يدور العام وراء العام، وتعود غرة ماي وأوضاع العمال لم تبق حتى على حالها، بل هي تزداد سوء على سوء وبؤسا على بؤس. لقد أصبح العمّال والكادحون يحلمون في تونس أن تبقى أوضاعهم على حالها، وأصبحت أوضاع العام الفارط والذي قبله وقبل قبله…، معيارا لأوضاع يحلمون بها. لذلك لا غرابة أن تسمع هنا وهناك في أوساط المفقّرين أسفا على “الأيام الخوالي” بما فيها “أيام بن علي والطرابلسية”، فـ”في تلك الأيام كان العامل والكادح قادرا على شراء قفة الخضر، وتذوّق طعم اللحم والسمك.. بين الفينة والأخرى”. فأين الحقيقة في هذا؟ وكيف نتعاطى مع هكذا إحساس يراود أذهان وعقول العديد
البؤس رديف الرّأسماليّة
لاشك في أنّ أوضاع الطبقة العاملة ومجمل الكادحين هي أوضاع سيئة بحكم التوزيع غير العادل للملكية والعمل والثروة في مجتمعنا وباعتبار نمط الإنتاج الرأسمالي السائد. هي أوضاع سيئة بحكم الاستغلال وتدهور الأجور وظروف العمل والحرمان من الحقوق وعلى رأسها الحق النقابي. وقد شهدت مجمل هذه الأوضاع في السنوات الأخيرة تدهورا مريعا فضلا عن تعمّق تدهور الأوضاع المعيشية. فالقدرة الشرائية تراجعت بفعل الغلاء المشط للأسعار وبفعل جمود الأجور والتضخم. لكن لابدّ هنا من الوضوح والدقة، فأوضاع العمّال والكادحين لم تكن بالأمس جيّدة ولا مقبولة. بل كانت بائسة وتعيسة بفعل تدنّي أجورهم وغلاء المعيشة بما في ذلك المواد الأساسية. لا يجب أن ننسى احتجاجات العمّال والكادحين والطبقات الشعبية ليس قبيل الثورة فقط، بل طيلة فترات حكم بورقيبة وبن علي. فقد اندلعت نضالات عارمة منظمة وغير منظمة، قادتها النقابات أو كانت شعبية وكاسحة مثل انتفاضتي 26 جانفي 1978 و4 جانفي 1984 وانتفاضة الحوض المنجمي…، كلها كانت ردّات فعل اجتماعية على ظروف الفقر والفاقة. وحتى لا تكون الذاكرة قصيرة فقد كان الناس يتأوّهون تحت حكم بن علي ليس بحكم سياساته القمعية واعتماده الفجّ على العصا الغليظة فقط، بل أيضا وأساسا من تبعات سياساته الاجتماعية والاقتصادية التي نعتقد أنها مازالت متواصلة.
إنّ خلفية قناعة بعض الأوساط الاجتماعية أنّ الأوضاع كانت سابقا أفضل، يعود في الأصل إلى ما عرفته أوضاع الناس من سوء غير مسبوق. فإذا كانوا سابقا مفقّرين، فإنهم اليوم أكثر فقرا، وإذا كانوا في الماضي محرومين فإنهم اليوم أكثر حرمانا. وهذا لا يؤدّي في اعتقادنا إلى الجزم بكون الأوضاع كانت سابقا أفضل. إنها كانت أفظع أمس واليوم وستتواصل في نسق متصاعد من السوء ما لم يتمّ إيقاف هذا النزيف بمراجعة السياسات المتّبعة. إنّ أسوأ وضعية يمكن أن يمرّ بها شعب في مسيرته الثورية هو اِلتجاؤه، أو اِلتجاء بعض فئاته إلى المقارنة بين الأمس واليوم في اتجاه مفاضلة الأمس عن معيش اليوم المتحقق بعد الثورة. إنّ الاستنتاجات ستكون حينها استنتاجات مدمّرة للوعي ومخرّبة لروح التغيير الثوري، بل قد تنتهي في بعض الحالات إلى تعميق قناعات يمينية وحتى فاشية وهو ما تشتغل عليه اليوم التعبيرات