عادل ثابت
تواصلت مظاهرات “السترات الصفراء” يوم السبت الفارط في باريس وعدد من المدن الفرنسية الأخرى للأسبوع الرابع والعشرين على التوالي، وذلك رغم الندوة الصحفية التي عقدها ماكرون يوم الخميس الفارط والتي لم تنجح في “تهدئة” “السترات الصفراء”.
ما شدّ الانتباه خلال المظاهرة الباريسية الأخيرة هو التقارب الحاصل بين “السترات الصفراء” والنقابات وأحزاب اليسار، حيث تظاهروا جميعا جنبا إلى جنب، ولعلّ في ذلك إشارة واستباق لمظاهرة 1 ماي والتي ستفتتحها وستكون على رأسها “السترات الصفراء”. هذا الأمر يلفت الانتباه بشكل خاص بالنظر إلى ما طبع حركة “السترات الصفراء” في بداياتها حيث كانت ترفض الظهور والتنسيق مع الأحزاب السياسية والنقابات، ولكنه في نفس الوقت تطوّر طبيعي لهذه الحركة الجديدة بالنظر إلى عمقها الاجتماعي، والمسائل الاجتماعية بطبيعتها لا تقبل الحياد في نهاية المطاف.
كيف انطلقت هذه الحركة؟ وماهي خصائصها ومطالبها؟
كان إعلان الحكومة الزيادة في الأداءات الموظفة على البنزين بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل حركة “السترات الصفراء” في 17 نوفمبر الفارط. هذه الزيادة برّرتها الحكومة بضرورة التعجيل بإحداث النقلة في مجال الطاقة عبر دفع الناس إلى التخلي عن الطاقات الملوثة بالترفيع في أسعارها لفائدة الطاقات المتجددة. إلاّ أنّ الخدعة لم تمرّ، فهذه الزيادات استهدفت الخواص دون أن تمسّ كبار الملوّثين من شركات النقل البحري والجوي والشاحنات. أي أنّ ماكرون وحكومته ماضون كما في السابق نحو تحميل الفاتورة لنفس الفئات الاجتماعية من الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ولا تعدو أن تكون النقلة في مجال الطاقة سوى ذريعة لذلك وكلمة حق أريد بها باطل. وهذا الأمر يصبح أكثر وضوحا إذا علمنا أنّ عائدات الزيادة في تلك الأداءات لن تكون موجّهة لتمويل الإجراءات لفائدة البيئة والمحيط سوى بنزر قليل (أقل من 20 بالمائة)، أمّا الجزء الأكبر سيكون من نصيب خزينة الدولة والجهات لتغطية نفقات عمومية أخرى.
هذا الإجراء جاء ليؤكّد أكثر من أيّ وقت مضى قناعة ما فتئت تترسّخ لدى فئات واسعة من المجتمع وهي أنّ ماكرون هو رئيس الأثرياء، كيف لا وهو من أغدق الهدايا على كبار الأثرياء عبر مراجعة الضريبة على الثروات الكبرى مباشرة إثر توليه الحكم، وهو أيضا من يواصل تمتيع كبريات الشركات بإعفاءات جبائية من أجل المنافسة والتشغيل رغم محدودية نتائج تلك الإعفاءات على مستوى التشغيل.
ينضاف إلى ذلك “الحقرة” والازدراء الذي عبّر عنه ماكرون أكثر من مرة خصوصا في علاقة بطالبي الشغل الذين وصفهم بالكسل وعدم الحرص في البحث عن شغل، متناسيا أنّ البطالة بالحجم الذي تعرفه فرنسا هي نتاج لأزمة الرأسمالية وليست عزوفا عن البحث عن الشغل.
انطلقت إذن حركة “السترات الصفراء” للمطالبة بالتراجع في قرار الترفيع في الأداءات الموظفة على البنزين لتدفع بعشرات الآلاف من المواطنين إلى ارتداء سترات صفراء واحتلال مقاطع الطرقات ومحطات استخلاص الطرق السريعة، ولتتخذ من شبكات التواصل الاجتماعي أداة للتواصل وتنظيم التحركات. ولم تنقطع المظاهرات الدورية كل يوم سبت في العاصمة باريس وسائر المدن الداخلية رغم القمع المسلط على المتظاهرين والعنف الذي شهدته.
إضافة إلى الشراح العمالية والفئات الفقيرة، انخرطت أعداد مهمة من المتقاعدين والنساء، ومن البرجوازية الصغيرة والحرفيين في المدينة والريف خصوصا حيث تراجع المرفق العمومي كثيرا بسبب السياسات النيوليبرالية وحيث استعمال السيارة ضروري للتنقل لقضاء الحاجات والذهاب إلى مركز العمل.
ولئن كان تأثير أقصى اليمين باديا للعيان عند انطلاق الحركة من خلال رفض النقابات وعدم “تسييس الحركة”، وهو ما حدا بالعديد من القوى اليسارية في البداية إلى التباين مع “السترات الصفراء” وعدم مساندتها، فإنها عرفت تطورا في اتجاه تجذير مطالبها الاجتماعية والديمقراطية لتطالب بالترفيع في الأجر الأدنى وتحسين جرايات التقاعد والدفاع عن الخدمات والمرافق العمومية وإلغاء الأداء على القيمة المضافة بالنسبة إلى المواد الأساسية وتعزيز الديمقراطية السياسية بتمكين المواطنين من المبادرة بالاستفتاء وهو ما أعطى هذه الحركة بعدا اجتماعيا عميقا جعلها تحظى بمرور الوقت بدعم واسع من عموم اليسار والقوى الاجتماعية وبمساندة شرائح مهمة من الرأي العام.
