الجبهة تشكلت في ظروف سياسية معينة وباهداف تكتيكية محددة واهداف استراتيجية عامة وبتغير الظروف والتكتيكات يجب على الجبهة ان تتغير وتتطور والا فانها ستتكلس وتندثر لتفسح المجال لاشكال جبهوية اكثر ملائمة للواقع، اما الظروف السياسية التي شهدت تكوين الجبهة فهي ظرف هزيمة اليسار والقوميين في انتخابات 2011 وصعود النهضة للحكم في تحالف الترويكا الذي غذى التكفير والعنف السياسي والارهاب ووصل حد الاغتيالات، واما المهمة التكتيكية المباشرة للجبهة حينها فهي الاطاحة بحكومة الترويكا ووضع حد لفترة المجلس التأسيسي الذي يجب ان يصادق على دستور فيه الحد الادنى من مطالب الثورة، واما الجانب الاستراتيجي فقد بقي معوما (تحقق اهداف الثورة في الحرية والكرامة والمساواة).
ولقد كانت تركيبة الجبهة ووحدتها خاضعة في الحقيقة للمهام المباشرة التي لا يختلف عليها اثنان في الجبهة حينها وهو التصدي لحركة النهضة أساسا في مشروعها الاقتصادي لكن خاصة المجتمعي، وبالفعل لم تشهد الجبهة خلافات تذكر طيلة حكم الترويكا، لكن ما ان تم اسقاط حكومة الترويكا والمصادقة على الدستور الجديد وانطلاق التحضيرات للانتخابات لاحت بوادر خلاف حول شكل خوض الانتخابات بين من يرى خوضها باسم الجبهة كمشروع وطني وبين من يرى خوضها إلى جانب نداء تونس باسم الحداثة لكن هذا النقاش/الخلاف اجهض مبكرا بتصريح النداء خوضه للانتخابات باسمه الحزبي، لكن هذا الخلاف سرعان ما عاد للظهور بمسميات جديدة كان اولها الموقف من الدور الثاني في الرئاسية، حيث دافع الموحد على دعم الباجي لكنه كان اقليا حيث كان الموقف الاغلبي هو عدم التصويت لا للمرزوقي ولا للباجي، وعوضا عن تطبيق الموقف الاغلبي ونظرا للابتزاز والضغط وسياسة الهروب إلى الامام (تصريحات الرحوي، لافتات جهوية لدعم الباجي…الخ)
ونظرا للرغبة العامة لدى كل اطراف الجبهة حينها في التشبث بوحدة الجبهة اتجهت الامور إلى الموقف الوسط المهزلة (موقف قطع الطريق)، بعد الانتخابات ايضا حاول المنجي الرحوي جر الجبهة للمشاركة في الحكومة وعقد جلسات في هذا الشأن مع الباجي ويوسف الشاهد، وفي كلمة يمكن القول أن جزءا أساسيا من الخلاف هو علاقة الجبهة بأحزاب اليمين، فعلى الرغم من الحسم في حركة النهضة يبدو ان الرفاق في الموحد لا يريدون حسم الامور نهائيا في علاقتهم ببقية مكونات اليمين الليبرالي (النداء، الشاهد …الخ) بل الابقاء عليها في حالة مد وجزر، خلاف واتفاق وفقا لمقتضيات مصالحهم الخاصة، وان كان هذا السلوك لم يبرز جليا للرأي العام فلأن النقاش داخل الجبهة لا يتم نقله للرأي العام ويتم التعبير عن الموقف الرسمي للجبهة والذي عادة ما يكون موقفا “وسطيا” بين مختلف المواقف او اقرب للموقف الاغلبي، هذا الصراع اليومي في الجبهة لم ير منه الرأي العام سوى بعض الانفلاتات (تصريحات المنجي الرحوي أساسا) لكنه كان صراعا متواصلا في كل تفصيلة وكل مبادرة وكل خطة. احد المحاور الاخرى للخلاف بعد انتخابات 2014هو علاقة الجبهة بالحركات الاحتجاجية والاجتماعية، حيث عشنا مع الرفاق في الوطد الموحد صراعا يوميا بهذا الشأن، فهم اميل دائما إلى وضع الحركات الاحتجاجية الاجتماعية في خانة “المدفوعة من اطراف مشبوهة” ثم مع صعود الحراك الاحتجاجي والاجتماعي في السنتين التي تلت الانتخابات ولم يعد احد قادر على تجريمها تحول الموقف إلى خانة “العفوية والتي يمكن ان تضر بالحركة اكثر من ان تنفعها” وهلمجرا من التعلات التي اضاعت على الجبهة فرصة الالتحام بالتحركات الاجتماعية وقيادتها في 2015 و2016 وجعلها في موقع “اللاحق بركب التحركات” في 2017 و2018 ..
