بقلم جيلاني الهمامي
ليس خافٍ على أحد حدّة الأزمة العامة التي تعيشها بلادنا اليوم. فعلى الصعيد الاقتصادي وعلى خلاف ما تدّعيه حكومة الشاهد من تحسّن في المعطيات الاقتصادية، تؤكّد كلّ المؤشرات الرسمية وغير الرسمية أنّ الاقتصاد التونسي على حافة الإفلاس وأنّ المالية العمومية في أتعس حالاتها وأنّ البلاد مهدّدة بالانهيار وأنّ كل المحركات الاقتصادية في تراجع، الادّخار والاستثمار والإنتاج والاستهلاك. أمّا على الصعيد الاجتماعي فإنّ معدلات البطالة ونسب الغلاء وتدهور المقدرة الشرائية والتضخم المالي وتدهور خدمات الصحة والنقل والسكن والتربية والثقافة بلغت درجات غير مسبوقة. وماانفكت الأزمة السياسية تشتد وتتعقد داخل منظومة الحكم والائتلاف اليميني الرجعي بينها وبين الشعب وهي مرشحة للمزيد في الأيام القادمة. وتؤكّد الأعمال الإرهابية المتواترة إلى أنّ ” الإنجاز” الأمني ليس غير ظرفي ومحدود بما يجعل البلاد دوما تحت التهديد الإرهابي خصوصا بعد التطورات الأخيرة في سوريا وليبيا.
هذا المشهد الأسود لأوضاع البلاد ليس قدرا من السماء بقدر ما هو نتيجة طبيعية للسياسة المتّبعة من قبل حكومات الائتلاف الرجعي الذي جاء ليكرّر نفس حماقات وجرائم الترويكا سنوات 2012 – 2014 وبن علي من قبلها. هذه السياسة القائمة على بيع البلاد والخضوع لتعليمات صندوق النقد الدولي في مجال التنمية والتعويل على القمع لخنق أنفاس الحركة الاجتماعية والديمقراطية وخونجة المجتمع واعتماد الفساد كنظام تسيير وحكم ألحقت بالبلاد وبالشعب أضرارا غير مسبوقة تنضاف إلى الأضرار الموروثة عن خمسين سنة من حكم بورقيبة وبن علي.
غير أنّ ما يميّز حكومة الشاهد والنهضة عن سابقاتها هو الوقاحة والصلف في انتهاج هذه السياسة بشكل مفضوح ودون مساحيق في تحدٍّ سافر للشعب وقواه الديمقراطية والثورية.
صحيح أنّ الشعب التونسي لم يستسلم وأنّ جذوة المقاومة ما تزال متّقدة ولا أدلّ على ذلك من حركات الاحتجاج وأشكالها المتنوعة على مدار السنة. ولكن الاحتجاجات القطاعية والصنفية والانتفاضات المحلية ماتزال أيضا دون مستوى التحدي ما لم تتحوّل بعد إلى حركة وطنية شاملة عنوانها الجامع طرد حكومة العمالة والميزيريا وإسقاط منظومة الحكم الرجعية.
إنّ إنقاذ تونس ممّا تردّت فيه اليوم من تهديدات داخلية وخارجية يتطلّب من القوى الثورية والديمقراطية إعادة ترتيب الأولويات في قضايا أربع كبرى سنبيّنها تباعا في هذا العدد من “صوت الشعب” والأعداد القادمة وهي: الدفاع عن السيادة الوطنية وعن حق الشعب في العيش الكريم وعن الحريات والنظام الديمقراطي وعن الدولة المدنية والمجتمع العصري وعن وحدة البلاد والشعب واللحمة الوطنية.
وينو الاستقلال يا دم الفلاقة
صادق “مجلس نواب الشعب” الأسبوع الماضي على قانون “تحسين مناخ الاستثمار” رغم ما أثاره من تحفّظات وانتقادات حادّة من نوّاب المعارضة وحتى من أطراف أخرى كثيرة بما في ذلك منظمة الأعراف. وهو قانون جديد ينضاف إلى جملة النصوص التي عرضتها الحكومة على البرلمان مستغلة دعم نواب الأغلبية اليمينية لتمرير خيار بيع خيرات البلاد وفتح أبوابها للرساميل الأجنبية ورهنها بشكل غير مسبوق لدى المؤسسات المالية العالمية (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والبنك الأوروبي للاستثمار والبنك الافريقي للتنمية وغيرها) ولدى البلدان الاستعمارية (الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الأوروبي) ولدى أنظمة الخليج الرجعية.
هو في الحقيقة خيار قديم قِدَم منظومة الحكم الرجعية الماسكة بالحكم في بلادنا قبل الثورة وبعدها لكن ما يميز هذه الحكومة، حكومة الشاهد والنهضة هو تهافتها ووقاحتها في تكريس هذا الخيار الذي لم يُبقِ لتونس من مقوّمات سيادتها على خيراتها ومقدراتها وقرارها السياسي والاقتصادي شيئا تقريبا. ولم يُبق لها بالتالي من أمل في النهوض والخروج من الأزمة الحادة التي تعيش على وقعها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وأمنيا. وليس من المبالغة في شيء القول إنّ هذه الحكومة تُعَدّ أكثر الحكومات عمالة للخارج وعداوة لكرامة الوطن والشعب بشكل بات يطرح الدفاع عن السيادة الوطنية في كلّ أبعادها الاقتصادية والسياسية والديبلوماسية والحضارية كأولوية قصوى.
وممّا لا شكّ فيه أنّ العمل التشهيري الذي تقوم به كتلة الجبهة الشعبية وعموم المعارضة في البرلمان ضد مشاريع القوانين المتعلقة بالقروض أو بالاتفاقيات الخاصة بالبحث عن البترول أو استغلاله أو المتعلقة بالتفويت في المؤسسات التونسية للرأسمال الأجنبي أو بالاتفاقيات التجارية المهينة لشعب تونس (الأليكا نموذجا) أو المتعلقة بالاستثمارات الأجنبية وغيرها يبقى مجهودا محدودا وغير كفيل بوقف نزيف بيع البلاد ورهنها. بل يحتاج إلى انخراط الأحزاب الوطنية والمنظمات المهنية والجمعيات المناضلة وفعاليات الشباب والنساء والحركة الثقافية. إنّ الدفاع على سيادة تونس واستقلالها مهمّة كلّ هؤلاء وهي مهمّة تتطلب اليوم التعبئة والتجنّد الميداني ضدّ كل أوجه الهيمنة الخارجية عليها وضدّ كلّ أشكال التفريط في خيراتها ومقدّراتها.