تتواصل الأوضاع متوتّرة بالجزائر الشقيقة بعد أن دخلت الاحتجاجات شهرها الرابع. احتجاجات انطلقت في بدايتها لرفض تمكين الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة من عهدة خامسة، وهو ما قدرت الجماهير على فرضه متصدية للقمع البوليسي ولمناورات السلطة الحاكمة التي فعلت كل ما في وسعها للالتفاف على مطلب الشعب بالإعداد للتّداول على السّلطة وخلافة بوتفليقة. وهو ما يُعدّ شكلا آخر للاستبداد في العالم العربي الذي يصرّ حكامه ملوكا ورؤساء على التمسك بالكرسي ولو على كرسي متحرك.
وبانتصار الشعب على الرئاسة مدى الحياة، انفتحت صفحة جديدة في تاريخ الجزائر، صفحة يريد الشعب تطويرها نحو انتقال ديمقراطي حقيقي يقطع مع الدكتاتورية وحكم المافيات. وهو ما عبرت عنه الشعارات التي رفعتها مئات الآلاف من الحناجر، وتريد الدولة العميقة إجهاضها بإعادة ترتيب شؤون الحكم لما بعد بوتفليقة.
الصّراع بين إرادتين
ويتواصل الصراع المفتوح بين إرادتين، إرادة التغيير التي تواصل النزول للشارع مساء كل جمعة للتعبير عن مطلب أساسي وهو أن شعب الجزائر يريد إسقاط النظام برمته وبكل رموزه، وكل مؤسسات الاستبداد وفي مقدمتها عبد القادر صالح الرئيس المؤقت الحالي الذي كان رئيس مجلس الأمة وأحد رموز النظام القديم، والبرلمان بغرفتيه، والمجلس الدستوري المعين والموالي، وكذلك قيادة الجيش وعلى رأسها رئيس الأركان أحمد قايد صالح الحاكم الفعلي اليوم للبلاد.
لقد خلق الشعب الجزائري تعبئة واسعة وجماهيرية حول مطلب التخلص من كل رموز الفترة الفارطة، فترة الاستبداد والفساد والدوس على إرادة الشعب، وقد طالت مطالب التغيير بما في ذلك أمين عام الاتحاد العام للعمال الجزائريين عبد المجيد سيدي السعيد الذي يُنظر إليه باعتباره جزء من النظام. كما يشمل الأمر قادة الأحزاب التقليدية التي ارتبطت بالنظام بهذا الشكل أو ذاك. لذلك اتسم الحراك الشعبي الجزائري بـ”ابتعاده عن الأحزاب” التي عجزت عن قيادته.
لقد استطاع الحراك الجزائري أن يحافظ إلى اليوم على عناصر قوته وهو الطابع الجماهيري، وعلى وضوح المطالب وتجذّرها، فضلا عن المشاركة النشيطة للقطاعات الحية والمناضلة والمعروفة بانتصارها للديمقراطية والتقدم مثل الحركة الطلابية والمحامين والجامعيين والحركة الحقوقية والنشطاء المدنيين. لكن في الوقت نفسه ما تزال نقطة ضعف حراك أشقّائنا تتمثل في غياب قيادة سياسية تنظّم وتؤطّر الحركة، فهذه ضمانات كلاسيكية لوحدة الحركة والحفاظ على قدراتها ومن ثمّة خلق شروط انتصارها.
