عادل ثابت
منذ الأيام الأولى للحركة الاحتجاجية، كان تجمّع المهنيين السودانيين يوجّه المتظاهرين ويجذّر الحركة الشعبية حتى أنه تمكن من تحويلها من مجرد احتجاجات إلى المطالبة برحيل النظام وتسليم السلطة إلى الشعب وذلك خلال العشرة أيام الأولى، حيث أصدر بيانا بتاريخ 25 ديسمبر 2018، عبارة عن مذكّرة تتوجه بها الجماهير المنتفضة إلى القصر الرئاسي لمطالبة البشير بالتنحي وتسليم السلطة إلى مدنيين يسهرون على نبذ الحرب والحفاظ على وحدة السودان والقيام بإصلاحات اقتصادية. وقد دعّم هذا التوجه، القوى السياسية المعارضة الأساسية في السودان من بيتهم الحزب الشيوعي السوداني.
حول مسار الثورة وتطوّراتها الحاليّة وآفاقها التقت “صوت الشعب” محمد مختار الخطيب السّكرتير السّياسي للحزب الشّيوعي السّوداني وأجرت معه الحوار التالي:
تمكّنت انتفاضة 19 ديسمبر 2018 – 11 أفريل 2019 من الإطاحة بالدكتاتور عمر البشير، فما الذي تغيّر في الواقع السوداني؟
تفاقمت الأزمة العامة في السودان تحت الحكم الاسلاموي واتسعت المظالم في كل جبهات الحياة والجغرافيا. وكانت الانتفاضة شاملة تنادي بالخلاص الجذري من النظام الاسلاموي البائس وتفكيك النظام وتصفيته. وتمكّن الشعب من هزم أجهزة القمع الرسمية وملحقاتها من مليشيات وكتائب وأصبح سيد الموقف، مما اضطر النظام إلى التخلي عن رأس السلطة وتعيين نفسه مجلسا عسكريا انتقاليا وفرض نفسه شريكا في الخلاص من النظام ومشاركا في حكومة الانتفاضة الانتقالية، وجنح إلى أن يكون هو الأصل يُلحق بالآخرين في الحكومة الانتقالية وفق شروطه. هكذا اعتقدوا أنهم قطعوا الطريق على الانتفاضة من الوصول إلى غاياتها وإضفاء حماية على مكتسبات فئات الرأسمالية الطفيلية وسدنة النظام البائد والحفاظ على نافذيه من غضب الشعب ومن ثمة لم يتحقق شيء ذات بال منذ خلع رأس النظام.
غير أنّ الشعب مايزال يملك إرادة التغيير الجذري ومازالت الانتفاضة عصية على الاحتواء. فهي ذات جذور عميقة مسنودة بوعي سياسي واجتماعي مستمدة من تجربة أكتوبر 1964 وانتفاضة أبريل 1985 والدفع بنظامين شموليين عسكريين إلى مزبلة التاريخ. وترمي الانتفاضة، إلى جانب إسقاط النظام، إلى التوجه نحو استدامة الديمقراطية والحريات العامة والسلام وترسيخ التداول السلمي الديمقراطي للسلطة كشرط لاستقرار السودان سياسيا والتّخلص من الانقلابات العسكرية وفتح المسار لنهوض شامل اقتصاديا وتنمويا واجتماعيا وثقافيا وتبادل المنافع مع دول العالم والإسهام في سلام العالم وأمنه.
