في الليلة المفصلية والفاصلة بين 8 و9 جانفي 2011، سقط عدد كبير من شهداء مدينتي تالة والقصرين العظيمتين، ولسان بعضهم يردد: “الشعب… يريد إسقاط النظام!”. ولايمكن أن يخفى على أحد، اليوم، الجدل الراهن -صريحا كان أو ضمنيا- حول الجدوى التاريخية لواحد من الشعارات/ العناوين الكبرى للمسار الثوري التونسي
إستراحة المحارب: الوهم الإصلاحي
يتفق أغلب المحللين على أن أهم العائلات الفكرية والسياسية التونسية تكاد تنحصر على الإسلاميين والدساترة واليسار. وعادة ما يصنف القوميون العرب وحتى النقابيون والحقوقيون (بما فيهم أنصار البيئة)، ضمن “العائلة اليسارية” ولو أن معظم هؤلاء قد يختلفون جزئيا أو كليا مع أطروحات ومواقف اليسار التونسي. ومن المؤكد أن تاريخ بلادنا المعاصر لايعدو أن يكون نتاج التفاعل والصراع بين ثالوث القوى السياسية والإجتماعية المذكورة، والذي عرف -بطبيعة الحال- فترات شد وجذب وردهات مواجهة ومهادنة (أو إئتلافات/ توافقات)، قامت -ومازالت تقوم- على الواقع المحلي والدولي لموازين القوى.
إن خيار التعويل على إصلاح “النظام التونسي” من الداخل هو تمشي قديم- جديد، جاءت به سياسة “الوحدة القومية”، منذ ستينات القرن الماضي، وكانت أبرز تمظهراته، آنذاك، في الساحة السياسية، هو تكتيك “المساندة النقدية” لدى “الحزب الشيوعي” (المحظور وقتها)، والذي قاد طلبته، في 1971، لمسلكية القبول الأولي بالدساترة المنقلبين على رأس المنظمة الطلابية الشرعية، تحت مسمى جاهز وخطير هو: “النضال من الداخل”
ويعد العامل الموضوعي لوطأة احتكار الحياة العامة، والمسلط منذ 1962 من طرف عتاة “الدكتاتورية الدستورية” على البلاد والعباد، محددا في تأويل ظاهرة تردي عدد مهم من وجوه وأحزاب اليسار في التوهم المرضي بإمكانية إصلاح “سيستام” فاسد وعميل بأتم معنى الكلمتين؛ فالملاحظ أنه كلما اشتغلت ماكينة القهر الرهيبة للسلطة، واستئسدت على الحركتين الإجتماعية والشبابية، كلما انتعشت التقليعات السياسية، التي غالبا ما تظهر بمظهر الواقعية والبراغماتية وتجديد الخطاب، ودعت بشكل أو بآخر للإلتفاف على التعاطي المبدئي لليسار إزاء قضية الثورة والحكم.
وقد خبر التونسيون، قبل الثورة، معدن العديد من سليلي التجارب التنظيمية لليسار (أحمد السماوي، محمد الشرفي، سمير العبيدي، منذر ثابت، برهان بسيس، نور الدين بنتيشة…)، الذين، رغم ما بذلوه سابقا من نضالات وتضحيات، وجدناهم التحقوا طواعية بالنسيج الرسمي المترهل، وساهموا بوعي أو دونه، في معزوفة “اليسار الإستئصالي” الكلاسيكية، والتي احترفتها بامتياز دوائر القرار والأبواق الإخوانية، منذ بدايات “حكم الترويكا” الفاشل والفظيع
الدخولية” الجديدة: ثقافة حكم أم مشروع إرتهان؟
أما بعد هروب المخلوع زين العابدين بنعلي للقطر الخليجي، فإن عادة “اليسار المريض” في الوصولية والتموقع الحكومي، ولو على حساب القصاص لدماء الشهداء الأبرار المذكورين والانتظارات الثورية المشروعة لأهاليهم، لم تنقطع البتة؛ فالتحاق حزبي “التقدمي” (الحزب الجمهوري حاليا) و”التجديد” (حزب المسار حاليا)، بحكومة “التجمع” الثانية وبرئاسة محمد الغنوشي (الوزير الأول النوفمبري الأسبق)، سوق له، آنذاك، على أنه صون للبلاد من “الإنزلاق في المجهول” (من تصريح وزير التنمية الأسبق الأستاذ نجيب الشابي) أو إستصدار للإصلاحات الوزارية اللازمة (إلغاء سلك البوليس الجامعي…).
