لا يختلف عاقلان حول ضرورة القطع مع منظومة الحكم القديمة لضمان تقدّم تونس على كلّ المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية وعلى مستوى العلاقة بالخارج. لقد خبرناها وتأكّدنا من فشلها.
الاختيارات العامة وخاصة الاقتصادية منها هي السبب الرئيسي للأزمة التي تضرب البلاد اليوم. وهي أزمة ذات طابع شامل وعميق لا يمكن معالجتها بنفس الأدوات القديمة أي مزيد الاقتراض ومزيد التقشف في مستوى الأجور والخدمات الأساسية وتوسيع دائرة الشغل الهش ورفع الدعم والتفويت في المؤسسات العمومية للخواص والتخفيض في قيمة الدينار المحلي.
ماذا نعني بمنظومة الحكم القديمة؟
المنظومة القديمة لا تُختزل في التجمع المنحل وفي اختياراته بل في كلّ الأحزاب والمجموعات التي حكمت تونس منذ 2011 بنفس الخيارات والبرامج وفشلت في الاستجابة إلى مطالب الجهات والقطاعات وفي تلبية انتظارات الشعب التي قامت من أجلها الثورة من شغل وتنمية وخدمات أساسية. القديم لا يقتصر على الأشخاص بل يتعدى ذلك للسياسات ومصادر التمويل وخطط العمل وإدارة الملفات وتنظيم عملية الإنتاج والتوزيع وضبط الأولويات والتوجّهات الأساسية. ونحن نعتقد أنّ حكومات الغنوشي والسبسي والترويكا والمهدي جمعة والحبيب الصيد ويوسف الشاهد لم تأت بالجديد ولم تختلف مع حكومات بن علي بل طبعت مع المنظومة السابقة المهترئة وسارت على نهجها.
لقد حافظ الحكام “الجدد” على نفس المنظومة النوفمبرية مع تغيير وحيد في مستوى شكل الحكم، حيث فرض الشعب التونسي الحريات السياسية دون التمكّن من السلطة التي بقيت بأيدي البورجوازية الكبيرة التي يعبّر نداء تونس وحركة النهضة وحزب تحيا تونس وكل المتعاونين معهم عن مصالحها من خلال الخيارات العامة والميزانيات والسياسات المتبعة. وبالتالي لا يمكن أن ننتظر حلولا ملموسة واستجابة جدية لمطالب الأغلبية التي يجري تهميشها وتفقيرها لصالح الأقلية المالكة للجزء الأوفر من الثروات. بل لعل ازدهار هذه الأقلية ومراكمة الأرباح لديها غير ممكن دون تفقير الأغلبية والضغط على قدرتها الشرائية والتراجع في أغلب المكاسب المحقّقة عبر النضالات. وبالتالي فإنّ الأزمة ذاهبة منطقيا وعمليا نحو مزيد الاستفحال في ظل نفس المنظومة، منظومة العجز والفشل بخياراتها القديمة ووجوهها الجديدة التي أفرزت أقلية ما فتئت تزداد ثراء وأغلبية تتردّى في الفقر والبؤس. هذا هو المولود الجديد الذي انبثق عن منظومة ما بعد 14 جانفي. التاريخ يعيد نفسه في شكل مهزلة. ولا حلول في الأفق في ظل نفس المنظومة مهما تغيرت الأشكال والمسميات.
كيف نقطع مع المنظومة القديمة؟
إنّ القطع لا يجب أن يكون شكليا أو جزئيا وهو يتعلق بالخيارات والبرامج والسياسات وأساليب الإدارة بصورة عامة. وعليه لابدّ من برنامج اقتصادي واجتماعي يخدم الأغلبية التي همّشتها المنظومة القديمة. لا بدّ من برنامج يساعد على إنتاج الثروة موجّه لخدمة الحاجيات الأساسية للتونسيات والتونسيين في كل الجهات والقطاعات مع تركيز الجهود على القطاعات الاستراتيجية ونعني الفلاحة والصناعة والبنية التحتية، والدور الأساسي فيه يكون للدولة إنتاجا وتمويلا وتشغيلا وتوزيعا، دون التّغافل عن دور آخر لا يقلّ أهمية لمنظمات المجتمع المدني وخاصة النقابات في مراقبة الإنتاج والتوزيع وكشف عمليات سوء التصرف والفساد والمساعدة على اجتثاثها.
