التأمت بين الرابع والسادس من أفريل أشغال المؤتمر التأسيسي لحزب العمال الاشتراكي الثوري بجنوب إفريقيا التي شارك فيها 944 نائبا يمثلون مناضلي الحزب في الأقاليم التسعة التي تعدّها جمهورية جنوب إفريقيا. هذا وقد كان الحزب قد عقد في وقت سابق (15 ـ 16 ديسمبر 2018)، بُعيد حصوله على الترخيص القانوني للنشاط، مؤتمرا تمهيديا ضبط خلاله خطة نشاطه للسنة الموالية (2019) التي من بين نقاطها استكمال هيكلة الحزب في كافة الأقاليم والمدن والقرى وعقد المؤتمر التأسيسي وانتخاب الهياكل القيادية للحزب لتحلّ محلّ الهيئات التسييرية الوقتية، والاستعداد للمشاركة في الانتخابات العامة التي تنتظم يوم 8 ماي من العام الجاري.
وقد شهد المؤتمر التي حضرته وفود تمثل أحزاب اشتراكية وتقدمية من عدة بلدان من جميع القارات (من بينها حزب العمال/تونس)، شهد نقاشات عميقة وحادة أحيانا للبتّ في مختلف القضايا المطروحة والمتعلقة بخط الحزب وهويته الفكرية والتنظيمية وبرنامجه السياسي والاقتصادي الذي سيتقدم به للناخبين في أول معركة سياسية يخوضها كحزب بعد أن كان أغلب قادته ومناضليه يخوضون المعارك ذات الطابع الاقتصادي من خلال النقابات المناضلة التي ينتمون إليها ولعلّ أشهرها النقابة الوطنية لعمال المعادن (نومسا NUMSA) التي تعدّ ما لا يقل عن 370 ألف منخرط.
والمعلوم أن الحياة السياسية في جنوب إفريقيا يهيمن عليها منذ الانتصار على نظام الميز العنصري وتنظيم أول انتخابات متعددة الأعراق سنة 1994، حزب المؤتمر الوطني الإفريقي أي حزب نيلسون مانديلا، والذي هو عبارة على تنظيم جبهوى تنضوي تحت لوائه أحزاب سياسية كالحزب الشيوعي وتنظيمات مهنية مثل الكوساتو COSATU المركزية النقابية الأكبر والتي تضمّ كبرى النقابات الوطنية ومن بينها نقابة “نومسا” المذكورة.
لكن ما حدث في جنوب إفريقيا بعد الانتصار على نظام “الأبارتيد” لم يكن مختلفا عمّا حدث في باقي البلدان الإفريقية غداة رحيل الاستعمار المباشر. إذ سرعان ما تحوّل الحكام الجدد وهم من السود الى نسخ مشوّهة من الحكام البيض السابقين. فزيادة على أن الأوضاع المعيشية للغالبية الساحقة من السكان لم تتحسن، إذ يعيش 52,3℅ من سكان البلاد تحت عتبة الفقر، من بينهم 26,3℅ يعانون من الجوع، استشرى الفساد في صلب الأوساط السياسية العليا ولم يستثن حتى الرؤساء المتعاقبين. فبعد ولاية نيلسن مانديلا (1994 ـ 19999) الذي رفض الترشح لولاية ثانية، وغادر الحكم مرفوع الرأس، نظيف اليدين، أقيل خليفته من منصب الرئاسة لثبوت تورطه في قضايا فساد وتلاعب بالمال العام. كان ذلك مصير “تابو مبيكي” (1999 ـ 2008)، وخليفته “جاكوب زوما” (2009 ـ 2018)، وقد وصلا إلى سدّة الرئاسة لكونهما كانا يرأسان الحزب الأغلبي في البرلمان أي المؤتمر الوطني الإفريقي. أما الرئيس الحالي “سيريل رامافوزا”، فهو يعدّ من الأقلية السوداء الأكثر ثراء في البلاد. وهو زيادة على ذلك، تحمّله المعارضة مسؤولية الجريمة المرتكبة يوم 16 أوت 2012 بحق عمال منجم البلاتين بماريكانا الذي كان يرأس مجلس إدارة الشركة المالكة له، بإصداره الأوامر للبوليس بإطلاق الرصاص على العمال في يوم إضرابهم السادس، متسببا في وفاة 34 عاملا وجرح 78 واعتقال 279 وُجهت لهم تُهم القتل العمد.
وقد مثلت هذه الحادثة نقطة تحوّل في وعي وسلوك العديد من السياسيين وخاصة النقابيين، ومنهم زعماء النقابة الوطنية لعمال المعادن. ففي مؤتمرها الوطني المنعقد سنة 2013، اتخذت هذه النقابة عديد القرارات النوعية، لعل من أهمها:
ـ سحب ثقتها من المؤتمر الوطني الإفريقي ومن الأحزاب المشكلة له وعدم التصويت لها في انتخابات 2014.
ـ الانسلاخ من المركزية النقابية “كوساتو COSATU” الواقعة تحت هيمنة المؤتمر الوطني الإفريقي والحزب الشيوعي بجنوب إفريقيا.
ـ العمل على بعث جبهة متحدة تضم المنظمات المهنية والجمعيات المدنية التي تعنى بمشاكل الطبقات الكادحة والفقيرة، وهو ما تم فعلا سنة 2015، وهو جبهة قائمة ونشيطة انخرطت فيها الى حد الآن أكثر من ألف من المنظمات والجمعيات الناشطة في مجالات مختلفة وعلى مستويات متعددة (محلية، جهوية، وطنية…)
ـ العمل على بعث مركزية نقابية مستقلة عن الأحزاب المذكورة بجلب قطاعات نقابية أخرى، وهو ما تم سنة 2017 بتأسيس “الفيدرالية النقابية لجنوب إفريقيا: SAFTU” التي التحقت بها الى جانب نقابة “نومسا” 47 نقابة قطاعية حيث يناهز عدد منخرطيها مجتمعة المليون عامل.
ـ الحسم في محدودية العمل النقابي الذي لا يمكنه بمفرده تغيير الأوضاع بصفة جوهرية وإقرار فكرة ضرورة الانخراط في العمل السياسي وخلق الإطار الذي يسمح للطبقة العاملة بالتنظم المستقل عن أحزاب البورجوازية المتسببة في الخراب الذي آلت إليه البلاد وحالة البؤس الذي تعيشها الطبقة العاملة وعموم الكادحين في بلد يُعتبر الأغنى في القارة الإفريقية. وقد انطلق الاشتغال على هذه الفكرة منذ ذلك الحين وأدت إلى تأسيس الحزب الذي ذكرنا: “حزب العمال الاشتراكي الثوري بجنوب إفريقيا”.
إن تأسيس هذا الحزب يفتح أمام الطبقة العاملة في جنوب إفريقيا آفاقا أرحب للنضال، ويجعلها تساهم من مواقع متقدمة في الشأن الوطني العام، بعيدا عن مقولات الحياد الزائف. ونظرا لما لهذه التجربة من أهمية، وهو تُخاض فوق أرض إفريقية، فلنا عودة لها في أعدادنا القادمة لمزيد التعريف بها وتسليط الأضواء عليها، وعلى البرامج التي تقترحها من أجل النهوض بالبلاد.
مرتضى العبيدي