الجزء الثاني
إذا كانت حكومة الشاهد/النهضة أكثر الحكومات التي عرفتها بلادنا عمالة للخارج واستهتارا بمقومات السيادة الوطنية وكرامة الوطن والشعب ومعاداة لها، فإنّها من جانب آخر أكثر الحكومات خطورة
على مقوّمات العيش الكريم لا فقط بالنسبة إلى الجماهير الشعبية الفقيرة من عاطلين عن العمل وأصحاب دخل محدود وكادحين في المدن والأرياف بل وكذلك بالنسبة إلى الفئات المتوسطة من موظّفين وفلاّحين متوسّطين وأصحاب مهن ومؤسّسات صغرى ومتوسّطة.
ففي عهد هذه الحكومة عادت معدلات البطالة إلى الارتفاع وانتشرت مظاهر الفقر والتسول “والتبربيش” في المزابل. وبلغ التضخم نسبا غير مسبوقة في تاريخ تونس (8%) نتيجة الارتفاع الجنوني للأسعار وانهيار قيمة الدينار وشح المواد الاستهلاكية وفقدان بعضها في السوق في أكثر من مناسبة مثل السكر والحليب والسميد، وتفاقم مظاهر المضاربة والغش وانتشار مواد مهرّبة ومجهولة المصدر أثبتت التحاليل الصحية أنها مواد مسرطنة ومضرّة بصحة المستهلك.
وفي عهد هذه الحكومة أفلست الكثير من المؤسسات واستمرّت في الغلق وتسريح العمال وإحالتهم على البطالة وغيّر الكثير من المستثمرين المحليين والأجانب وجهتهم إلى بلدان أخرى (المغرب وبلدان إفريقية) وقد اعترف محافظ البنك المركزي في الأيام الأخير بوجود “شحّ في السيولة وعدم قدرة البنوك على تمكين المواطنين وأصحاب المشاريع الصغرى من القروض، الأمر الذي يجعل العديد منهم يلجأ إلى أشكال أخرى من التمويل الموازي”.
وفي عهد هذه الحكومة شارفت الصناديق الاجتماعية على الإفلاس، الأمر الذي جعل عشرات الآلاف من المتقاعدين، نساء ورجالا، يحتلّون الشوارع ويطوّقون مقرّات الحكومة والبرلمان احتجاجا على حجب بعض مستحقاتهم والتأخير في صرف جراياتهم. أمّا مؤسسات الصحة العمومية فقد تحوّلت إلى مدافن للرضّع ومراتع للأدوية المغشوشة، علاوة على تفاقم ظاهرة الاكتظاظ وغياب الأدوية وفقدان الأمل في المعالجة مقابل انتشار مظاهر السمسرة في هذا القطاع والإثراء على حساب أوجاع الناس البسطاء محدودي الدخل. وفي السياق نفسه عرفت المدرسة والجامعة العمومية أخطر أزمة في تاريخها نتيجة سوء الإدارة والارتجال والتلاعب بمصائر مئات الآلاف من الطلبة والتلاميذ والأساتذة والمعلمين والأولياء والعائلات.
إنّ إصرار حكومة الشاهد على الاستمرار في نفس منوال التنمية رغم كلّ الدلائل على فشله أودى بالبلاد اليوم إلى حالة من الإفلاس الاقتصادي والانخرام المالي. ولم تجد له الحكومة من حلّ غير مزيد التداين للخارج والترفيع الاعتباطي في الأداءات المباشرة وغير المباشرة بما زاد في كلفة الإنتاج وانعكس على المستهلكين بارتفاع مشطّ للأسعار وبالتالي تردّي مقدرتهم الشرائية وحيرتهم أمام غلاء المعيشة.
لذلك ومن هذا المنطلق يكتسي الملف الاقتصادي والاجتماعي أهمية بالغة تُملي على الحركة السياسية والاجتماعية تبويبه ضمن الأولويات الأساسية في النضال ضدّ نتائج سياسة الحكومة وخياراتها. فالقوى الثورية والديمقراطية، أحزابا ومنظمات مهنية وفعاليات مقاومة شعبية مطالبة بتصعيد النضال ضدّ منهج تحميل الشعب مسؤولية أزمة لم يتسبّب فيها وضد خيارات التنمية المفلسة التي أدّت إلى تفقير الغالبية العظمى من الشعب التونسي لصالح حفنة من السماسرة العملاء.
وليس خافيا على أحد أنّ السياسة التعاقدية بين الحكومة والأطراف الاجتماعية ليست كفيلة لوحدها بصيانة المقدرة الشرائية وحماية الشغالين من آفة الغلاء لأكثر من سبب. فهي من جهة لا تعني سوى نسبة من الأجراء فقط (القطاع المنظم) فيما تبقى فئات اجتماعية أخرى كثيرة غير مشمولة بهذه السياسة وهي بالتالي فاقدة لكل حماية، ممّا يجبرها على النضال بشكل غير منظم وبطرق غالبا ما تكون عرضة للاستهتار بل والقمع في غياب سند وإطار قانوني. ومن جانب آخر تنكّرت الحكومة لمبادئ الحوار الاجتماعي حتى في نسخته الموروثة عن منظومة بن علي ومساوئها الكثيرة، الأمر الذي جعل العديد من القطاعات بل والاتحاد العام التونسي للشغل نفسه يلجأ لأول مرة بعد عدة عقود إلى الاضراب العام. وفضلا عن هذا كله فقد تأكّد بما لا شك فيه أنّ نسبة الزيادات في الأجور التي أقرّتها الحكومة بعد مفاوضات شاقة وأزمات اجتماعية حادة لم يكن لها الأثر في تحسين ظروف عيش الأجراء ذلك أنها كانت في كل مرة مناسبة لالتهابات جديدة في الأسعار أضرّت بالمقدرة الشرائية أكثر من كونها حسّنتها. علما وأنّ أسعار أكثر من 85% من المواد هي أسعار محرّرة ولا تخضع لأيّ رقابة.
لذلك صحّ القول إنّ أشكال النضال النقابية التقليدية في هذا المضمار لم تعد لوحدها كافية لمواجهة التدمير الممنهج لحياة عموم الشعب التونسي ولم تعد هذه المواجهة حكرا على النقابات بقدر ما تتطلّب تظافر جهود كل الفئات الاجتماعية (المنظمة وغير المنظمة) وأطر نضال كثيرة ومتنوعة من أجل بناء حركة مقاومة اجتماعية أوسع وأشمل وأنجع.