهل والفقر والبؤس والاستغلال والفساد الذي يتخفّى وراء الدين أو العادات والتقاليد أو«النواميس الطبيعية»؟ هذا هو السؤال. THAT IS THE QUESTION
«جريدة المغرب»، بتاريخ 27 جانفي 2018،