والحال أن “تجربة الحكم” الوجيزة (بفعل رد فعل ثوار “القصبة 2” عليها) لمناضلي اليسار من الحزبين المذكورين لم تؤت أكلها، لا على صعيد البرهنة على “ثقافة الحكم” المزعومة ولا على صعيد تطور الرصيد الإنتخابي لليسار (آنظر نتائج إنتخابات “المجلس التأسيسي” مثلا)، رغم افتضاح إرتهان حزبي “التكتل” و”التقدمي”، وقتها، لقوة المال السياسي لرجال الأعمال؛ بل فلنقل أن آمال جانب مهم من الجماهير والمثقفين على حد السواء، قد خابت، في المحصلة، في زعامات تاريخية محسوبة على المشروع الوطني والإجتماعي، الذي طالما ميز اليسار التونسي (فكرا وممارسة)، غالبا ما وجدوها (أي الزعامات) غريبة عن قناعاتها ومبادئها التي اشتهرت بالذود عنها، ومنصاعة ومتذيلة، بتعلات شتى كالتضامن والإستقرار الحكوميين و”الدفاع عن الشرعية”، لقصة “الأغلبية” و”الأقلية” (والعبارة مأخوذة من مداخلة برلمانية للشهيد الحاج محمد البراهمي)، بل وملتفة، كسائر الإستغلاليين والطغاة، على أهداف “ثورة الكرامة”.
وبعيدا عن التخوين والإنقسامات اللامبدئية التي تشترك مع خطر الدخولية في حجم الأضرار التي ألحقها بسمعة وشعبية طرح اليسار، فإن قائمة أدعيائه (أي اليسار)، حسب آخر المستجدات السياسية، لانخالها نهائية، فكأننا حيال موجة قوية للتفسخ السياسي والأخلاقي، تستمد “نزيفها” من حالة الإحباط والإستكانة، التي عادت لتضرب في الصميم معنويات الشباب الثائر، وكأن خيار استكمال مهام الثورة التونسية (وعلى رأسها إسقاط النظام الدستوري وبالبداهة منظومة الحكم الحالية) قد استحال لتوجه حالم (أو طوباوي) لايراعي تراجعات الحركة الشعبية واهتزاز قناعتها الأولى بجدوى النضال ضد “حكم المافيات” السائد. كما يجد أمثال الأستاذة سعيدة قراش وإياد الدهماني ومحمد الطرابلسي وسمير بالطيب وعبيد البريكي ومبروك كرشيد في مقولتي الدفاع عن “المسار الديمقراطي” و”الجمهورية الثانية”، ونحن مقبلون على إجراء ثالث إنتخابات تشريعية عامة وقانونية، غطاء ملتبسا لمطامحهم الشخصية نفسها أو مسوغا مقبولا (حسب إعتقادهم) لسد الباب أمام تمكن “حركة النهضة” الأغلبية الحاكمة من مفاصل الإدارة والدولة، وهي لعمري كلمة حق أريد بها كل الباطل
ورغم الدلالات العميقة لحادثة إستقالة وزير الشاهد الأسبق (والمقال من طرفه) عبيد البريكي، على عقم تمشي هدر الطاقات السياسية كديكور هامشي للحكم و”توزير” الوجوه التاريخية لليسار لدى عملاء مراكز النهب العالمي وبارونات الفساد المحلي وأزلام الإرهاب الإقليمي، فإن “أنفلونزا الدخولية”، التي أصابت مجمل الطبقة السياسية التونسية منذ العام 2011، باتت تتفشى تدريجيا في صفوف من وجب أن يلقى على عاتقهم الدفاع حتى النهاية على راية اليسار الموحدة وعلى برنامجه الخصوصي، العملي والمباشر.
إن مربط الفرس، هنا، هو في تعميق النظر في تفاصيل البدائل المجتمعية والتنموية (وحتى في آداء الوجوه التمثيلية) لمكونات اليسار، بما يسمح للمواطنات والمواطنين باسترجاع الثقة الكاملة في قيدوم الفرقاء السياسيين، وبما يمكنه من الإضطلاع المسؤول بمهامه الحيوية، مع التفطن لعواقب إستسهال الخطاب الشعبوي أو التفريط في إستقلالية لونه السياسي.
إن لكل حركة ثورية، في كل زمان ومكان، إنتكاساتها وإخفاقاتها وإنحرافاتها، التي لا تقدر أبدا على النجاة منها، ما لم تتوخ، في نفس الوقت، الدفاع المستميت عن ثوابتها غير القابلة للتصرف والتطوير الخلاق لآدائها العملي ولمكاسبها السياسية. ولن تذهب التقييمات الحاصلة للثورة التونسية، التي فتحت صفحة سياسية مشرقة في التاريخ العربي والإنساني، مذهبا يشذ عن هذا المنوال، مهما بدا سبيل شعبنا مضجرا ووعرا.
بقلم/ رفيق الزغيدي