قدّمت “لجنة الحريات الفردية والمساواة” التي شكّلها رئيس الدولة في شهر أوت من العام الماضي، تقريرها الختامي. وقد أسال هذا التقرير كثيرا من الحبر والجدل حول محتواه وحول الظرفية التي جاء فيها. فلئن ناصره عدد من القوى المدنية، معتبرا إياه “خطوة جريئة ومهمة على درب التحديث والتقدم”، فقد أدانته أطراف أخرى، يدور جميعها في فلك الأحزاب والمجموعات المحافظة و”الإسلاموية”، التي استنفرت قواها ونظّمت هجوما متصاعدا على التقرير واللجنة، رئيسة وأعضاءً، تجاوز حدّ التشهير والتشويه والافتراء إلى التكفير والدعوة إلى العنف و”إقامة الحدّ” في مسعى محموم للخروج بالمسألة من سياقها والعودة بالبلاد إلى أجواء التشنج والتوتّر التي عرفها في سنوات 2012 و2013 بمناسبة نقاش الدستور الجديد.
إن حزب العمال،
إذ يعتبر الحريات الفردية والمساواة وكرامة البشر شرطا لأي تحرر أو تقدم، ويعبّر عن انحيازه غير المشروط لحق الشعب التونسي في التمتع بكافة الحقوق والحريات التي صادرتها الدكتاتورية لمدة عقود والتي تحاول عديد القوى الرجعية والظلامية مواصلة حرمانه منها اليوم رغم إقرارها في دستور جانفي 2014،
وإذ لا تغيب عنه محاولة رئيس الدولة وحزبه توظيف المطالب العادلة في الحرية والمساواة من أجل تحقيق أهداف ظرفية وانتخابية على حساب حلفاء في الحكم منذ انتخابات 2014 واستعادة جمهور، من النساء خاصة، والحداثيين عامة، خسراه جراء التحالف مع حركة النهضة ومهادنتها والتنكّر لما أطلقاه من وعود،
فانه:
1ـ يعتبر أن الحريات الفردية والمساواة واحترام الكرامة الإنسانية هي أهداف مشروعة وعادلة كافحت من أجل تحقيقها أجيال من المناضلات والمناضلين ورفع لواءها عدد من رجال الإصلاح ومن المثقفين والمفكرين التونسيين (نساء ورجالا) النيّرين والتقدّميّين، وهي مطروحة للإنجاز بمقتضى دستور 2014 سواء وجدت اللجنة الحالية أم لم توجد.
2ـ يؤكّد أنّ محاولة رئيس الدولة وحزبه توظيف هذه القضية لأغراض سياسوية، أو انتخابية لا ينزع بالمرة عن هذه القضية طابعها المبدئي وحاجة الشعب التونسي الأكيدة إلى التمتّع بحريّته وحقوقه دون تأخير، ولا يمكن أن يجرّ بأي شكل من الأشكال إلى تجاهل هذه القضية أو تركها لمزايدات القوى الرجعية والظلامية، أو تدخل القوى الخارجية بل لا بدّ للقوى الديمقراطية والتقدمية أن تتملّكها (أو تمسك بها) باعتبارها قضيتها وقضية القوى الحية في مجتمعنا أوّلا وأن تفرض نقاشا هادئا ورصينا وعميقا حولها انطلاقا من حاجتنا الوطنية إلى التقدّم بمجتمعنا ورفع كل العوائق التي تحول دون النهوض به.
3ـ كما يؤكّد أن نقاشا من هذا المنظور ينبغي أن لا يسقط في ما تريد القوى المحافظة والظلامية “الإسلاموية” جرّ الناس إليه وهو تحويل هذا النقاش إلى صراع ديني، إيماني، لطمس طابعه الاجتماعي، التاريخي، النسبي. إن الحرية في مفهوم هذه القوى، مرادف “للإباحية” و”اللاأخلاق” والمساواة مرادف “لهدم أسس الأسرة والمجتمع” والكرامة مرادف “لمعاداة شرع الله”، كل ذلك لطمس انتصارها للاستبداد والتمييز وعديد الممارسات الوحشية التي عرفتها كل المجتمعات البشرية في هذه الحقبة أو تلك من تاريخها وتوظيف الدين و”المقدّس” لعزل شعبنا عن عصره خدمة للقوى الرجعية المحلية ولأجندات إقليمية ودولية.