التجمعية والدستورية التي تحنّ إلى إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء. إنّ هذه الأفكار وهذا المزاج يجد أسبابه في الواقع الموضوعي الذي يعيشه اليوم عمّال تونس وفلاّحوها ومجمل شعبها. فالمجتمع التونسي هو أكثر من أيّ وقت مضى مجتمع العشر والتسع أعشار، فقد ذهبت عديد الدراسات إلى أنّ الطابع المافيوزي للاقتصاد أصبح أكثر وضوحا وبروزا، وبارونات التّهريب والتّهرّب وأثرى الأثرياء لا يتجاوزون عشر السكان، فيما يغرق الباقي في شظف العيش، وهذا الشظف يمسّ الأغلبية بما فيها ما كان سابقا يسمى “طبقة وسطى”. فقد ذهب “المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية”(التابع لرئاسة الدولة) إلى أنّ هذه الطبقة تراجعت بين سنتي 2010/2015 بما يعادل 25°/° من حجمها. وقد وصلت نسبة التداين الأسري سنة 2017 إلى 31°/°، علما وأنّ الزيادات في نسب الفائدة المديرية المتتالية في سعر الفائدة خلقت تراجعا في نسق إسناد القروض لفائدة العائلات بنسبة 48 بالمائة حتى موفّى سبتمبر 2018، مع العلم أنّ أكثر من 60°/° من الأسر مثقلة بالديون الموجّهة أساسا للاستهلاك. وهو ما يتساوق مع الارتفاع المتتالي لأسعار الطاقة والمحروقات وتواصل ارتفاع نسق التضخم الذي وصل 7.1°/° في جانفي 2019. علما وأنّ عدد الفقراء وصل إلى مليون و700 ألف ساكن، أي تقريبا سدس السكان، فيما تراجع مستوى عيشة التونسيين 40°/° حسب معهد الدراسات الاإستراتيجية. ونحن أميل إلى التشكيك في صحة هذا الرقم وعديد الأرقام الواردة أعلاه، لا فقط للاعتبارات السياسية والايديولوجية التي تقود القائمين على هذه الدراسات، بل أيضا لأّن المؤشرات التي يقع اعتمادها عادة ما تكون انتقائية وصورية، بينما واقع الناس أكثر بؤسا وأكثر ألما.
حكومة النهضة/الشاهد ضاعفت الفقر والبؤس
إنّ المؤشرات الموضوعية للأوضاع المعيشية الفعلية التي يعيشها الشعب وخاصة عمّاله وكادحيه ومهمّشيه هي أوضاع بائسة، وقد بلغت في المدة الأخيرة درجة عالية من السوء خاصة فيما يهمّ الأسعار، كلّ الأسعار من الخضر والغلال واللحوم والأسماك وفواتير الماء والكهرباء والنقل والمحروقات واللباس وأدوات الدراسة… علما وأنّ الحكومة تعهّدت منذ نهاية العام المنقضي بأن تتراجع الأسعار منذ الأشهر الأولى لـ2019. وقد تحقّق فعلا ما قصدوه، فالأسعار شهدت لهيبا قياسيا طال كل المواد والخدمات خاصة مع وضعية مأساوية يعيشها الدينار التونسي. هذا وتتّجه الأسعار إلى مزيد الاشتعال بمناسبة شهر رمضان الذي يتضاعف فيه الاستهلاك العائلي ويبلغ ذروته. إنها النتيجة الحتمية لتواصل هيمنة الخيارات الرأسمالية المتوحشة.
إنّ أوضاع العمال ليست سوى جزء من أوضاع عموم الشعب، وهاهي أوضاعهم تشهد احتقانا كبيرا عشية عيدهم الذي ظلّ منذ أكثر من قرن مناسبة للتأمل والانطلاق دفاعا عن الحقوق المكتسبة والحقوق غير القابلة للتصرف. فهل تكون انطلاقة جديدة للطبقة العاملة التونسية ربطا مع أمجادها؟
علي الجلولي