ماذا يميّز الثورة الحالية عن ثورة أكتوبر 1964 التي أطاحت بإبراهيم عبود وثورة 6 أفريل 1985 التي أنهت حكم جعفر النميري؟
انتفاضة 19 ديسمبر 2018 هي امتداد لمسار الثورة الديمقراطية التي بدأت بالتحرر الوطني والاستقلال السياسي. ثورة أكتوبر 1964 وأفريل 1985 تحمل شعارات الثورة الحالية ولكن بعمق واتساع القوى الاجتماعية المشاركة في الانتفاضة رأسيّا وأفقيّا، إذ شملت كافة أرجاء السودان العاصمة والأقاليم والأرياف وعمّت المدن والقرى وعرفت مشاركة واسعة للنساء والشباب وكافة الفئات العمرية مشكّلة ملحمة وحدة وطنية مع اصطفاف كامل الشعب وراء قيادة الانتفاضة ممثّلة في “قوى إعلان الحرية والتغيير” وعزم أكيد على إسقاط النظام الذي جثم على صدورهم 30 عاما وعلى تفكيكه وتصفيته. فقد تراكم ووقع الظلم على كافة الطبقات والشرائح الاجتماعية فقرا وإذلالا وحروب إبادة وارتكاب جرائم حرب وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وسلب ونهب لموارد وثروات الوطن واستشراء الفساد والتفريط في سيادة الوطن وكرامة الشعب. الانتفاضة هي نتيجة تراكم نضالي خاضه شعب السودان طوال 30 عاما منذ وصول الإسلام السياسي إلى الحكم.
ثورة أكتوبر المجيدة 1964 وانتفاضة أفريل 85 كان وقودها وقواها الحية القوى التحديثية في العاصمة والحضر. لكن تمّ إجهاض شعاراتها الوطنية الديمقراطية من قبل القوى الحزبية المتحفظة ذات النفوذ الواسع وسط القوى التقليدية في الريف حيث استخدمت النفوذ الديني والقبلي للضغط لفرض فترات انتقالية قصيرة لا تكفي لتحقيق الشعارات على أرض الواقع والإسراع بإجراء انتخابات عامة استخدمت فيها الأحزاب التقليدية أغلبيتها الميكانيكية في البرلمان لإجهاض شعارات الانتفاضة ومواصلة ذات السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية التي ثار ضدّها ثوار أكتوبر 64 وأفريل 85.
هذا العامل الذي استخدمته الأحزاب التقليدية غير متوفّر لها حاليا في انتفاضة 19 ديسمبر 2018، فقد قلّ نفوذهم مع بروز التمايز الطبقي الاجتماعي وارتفاع الوعي بالحقوق. فذات القوى التي استخدمت للإجهاض هي التي رفعت السلاح ضد الحكومة المركزية مطالبة بتوزيع عادل للسلطة والثروة والتنمية المتوازنة والتوزيع العادل للخدمات. وأصبحت جماهير الريف تقود الانتفاضة بجانب الحضر والقوى التحديثية تحت شعارات موحّدة.
من جانب آخر توافقت قوى أحزاب المعارضة مبكّرا على برنامج بديل ديمقراطي يُنفَّذ في الفترة الانتقالية بإعلان دستوري يحكم الفترة الانتقالية وتحديد أربع سنوات لحكومة انتقالية تؤسّس لدولة مدنية ديمقراطية أساس الحقوق والواجبات فيها المواطنة، وتعمل على تهيئة المناخ لعقد مؤتمر دستوري قومي في العام الأخير من الفترة الانتقالية يحضره ممثلون عن كافة المكونات السياسية والمجتمعية والتوافق على حلّ عوامل وعناصر الأزمة العامة ورسم حاضر ومستقبل السودان والتوافق على المبادئ العامة للدستور الذي يصنعه الشعب وليس الغرف المغلقة للنخب السياسية. وفق هذا الدستور تُجرى الانتخابات العامة ليختار الشعب من يحكمه وهذا هو الطريق لاستدامة الديمقراطية والسلام في بلادنا وترسيخ التداول السلمي الديمقراطي ومفارقة حكم الدكتاتوريات وتمازج أهل السودان وتحقيق الوحدة في التنوع. بالطبع لن تستكين الأحزاب المحافظة على مصالحها وقطع الطريق على الانتفاضة لاستكمال أهدافها.