4ـ يدعو إلى عدم السقوط في نظرية “المؤامرة الخارجية على شعبنا وهويتنا”، فلئن كانت اليوم عديد القوى الخارجية تتدخل في شأن بلادنا وتحاول التأثير فيه خدمة لمصالها وأجنداتها (وهو ما حصل حتى مع لجنة الحريات)، فإن ذلك لا ينبغي أن يتحول إلى ذريعة لتبرير رفض تحديث مجتمعنا وتطويره. إن المطلوب منّا هو الإجابة عن السؤال التالي: هل أن مجتمعنا في حاجة إلى أن يكون الفرد فيه حرا في تفكيره وعقيدته وقناعته وإبداعه، ينعم بالمساواة والكرامة، مطمئنا على حرمته الجسدية وحرمة مسكنه وسرية مراسلاته أم لا؟ فإن كان الجواب بالإيجاب ولا نعتقده إلا كذلك، فإن المطلوب منا هو عدم البقاء في حالة دفاعية ومسك أمرنا بأيدينا والإقدام على تغيير أنفسنا بأنفسنا وفق حاجتنا ومصلحتنا وبالنسق الذي يتماشى مع تطور مجتمعنا لأن التخلف والاستبداد هو الذي يضعف هوية الشعوب ويفتّت وحدتها الوطنية ويفتح الباب للتدخل الأجنبي.
5ـ يعتبر أن الإيمان ليس نقيضا بشكل مطلق للتقدّم، بل إن الإيمان لا يمنع المؤمن من الانتصار إلى الحرية والمساواة والعدل والكرامة البشرية لما تكتسيه هذه المفاهيم والقيم من نسبية في الزمان والمكان وما تتعرض له المجتمعات البشرية من تطور في أساليب عيشها وتفكيرها وتنظيمها وهو تطور ينزع باستمرار إلى تحرير البشر من كافة أشكال الاستلاب الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولم تكن الحضارة العربية الإسلامية ذاتها في منأى عن الصراع التاريخي والدائم بين أنصار الحرية والمساواة والسمو بالإنسان، وبين دعاة الانغلاق والتطرّف باسم الدين. ولم يكن بلدنا أيضا الذي خطا خطوات هامة نحو التحرر، من بينها إلغاء العبودية بصفة مبكرة ومنع تعدد الزوجات والتطليق وغيرها من الممارسات المهينة لكرامة المرأة، بمنأى عن موجة التطور الإنساني الحديث.
6ـ يذكّر بأن دستور 2014 الذي تم التصويت عليه بالإجماع، والذي كان نتاج نقاشات وصراعات معمقة وطويلة ومفتوحة على الرأي العام، قد نصّ بشكل واضح على ضرورة احترام الحريات الفردية ومبدأ المساواة التامة بين المواطنين بما في ذلك المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات، وعلى صيانة كرامة البشر من أي انتهاك مادي أو معنوي، وألزم الدولة بالعمل على تكريس هذه المبادئ التي طالما ناضل الشعب التونسي من أجلها. كما يذكّر بمصادقة الدولة التونسية على العديد من الاتفاقيات الدولية التي تعنى بالحريات الفردية والمساواة وكرامة البشر والتي تمثل ثمرة ما وصلت إليه الإنسانية بشكل عام من مشترك بعد صراع طويل وضار مع الوحشية والهمجية التي كلّفت الشعوب والأمم ثمنا باهظا. وهو ما يجعل من إنزال تلك المبادئ والقيم إلى مستوى التشريع في بلادنا تكريسا لمبادئ وقيم مصادق عليها ولا تمثل منّة من أحد ولا شيئا مسقطا من أحد.