ويمكننا القول إنّ السترات الصفراء تشكّل اليوم حركة فريدة من نوعها في سجلّ الحركات الاحتجاجية والاجتماعية في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة، ممّا جعلها تدفع بمنظومة الحكم في أزمة حقيقية.
فكيف كان ردّ فعل ماكرون وحكومته؟ وكيف تعامل مع الاحتجاجات؟ وما هي الإجابات التي تقدّم بها؟
عنف بوليسي مفرط لإرهاب المتظاهرين
واجه ماكرون وحكومته “السترات الصفراء” بعنف غير مبرر ومفرط ضدّ المتظاهرين، عنف بوليسي غير مسبوق غايته ترهيب المتظاهرين لثنيهم عن الخروج إلى الشارع مجددا. وهو ما جعل فرنسا محلّ إدانة من قِبَل منظمات حقوق الإنسان وانتقادات من قبل المجلس الأوروبي والمفوّضية العليا لحقوق الإنسان التابعة لمنظمة الأمم المتحدة ميشال باشلي التي طالبت بفتح تحقيق معمّق في كل حالات الاستعمال المفرط للقوة ضد المتظاهرين.
بلغت حصيلة الاعتداءات البوليسية 720 إصابة من بينها حالة وفاة و264 إصابة في الرأس و23 شخصا فقدوا استعمال إحدى عيونهم و5 حالات أيادي مبتورة بسبب استعمال مفرط للقمع ولأسلحة خطيرة ضد المتظاهرين. وقد تمّ إحصاء 91 صحفيا من بين الضحايا.
من بين الأسلحة المستعملة هناك “الفلاش بال” من نوع LBD40 والذي تسبّب في 280 إصابة تتمثل خصوصا في كسور في الجمجمة وإصابات في العين، والقنابل المتفجرة من نوع GLI-F4 – تحتوي على مادة “التي ن تي (TNT)” – والتي تسبّبت في 32 إصابة من بينها حالات بتر اليد، إضافة إلى القنابل اليدوية لفك الحصارالتي خلّفت 71 إصابة. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أنّ فرنسا هي البلد الأوروبي الوحيد الذي يستعمل أسلحة متفجّرة لتفريق التجّمعات.
التّضييق على الحرّيّات
بالتوازي مع القمع، استغلّ ماكرون وحكومته المواجهات بين المتظاهرين وقوات البوليس وأعمال التخريب التي رافقت بعض المظاهرات لتعزيز ترسانة القوانين المعادية للحريات بـ”قانون ضدّ المخرّبين”. وقد أثار هذا القانون جدلا كبيرا بما في ذلك في صفوف نواب الحزب الحاكم، إذ احتفظ 50 نائبا من بينهم بأصواتهم أثناء المصادقة على نص القانون من قبل مجلس النواب في 5 فيفري. هذا القانون يوسّع من صلاحيّات محافظي المناطق ليمكّنهم من تحديد مناطق آمنة حول المظاهرات يحظر داخلها التجوّل على “الأشخاص الذين يشتبه في كونهم يشكّلون خطرا على النظام العام”، ويمنع تغطية الوجه قصدا بصفة كلية أو جزئية ويعرض من يقوم بذلك إلى عقوبة بسنة سجن وخطية يمكن أن تصل 15 ألف يورو.
ماذا أجابت السّلطة على مطالب المحتجّين؟
منذ الفترة الأولى لاندلاع الاحتجاجات، سارعت الحكومة بالتراجع في الزيادة في سعر المحروقات. إلاّ أنّ ذلك الإجراء لم ينجح في استيعاب الحركة الاحتجاجية التي لم تعد تكتفي بذلك المطلب وتجاوزته لتطرح مسألة الزيادة في الأجور والجرايات والعدالة الجبائية وتمكينهم من تبليغ أصواتهم بشكل مباشر عبر الاستفتاء، أي بعبارة أخرى مراجعة المنظومة برمّتها.
هذا الفشل فرض على ماكرون التوجّه بخطاب تلفزي اعتذر خلاله عن طريقة تعامله المتعالية والمتحاملة وأعلن عن زيادة بـ100 يورو في منحة النشاط بالنسبة لأصحاب الأجر الأدنى، وإعفاء جبائي بالنسبة للساعات الإضافية وإلغاء الترفيع في “المساهمة الاجتماعية المعممة” الموظفة على جرايات التقاعد دون الـ2000 يورو، وتحفيز المؤسسات على دفع منحة استثنائية معفاة من الجباية لأجرائها. وبالمقابل تمسّك بـعدم المساس بالامتيازات الجبائية الممنوحة للأثرياء (الضريبة على الثروات الكبرى) أو لفائدة الشركات (CICE)، أي بمعنى آخر فإنّ تمويل تلك الإجراءات سيكون من المال العام أو بالضغط على النفقات العمومية. وأعلن تنظيم حوار وطني حول عدد من القضايا.
وحتى الندوة الصحفية التي عقدها يوم الخميس الفارط فإنها لم تخرج عن ذات السياق ولم تطرح البتّة مسألة إعادة توزيع الثروة وإرساء قدر من العدالة الاجتماعية مثلما يطالب بذلك المحتجّون.
كل ذلك يُنبئ بتواصل حركة “السترات الصفراء” على المدى المباشر، أمّا تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها فهو سيكون مرتبطا بنهوض الحركة العمالية والنقابية والتحامهما معا.