كما لابدّ من إعادة النظر في مصادر التمويل بالتركيز على إمكانياتنا الذاتية والمطالبة بالتدقيق في الديون الخارجية والامتناع عن خلاص الكريهة منها مع اتّخاذ قرار سيادي بتعليق الخلاص لفترة محددة لتوفير السيولة الضرورية لدفع عملية الإنتاج. والدولة مطالبة بتشجيع الرأسمال الوطني الخاص على الاستثمار في إطار التوجّهات العامة مع ضمان الشغل القار للعاملين وخلاص مستحقات الدولة وفق القوانين التي تسري على الجميع دون استثناء. مع إمكانية اللجوء إلى القروض الخارجية مع ضرورة تنويع المصادر ودون شروط مسبقة تتعلق بالخيارات والأولويات. فالدولة يمكن أن تقترض ليس لخلاص ديون قديمة أو من أجل الاستهلاك، بل من أجل التنمية وخلق الثروة وتشغيل الشباب. القطع يهمّ أيضا علاقات التبعية والتفريط في السيادة على ثرواتنا الطبيعية والارتهان للمؤسسات المالية الدولية عبر القروض المشروطة التي دمّرت اقتصاديات البلدان التابعة وعمّقت أزمتها وتبعيّتها للقوى الاستعمارية. ولدعم هذه التوجهات التي تتميز بالاستقلالية لابدّ من مراجعة مجمل الاتفاقيات القديمة وإخضاعها للتقييم العلمي الصارم واتّخاذ القرارات الجريئة والمستقلة بشأنها والذهاب في اتجاه تنويع علاقات التعاون مع مختلف بلدان العالم على قاعدة الندية والمصالح المشتركة بعيدا عن سياسة المحاور المتوخاة حاليا.
أداة الخلاص
إنّ أداة الخلاص مرتبطة شديد الارتباط بالبرنامج الذي يحدّد طبيعة الأحزاب والمجموعات التي يمكن أن تلعب هذا الدور. وفي اعتقادي فإنّ كلّ من تقاطع مع أو ساند منظومة الفشل وعمل معها وفي ركابها لا يمكن أن يُؤتمن على الخلاص وعلى قيادة العملية التغييرية. فالخروج من الأزمة يتطلّب إذا إلى جانب برنامج التغيير أو المشروع البديل الذي يستجيب لانتظارات الأغلبية ويخدم مصالحها المباشرة والبعيدة حزبا أو مجموعة أحزاب ومنظمات وأفرادا تستجيب إلى هذا المشروع وتتبنّاه وتعرّف به على نطاق واسع وفق خطط دعاية ملموسة وبنّاءة ومنظمة وتعبئة الجماهير من أجل ذلك. وتبقى الجبهة الشعبية كجهة سياسية والمنظمات المدنية المستقلة والفعاليات الشبابية والنسائية التقدمية هي المؤهلة نظريا للعب هذا الدور لأنّ الجبهة الشعبية لا تتقاطع مع منظومة الحكم ولها برنامج عام نقيض لبرنامجها سواء من حيث التوجهات العامة أو الطبقات والفئات التي يعبّر عنها ويخدمها. الجبهة الشعبية لا تقتصر على ملفات بعينها ولا تكتفي ببعض الانتقادات الجزئية مثل الفساد والتعاطي مع الإرهاب والاعتداء على الحريات والحقوق الخ… بل تريد تغيير المنظومة برمّتها. والتكتيكات التي تعتمدها والإصلاحات التي تناضل من أجل تحقيقها خدمة للجهات والقطاعات المعنية ليست غاية في حد ذاتها وهدفا نهائيا بتحقيقه ينتهي كل شيء. بل تندرج في إطار المراكمة على طريق الهدف الاستراتيجي أي المشروع الوطني الديمقراطي الشعبي. قد تكون الجبهة الشعبية غير جاهزة حاليا للعب هذا الدور. هذه المسألة مطروحة للتقييم داخل أطرها وخاصة ندوتها الوطنية القادمة من أجل رسم آليات النهوض وتوفير شروط تحمّل هذه المسؤولية التاريخية خدمة للشعب والوطن. وعلى قدر جاهزية الجبهة واستعدادها وقدرتها على تنظيم صفوفها ونهوضها سيتقدم التونسيون والتونسيات على طريق التغيير المنشود.
علي البعزاوي