7ـ كما يذكّر بالارتباط الوثيق بين ثالوث الحريات الفردية والحريات العامة والمساواة. إن أفرادا غير أحرار، لا يتمتّعون بحقّهم في حرية التفكير والعقيدة والضمير والتعبير واختيار أسلوب عيشهم أو غير آمنين على كرامتهم الجسدية والمعنوية وعلى حياتهم الخاصة، أو غير متساوين في الحقوق بسبب جنسي أو ديني أو عرقي أو ثقافي او اجتماعي أو مهني، لا يمكنهم أن يكونوا قادرين على المشاركة في الحياة العامة وفاعلين في إدارة مجتمعاتهم فالحريات الفردية والحقوق المدنية هي التي تؤسس لحياة عامة حرة يديرها مواطنون (نساء ورجالا) مستقلّو الإرادة ومتحرّرون من الخوف.
8ـ يشير من جهة أخرى إلى عدم انفصال الحقوق الفردية، االمدنية والسياسية، عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للفرد. إن الحقوق المدنية والسياسية على أهمّيتها، تبقى منقوصة إن لم نقل شكلية إذا لم يكن للفرد الإمكانات المادية التي تسمح له بالتمتع بشكل فعلي بحقوقه الفردية والعامة والتحرّر من ضغط الحاجة وما تولّده من تبعية أو عجز وتمييز بين الفقير والغني، وبين العامل وصاحب رأس المال، وبين الأقلية والأغلبية حين يتعلق الأمر بالمجتمعات متعددة الأعراق والديانات والقوميات والثقافات الخ…
9ـ ينوّه إلى أن لا وجود لمنظومات عقابية مطلقة صالحة لكل زمان ومكان، بل إن كل المنظومات العقابية تبقى وليدة الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية التي ولّدتها. وهي تتطور وفق تطور هذه الظروف بل تتطور حسب التقدم الحضاري الذي تحرزه المجتمعات البشرية في سيرها الدائم نحو تحقيق إنسانية الإنسان والخروج به من منطقة التوحّش والهمجية. وفي هذا السياق فقد ألغيت في بلادنا ذاتها عدة عقوبات جسدية، ولكن المشكل الذي ما يزال قائما وهو موروث من عهود الاستعمار والدكتاتورية هو أن منظومتنا القانونية قائمة على فلسفة العقاب لا على فلسفة الإصلاح وعلى مسؤولية الفرد دون تحميل المجتمع أية مسؤولية وعلى معالجة القضايا المجتمعية بالزجر وليس بالتربية والنقاش والوقاية، وهو ما يجعل القاعدة في التعامل هو السجن أو العنف وليس الحرية، والزجر وليس الإصلاح.
10ـ وعليه فإن حزب العمال يدين بشكل صارم حملات التشويه والتشهير والتكفير والتهديد التي استهدفت لجنة الحريات رئيسة وأعضاء ويعتبرها دليلا على ارتداد أصحابها عن الدستور وعن المكاسب المدنية والثقافية للشعب التونسي وعن الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي صادقت عليها الدولة التونسية ومسعى محموما لإغراق بلادنا في الظلمات والعودة بها إلى مربع الاستبداد وهو يدعو إلى التعامل مع تقرير اللجنة، بنقاط قوته وبهناته ونقائصه، كوثيقة للنقاش بعيدا عن التشويه والتكفير والتهديد.
11ـ كما يستنكر صمت رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة على تلك الحملات والتهديدات رغم أن الأولى هي صاحبة المشروع والثانية هي رأس السلطة التنفيذية المعنية بالموضوع أيضا، وكأننا بالطرفين لا يهمهما اليوم إلا صراعاتهما حول السلطة وهو ما يعكس عدم جديتهما في تناول القضايا الكبرى والمصيرية لمجتمعنا. وهو يستنكر أيضا عدم تحرك النيابة العمومية لتجريم تلك الحملات والتهديدات مبينة مرة أخرى أنها لا تتحرّك إلّا إذا حُرّكت وخاصة حين يتعلّق الأمر التحركات أبناء الشعب المفقرين واحتجاجاتهم.
