بدأ موعد الإعلان الرسمي لصفقة القرن يقترب. وكلّما اقتربنا من الموعد ازدادت ضراوة الهجوم الامبريالي الصهيوني الرجعي على الشعب الفلسطيني والأمة العربية. ولذلك دخلنا في المرحلة القاسية التي تضغط فيها الولايات المتحدة الأمريكية على كلّ القوى في المنطقة لضمان مرور هذه الصفقة. وفي هذا السياق يأتي العدوان الصهيوني على غزة في مستهل شهر رمضان 2019. ويأتي أيضا تعطيل الحل في سوريا وعودة “داعش” إلى النشاط في الشريط الحدودي بين سوريا والعراق تحت أنظار الأمريكان ويأتي دوليّا في ظل ضغط كبير على إيران وفنزويلا وغيرها من القوى الدولية الرافضة لهذه الصفقة.
كما تحاول أمريكا ترضية الأنظمة الرجعية العربية بالاستجابة إلى بعض طلباتها سواء داخليا بتخفيف الضغط حول الجرائم التي ترتكب في حق الإنسانية كالإعدامات في السعودية أو ما عرف بقضية الصحفي خاشقجي أو بالاستمرار في دعم الحرب على اليمن بغية ضمان قبول كلّ الأنظمة العربية الرجعية بالصفقة دون تلكّؤ.
تفاصيل “صفقة القرن”
فلسطينيّا قبل العدوان الصهيوني الأخير وبعده على غزة تُستعمل أشدّ الأسلحة فتكا في العصر الحديث وهو الحصار الاقتصادي الذي وصل مرحلة الاختناق العام، لإجبار الناس على القبول بصفقة القرن مقابل بعض الفتات الوارد في الصفقة حيث أوردت صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية في معرض حديثها عن فصول الصفقة بخصوص غزة ما يلي:
ستقوم مصر بمنح أراض جديدة لفلسطين لغرض إقامة مطار ومصانع وللتبادل التجاري والزراعة، دون السماح للفلسطينيّين بالسّكن فيها ويبقى حجم الأراضي وثمنها متّفقا عليه بين الأطراف بواسطة الدول المؤيّدة لاحقا، كما سيتمّ شقّ طريق أوتستراد بين غزة والضفة الغربية يسمح بإقامة ناقل للمياه المعالجة تحت أراض بين غزة وبين الضفة، كما تفتح حدود قطاع غزة للتجارة العالمية من خلال المعابر “الإسرائيلية” والمصرية وكذلك يفتح سوق غزة مع الضفة الغربية، عن طريق البحر إلى جانب إقامة جسر معلّق يرتفع عن سطح الأرض 30 مترا ويربط بين غزة والضفة وهو ما أوردته أيضا صحيفة “ميدل إيست آي” البريطانية، حيث قالت إنّ الصفقة تتضمن إقامة دولة فلسطينية تشمل حدودها قطاع غزة والمناطق (أ) و(ب) وأجزاء من (ج) في الضفة الغربية، وتنصّ الصفقة على أن توفّر الدول المانحة 10 مليارات دولار لإقامة الدولة وبنيتها التحتيّة بما في ذلك مطار وميناء بحري في غزة والإسكان والزراعة والمناطق الصناعية والمدن الجديدة.
“صفقة القرن” مراهنة جدّيّة على تفكيك المقاومة الوطنيّة
هذا في الجانب الاقتصادي، أمّا بخصوص المقاومة سيتمّ تفكيك الفصائل المسلّحة وتجريد الجميع من السّلاح حتى الفردي لأنه من أهم بنود صفقة القرن هو “منع الدويلة الفلسطينية المزعومة من إقامة جيش والسلاح الوحيد المسموح به هو سلاح الشرطة”. وسيتم توقيع اتفاق بين “إسرائيل” وفلسطين الجديدة على أن تتولى “إسرائيل” الدفاع عن فلسطين الجديدة من أيّ عدوان خارجي، بشرط أن تدفع فلسطين الجديدة لـ”إسرائيل” ثمن دفاع هذه الحماية ويتم التفاوض بين “إسرائيل” والدول العربية على قيمة ما سيدفعه العرب للجيش “الإسرائيلي” ثمنا للحماية.
وسيتقاضى قادة حماس رواتب شهرية من الدول العربية. وفي صورة الرفض فسيتمّ فرض الأمر بالقوة الغاشمة وبدعم أمريكي وعربي مباشر إلى جانب خنق القطاع بالكامل وتحميل المقاومة المسؤولية عن المجاعة وتعريض ملايين الناس للإبادة.
وتؤيّد صفقة القرن كلّ من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول الخليج التي تساعد في تنفيذ الاتّفاق ورعايته اقتصاديا، حيث تتوزّع المساهمات بين هذه الدول الداعمة كالتالي: الولايات المتحدة الأمريكية 20٪، الاتحاد الأوروبي 10٪، دول الخليج المنتجة للنفط 70٪، وتتوزّع النسب بين الدول العربية حسب إمكانياتها النفطية.