هل أنّ الانقلابات العسكرية على الثورات الشعبية قدر لا مفرّ منه؟
بالطبع يبقى السؤال لماذا سيادة الدائرة الشريرة بعد الاستقلال. فقد أطاح شعب السودان بدكتاتوريتين عسكريتين في ثورة أكتوبر 1964 وابريل 1985 مستخدما سلاح الانتفاضة والإضراب السياسي والعصيان المدني واليوم يعمل على استكمال مشواره في الإطاحة الكاملة بنظام الجنرال البشير الشمولي الاسلاموي مستخدما ذات السلاح. ولكن ظاهرة استيلاء العسكر على السلطة ليست استثناء بل عمّت أغلب دول التحرر الوطني في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية حيث لم تنجح الأنظمة المدنية التي حكمت بعد الاستقلال من تحقيق تحرر وطني كامل من المستعمر الأجنبي واكتفت بالاستقلال السياسي دون تحقيق استقلال اقتصادي يعززه وتحقيق مقرطة وعدالة اجتماعية ترضي تطلعات الشعوب ومن ثمة الوقوع من جديد تحت نفوذ الاستعمار الحديث وصراعاته على الموارد والثروات والأسواق والأيدي الرخيصة وإفقار البلاد وفرض حكومات مدنية وعسكرية خادمة لمصالحه وليس مصلحة الشعب وتطلعاته في حياة كريمة.
أكيد أنّ مهام الجيش ليس الحكم والاستيلاء قهرا على السلطة، فمثله ومثل أجهزة الدولة الأخرى المدنية تتلخص مهامه في خدمة الشعب والوطن، فللجيش مهامه في حماية الشعب والوطن من الأعادي والحفاظ على السيادة وصون حدوده تحت إشراف حكومة مدنية يرتضيها الشعب.
استقرت ظاهرة الدائرة الشريرة في السودان منذ الاستقلال بتناوب الحكم عبر أنظمة مدنية ديمقراطية قصيرة العمر قاسمهما المشترك هو سير كلاهما على ذات الطريق التنموي الذي خطه الاستعمار البريطاني خدمة لمصالحه. وهكذا بقي السودان في التقسيم الدولي للعمل مصدّرا للمواد الخام إلى الدول الرأسمالية الكبرى وسوقا لمنتجاتها بل حصر التنمية والخدمات على ذات المثلث الجغرافي المختار سابقا من الاستعمار مبقيا على التنمية غير المتوازنة التي سادت البلاد وسوء التوزيع للخدمات العامة الضرورية، حيث وسبق أن قسّم المستعمر السودان إلى أحزمة تنموية وربطه بالسوق العالمي وأبقى الحزام الثاني دون تحديث يذكر مع ربطه تجاريا بالسوق العالمي وأهمل الحزام الاقتصادي الثالث. فقد بقي على تقليديته وتخلف وسائل الإنتاج مع فرض ضرائب مختلفة على السكان لجبرهم على العمل في الحزام الأول عمالا زراعيين موسميين في مشاريع القطن والزراعة الآلية والمطرية وتبع التخلف ازدراء عرقي وثقافي وديني.
واصلت الحكومات المتعاقبة عسكرية ومدنية على ذات النهج وتصدير فائض القيمة المنتج في السودان للخارج معتمدا على القروض والمنح المالية والعينية لتسيير دواليب الدولة للتوسع التنموي لسد حاجات أسواق الغرب بدلا عن الاعتماد على الذات. وغرق السودان في الديون والتبعية والسير في فلك الاستعمار الجديد. تبادلت الأنظمة العسكرية والمدينة السلطة على ذات النهج والوقوع في فلك التخلف والدائرة الشريرة. لن يتمكن السودان من تحقيق استقرار سياسي ونهضوي إلاّ بانتهاج طريق تنموي جديد يحقق من خلاله استقلالا اقتصاديا ومقرطة وعدالة اجتماعية واستعادة الدولة لإرادتها وتوظيف الموارد والثروات في نهوض الوطن بأكمله ورفاهية الشعب. ولن يتحقق ذلك إلاّ بالعمل والنضال على استدامة الديمقراطية والسلام وترسيخ مبدأ التداول السلمي الديمقراطي وصنع سودان يسع الجميع محققا الوحدة في التنوع وهو الطريق للتخلّص من الانقلابات العسكرية واستدامة الديمقراطية.