12- وهو يعلن انحيازه المبدئي لمنظومة الحريات والحقوق الفردية المنصوص عليها في الدستور (حرية التفكير والضمير والعقيدة وحرية الإبداع الخ…) وللمساواة التامة والفعلية بين النساء والرجال في الحقوق، ويعتبر ذلك ركنا من أركان المدنيّة والتقدم، كما يعتبر أن نضال نساء تونس وكل دمقراطييها منذ عقود لأجل تحقيق هذا الهدف، كان نضالا رائدا وآخر فصوله التحركات العارمة طيلة فترة اشتغال المجلس الوطني التأسيسي التي تكللت بتحويل المساواة إلى مبدأ دستوري.
13ـ كما يعتبر أن تجريم التعذيب والمسّ من الحرمة الجسدية وإلغاء عقوبة الإعدام باعتبارها عقوبة غير قابلة للمراجعة وتعويضها بعقوبة السجن المؤبّد وحماية الحياة الخاصة وحرمة المسكن وسرية المراسلة وتجريم انتهاكها هو من صميم مقومات الدولة المدنية الديمقراطية التي تصون كرامة الإنسان وتحميه من الانتهاكات.
14 ـ وفوق ذلك كله فإن حزب العمال يدعو إلى مناقشة كل القضايا التي أثارها التقرير مهما بدا بعضها إشكاليّا لهذا الطرف أو ذاك، بأسلوب هادئ ورصين وبأسلحة فكرية وفكرية فقط بعيدا عن الافتراء والتشويه والتكفير والتهديد. إن القوى المحافظة والظلامية تحاول بشكل خبيث حصر تقرير اللجنة في نقطة أو نقطتين مع تقديم ما ورد بشأنهما بصورة مشوّهة لمغالطة الناس وتهييجهم ضد اللجنة وصرف نظرهم خاصة عن القضايا الأخرى المثارة في التقرير. إن المجتمعات الديمقراطية، المتعافية والقوية، هي التي تطرح قضاياها بهدوء وعقلانية ولا تسبّق أسلوب الزجر لمعالجتها حتى لا تخسر وقتها في المهاترات ولا تنجر إلى العنف والاقتتال بلا فائدة.
15 ـ يؤكد أنّ تحيين ترسانة القوانين المعمول بها والتي يعود بعضها إلى العهد الاستعماري بما يتناسب مع الدستور ومع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان، هو استحقاق عاجل لا يحتمل مزيدا من التأجيل بأي داع من الدواعي. وهو يؤكد من جهة أخرى أن الحريات والحقوق الفردية لا ينبغي أن تتوقف، كما جاء في تقرير اللجنة، عند الجانب المدني والسياسي. إن الحق في مورد رزق وفي الصحة وفي التعليم وفي الثقافة وفي السكن، وفي بيئة سليمة، كلها حقوق يرتبط بها نمو شخصية الفرد وتحقيق سعادته وطمأنينته ولا يمكنها إسقاطها من الاعتبار وطمس مسؤولية الدولة والمجتمع في توفيرها.
وفي الختام فإن حزب العمال إذ يؤكّد أن الشعب التونسي بطبقاته وفئاته الكادحة وبشبابه ونسائه هو صاحب المصلحة الأول في القضاء على الاستبداد بكافة أشكاله باعتباره ضحيته الأولى، فإنه يدعوه كما يدعو قواه التقدمية، السياسية والمدنية والاجتماعية إلى تحمل المسؤولية التاريخية في التصدي لقوى الجذب إلى الوراء التي تغالط أبناءنا وبناتنا مستغلّة مشاعرهم الدينية، من أجل تأبيد حالة التخلف التي عليها مجتمعنا في أكثر من مجال، ولكل من يريد استعمال قضايانا الأساسية والعادلة للمناورة أو المزايدات السياسوية، ولأي طرف أجنبي يحاول دسّ أنفه في شأننا الداخلي خدمة لمصالحه فالحريات والحقوق مكاسب يحققها الشعب بذاته ولذاته حتى تصبح جزءا لا يتجزّأ من هويته وعنوانا من عناوين ارتقائه الحضاري.
حزب العمال
تونس في 23 جويلية 2018