تصاعد العدوان خطوة أخرى باتّجاه تمرير صفقة القرن
ولذلك تشتدّ وتيرة العدوان على الشعب الفلسطيني في غزة وتتصاعد عمليات الاستيطان وتستمرّ الإدارة الأمريكية في فرض بنود صفقة القرن كالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ونقل سفارتها والاعتراف بالسيادة الصهيونية على الجولان إلى غير ذلك. وبالتّوازي مع ذلك تستمرّ أمريكا في الضغط بقسوة على كل القوى التي يمكن أن تقف حجر عثرة أمام تمرير الصفقة وتأتي سوريا في طليعة هذه القوى المستهدفة حيث تستمرّ الإدارة الأمريكية في تنفيذ استراتيجية إطالة أمد الصراع واستنزاف الدولة السورية من خلال استمرار الدعم للجماعات الإرهابية التي ترعاها تركيا بتنسيق مستتر مع أميركا، إلى جانب مواصلة دعم الجماعات الكردية شرقي الفرات لأهداف انفصالية باتت معلومة، ناهيك عن إعادة تنظيم عمل “داعش” في المنطقة والانتقال بها من استراتيجية الاحتلال والسيطرة المساحية إلى استراتيجية الخلايا والأعمال الإرهابية الموجعة دون أن تكون لها قواعد ثابتة، إلى جانب تنفيذ مرحلة الخنق الاقتصادي لسوريا وتعطيل إعادة الإعمار.
سلاح الخنق الاقتصادي وسياسة تحريك العملاء في الدّاخل
تواصل أمريكا الضغط في كلّ الاتّجاهات حيث تعمل على التّضييق على المقاومة اللبنانية من خلال الضغط المالي سواء على المقاومة أو التلويح بتفليس لبنان، إلى جانب إعادة الجدل حول شرعيّة سلاح المقاومة ووجوبيّة نزعه. وفي نفس السياق يستمرّ الدعم الأمريكي للحرب على اليمن بغرض إدامة الصراع وتفكيك هذا البلد نهائيا وإخراجه من المعادلة من جهة وللسعودية والإمارات، من جهة أخرى، مقابل الموافقة على صفقة القرن ودعمها. هذا التصعيد الأمريكي طال كذلك كلّ القوى الإقليمية الداعمة للحق الفلسطيني قصد تحييدها عبر إغراقها في مشاكلها الداخلية، ففي إيران بدأت مرحلة الخنق الاقتصادي الشامل والتهديد بالمواجهة العسكرية وفي فنزويلا يعزّز الحصار الاقتصادي المطبق والضغط الأمني والتهديد بالتدخّل المباشر أو من خلال الدول العميلة على غرار كولومبيا أو عبر المجموعات الفاشستية في الداخل، إلى جانب تحريض المؤسسة العسكرية على الانقلاب. وهو أمر سيتكرر مع كل من يرفض مشروع الهيمنة الأمريكية والإرهاب الصهيوني.
إنّ صفقة القرن ليست وليدة اليوم وإنما هي ذروة مشروع “الشرق الأوسط الجديد” كما طرحه شمعون بيريس منذ عقود عندما توجّه إلى الأنظمة الرجعية العربية قائلا:”بمالكم وثرواتكم مع فكرنا وقيادتنا ينهض الشرق الأوسط ونسيطر على العالم” وهو المشروع نفسه الذي يشتغل عليه اليوم ترامب ونتنياهو وكوشنير بتحالف صريح مع الرجعية العربية في الخليج.
إنّ صفقة القرن هذه تستهدف المنطقة برمّتها وهي بمثابة المؤتمر الرابع على غرار الثلاثة الأخرى التي عقدت قبل نحو 100 عام، ابتداء من “سايكس-بيكو” عام 1916، إلى “وعد بلفور عام ” 1917، إلى اتفاقية لوزان 1923. هكذا يجب أن نفهم صفقة القرن إذا أردنا مواجهتها. فالصّفقة تستهدف المنطقة بكاملها وليس فلسطين لوحدها وبصفتها تلك تبقى صفقة إقليمية وجب مواجهتها إقليميا عبر بناء تحالف إقليمي حقيقي يواجه التحالف الذي يقف وراء صفقة القرن والاستفادة من المتغيّرات الدولية الحاصلة بعودة الحرب الباردة فعليّا، والتاريخ يقول إنّ حركة التحرّر العربي حقّقت منجزات كبرى في ظلّ الصراعات الدولية الكبرى إذا عرفت كيف تستفيد منها من خلال قراءة واضحة لقوانين هذا الصراع وأهدافه وأحسنت التموقع في الزمان والمكان وعرفت كيف تنسّق جهودها برغم تنوّعها الفكري والسياسي واستفادت منه باعتباره نقطة قوة، في داخل الوطن العربي وفي خارجه.
محسن النابتي