ما القاعدة الاجتماعية للثورة الجارية الآن؟ ومن هي القوى السياسية المعبّرة عنها والتي تقودها؟ وما هو برنامجها؟
رفع الحزب الشيوعي السوداني شعار إسقاط النظام عبر أوسع جبهة جماهيرية في عام 2011، حيث تبين له تماما أنّ النظام غير صادق في تحقيق التحول الديمقراطي الوارد في اتفاقية نيفاشا 2005 مع الحركة الشعبية لتحرير السودان (جون قرن) أول انتخابات عامة تجري في البلاد بعد اتفاقية نيفاشا في العام 2011.
وقّع الحزب مع حلفائه في تحالف قوى الإجماع على وثيقة البديل الديمقراطي وهي بمثابة البرنامج البديل السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يتمّ تنفيذه بعد إسقاط النظام. وقد تمّ تطوير الوثيقة عدة مرات في اجتماعات لاحقة جرت بالخارج مع القوى السياسية حاملة السلاح ومنظمات المجتمع المدني (وثيقة نداء السودان لإعادة هيكلة السودان في باريس في 22 جوان 2016) وإدماج مختلف الوثائق المبرمجة مع هذه القوى في وثيقة واحدة والتي تطورت لتصبح الوثيقة والبرنامج المعدّ تنفيذه في الفترة الانتقالية من قبل قوى إعلان الحرية والتغيير التي تقود الانتفاضة الشعبية الحالية ثم التوقيع على الإعلان الدستوري مع قوى تحالف الإجماع الوطني وهو الدستور المؤقت الذي يحكم السودان في الفترة الانتقالية وتم تطويره مع قوى إعلان الحرية والتغيير وأصبح الدستور المؤقت لحكم السودان في الفترة الانتقالية المتوافق عليها (4 سنوات). يمكن القول إنّ هذه الانتفاضة قاعدتها الجمهور العريض السياسي والاجتماعي الذي تضرر من نظام الإنقاذ وسياساته ويضمّ قطاعات واسعة من المجتمع السوداني من القوى التحديثية والتقليدية في الريف. ومثّلت مشاركة المرأة السودانية في الحراك الشعبي علامة فارقة لوقوع ظلم كثيف عليها طوال فترة الإنقاذ علاوة على إرث المرأة السودانية النضالي ودورها المرموق في مجتمعات السودان منذ عهد الكنداكات ملكات النوبة قبل الميلاد.
بماذا تفسّر تخلي المجلس العسكري عن ابن عوف ونائبه؟
أكيد أنّ تخلى المجلس العسكري الانتقالي عن البشير ولاحقا عن ابن عوف ونائبه لم يكن انحيازا للشعب. فقد تمّ ذلك تحت ضغط الانتفاضة وإيقاعها الهزيمة بجسارة الثوار على أجهزة وآليات القمع المفرط واستخدام الرصاص الحي واستشهاد العشرات وجرح المئات واعتقال الآلاف من الثوار والثائرات، فاضطروا لخلع رئيسهم واستلام السلطة ليس لحماية الشعب وإنما لقطع الطريق على الانتفاضة حتى لا تصل غاياتها في إسقاط كامل المنظومة وتفكيك الدولة العميقة وتصفية التمكين حفاظا على مكتسبات الرأسمالية الطفيلية المتأسلمة وحمايتهم من المحاكمات وغضب الشعب.
فالمجلس العسكري الانتقالي هو ذات مجلس أمن النظام الذي كوّنه الرئيس المخلوع لحماية النظام وما وصلوا موقعهم ومناصبهم العسكرية إلاّ لولائهم للنظام ونائب رئيس المجلس هو قائد مليشيا الدعم السريع التي ارتكبت أفظع الجرائم ضد المواطنين العزّل في دارفور وقد شهدت كل تصرفات المجلس العسكري انحيازهم للثورة المضادة والسعي إلى تمكين أنفسهم في السلطة والتلكؤ في التسليم للمدنيين الثوار رغم ما يمارس عليها من ضغوط ممّا يحتّم استمرار الانتفاضة وتكملة المشوار.