صحيح أنّ النضال الشعبي الجزائري ظلّ إلى الآن محافظا على وحدته وشعاراته وحركته، لكن ذلك سيبقى هشّا وعامل محدودية يمكن أن يسهّل عملية الالتفاف التي تقودها الدولة العميقة بقيادة جناحيها، البيرقراطية العسكرية المهيمنة على البلاد منذ استقلالها مستغلة في ذلك سمعة الجيش سليل الحركة الوطنية التحريرية، وجناحها الاقتصادي/المالي ممثلا في المافيا المهيمنة على مقدرات البلاد وخاصة النفط والغاز الطبيعي، وبارونات الفساد والتهريب. فالجزائر بموقعها الجغرافي وحدودها البرية الطويلة وصحرائها الشاسعة تُعتبر نقطة عبور استراتيجية في شبكات التهريب العابرة للقارات. وقد خلق هذا الوضع خاصة منذ تسعينات القرن الماضي، طبقة طفيلية انتعشت وأَثْرت ثراء فاحشا من هذه الأنشطة الإجرامية.
وقد شكلت هذه الطبقة في السنوات الأخيرة سندا اقتصاديا/سياسيا للنظام القائم الذي تشكلت حوله دولة عميقة وأحيانا موازية تداخلت فيها أجهزة رسمية أو أجزاء منها مثل الجيش والمخابرات والأمن والقضاء، مع مافيا الاقتصاد الموازي لتشكل مجموعات ضغط ومراكز قوى زكّت بوتفليقة لمدة أربعة دورات ورشحته لخامسة وهو المقعد والعاجز. والجميع يدرك المغازي من ذلك، فهو مجرد صورة لا غير لسيطرة الجهات المتنفّذة المذكورة التي اعتمدت شعارات مغالطة ارتكزت خاصة على البعد الوطني الحساس بطبعه عند الشعب الجزائري، من قبيل أنّ البلاد مستهدفة من الإرهاب والتدخل الخارجي والإقليمي… بما يقتضي الالتفاف حول الدولة ورموزها ومنهم بوتفليقة.
المغالطة لن تنطلي على الشّعب المنتفض
لقد تفطّن الشعب إلى مواطن المغالطة في هذا الخطاب وأبهر العالم بحراك شعبي منظّم وفيه إصرار. ولئن تمّ إجهاض محاولة مواصلة الاستفراد بالسلطة، فإنّ الوضع اليوم بالجارة الغربية معقد ودقيق جدا. فالدولة العميقة بصدد محاولة الالتفاف سواء باتخاذ بعض الإجراءات تحت ضغط الشارع مثل إيقاف بعض رموز الفساد والاستبداد (سعيد بوتفليقة ورئيسي المخابرات السابقين..). لكن الشعب يعتبر هذا تصفية حسابات بين أجنحة المافيا لا غير، وفي هذا الصدد تم منذ أيام إيقاف رئيسة حزب العمال الجزائري لويزة حنون، رغم مواقفها ومواقف حزبها المنحازة للحراك الشعبي منذ انطلاقته بالاستقالة الجماعية لنواب حزبها البرلمان. إنّ هذا الإيقاف يهدف لخلط الأوراق واستهداف القوى التي قد تلعب دورا في التصدي للالتفاف، علما وأنّ من مطالب الحراك هو مسائلة ومحاسبة كل المتورطين في الفساد والاستبداد. لكن ذلك يجب أن يكون من قبل منظومة جديدة على أنقاض المنظومة الحالية المتورطة كلها وجميعها حدّ النخاع في الاستبداد والفساد واستغلال النفوذ والاعتداء على حقوق الشعب وكرامته.
إنّ الوضع معقد، ولكن الانتصار ليس صعبا على شعب الجزائر، الذي لم يتوان عن تقديم مليون ونصف شهيد حتى يحرّر أرضه وبلاده من الاستعمار. إنّ مثل هذا الشعب قادر على تصحيح أوضاع بلاده وإدخالها للديمقراطية وطيّ صفحة الدكتاتورية التي تغلّفت دائما بوطنية زائفة، وبمواصلة تكريس هيمنة مؤسسة الجيش على مفاصل القرار في البلاد. إنّ هذه المؤسسة وعلى قيمة وأهمية دورها ماضيا وحاضرا، فإنها لن تكون عنوانا للديمقراطية والحرية.
علي الجلولي