ومع ذلك فعندما دفعنا بالنقاش إلى الامام في هذا المحور اصطدمنا بخلافات اكبر اهمها اليات التغيير وعلاقتنا بالمنظومة، ففي حين دافع تقريبا كل احزاب الجبهة على ان الثورة هي الطريق الجذري للتغيير وان المشاركة في الانتخابات هي مراكمة نضالية يمكنها ان توصل للحكم في بعض الظروف الاستثنائية الثورية فان موقف الرفاق في الموحد كان متذبذبا بل وذهب الامر بالبعض منهم حد السخرية من شعار مؤتمرنا “إلى الثورة” والذي اخترناه خصيصا للتمايز في هذا الشأن مع كل من اندمج مع ماكينة “التغيير الديمقراطي” ولم يعد يؤمن بالثورة. كما اشتد الخلاف حول مقولة اسقاط النظام واسقاط المنظومة، حيث يصر الرفاق في الموحد انها شعارات فوضوية… وللأسف كلما اشتد الخلاف وعوضا عن حسمه يعود هاجس الوحدة للسيطرة على الجميع ونعود للجمل العامة الوسطية التي تقبل التأويل والتي لا تبني مواقف حاسمة ونهائية وبالتالي تبقي الخلاف الداخلي متأججا .
وبالتالي أصبحت الجبهة مكبلة بين رؤيتين، رؤيا من داخل المنظومة (التعاطي السياسي مع الاحداث، لعب الدور الكلاسيكي للمعارضة، المشاركة في الانتخابات، لما لا المشاركة في الحكومات) وبين رؤيا تطمح للانغراس في صفوف الفئات المهمشة والكادحة وتنظيمها في افق الثورة على منظومة العمالة والاستغلال دون اغفال النشاط السياسي الكلاسيكي. هذا هو الخلاف الحقيقي في الجبهة وهذا ما عبر عنه مؤخرا امين عام الوطد الموحد بنفسه حينما قال “الخلاف ليس حول الرئاسية، الخلاف حول رؤية عقلانية للعمل السياسي ورؤيا ثورجية له” بالطبع يمكننا فهم الرؤيا “العقلانية” والتحالفات “العقلانية” التي يشير اليها الرفيق، ويمكننا ايضا فهم عدم اقتناع الرفاق في الموحد بالرؤيا الثورية واعتبارها “ثورجية”.
لكن في الحقيقة لا يجب انكار ان هذا الصراع السياسي صلب الجبهة هو حالة طبيعية بل وصحية وكان المفروض ان تنتهي هذه الحالة اما إلى اقتناع احد الرأيين او إلى مغادرة الاقلية للجبهة الشعبية بحكم انها لم تعد تتماشى مع خطها السياسي العام. لكن للأسف تم مؤخرا تغليف هذا الخلاف بخلافات وهمية لم تكن يوما محل خلاف (الديمقراطية الداخلية، اليات حسم الخلاف، اليات حسم مرشح الجبهة للرئاسية…)
طبعا هذا الغلاف الوهمي هو لتقديم صورة مغلوطة عن طبيعة الخلاف لطمس الخلاف الحقيقي ولمحاولة حشد الانصار حول محور الديمقراطية والتداول بطريقة مبتذلة، هو هروب من طرح الخلاف في العلن وفي الوضوح كما هو، وعدم القدرة على تحمل مسؤولية كل طرف لمواقفه ورؤاه السياسية الحقيقية وذلك هو جوهر الانتهازية. فالذين طرحوا فعلا هيكلة الجبهة وتطوير أدائها من أحزاب وخاصة من مستقلين لم يكن من بينهم الموحد بل بالعكس فلقد رفض هذه الدعوات وتصدى لها وعطلها.
انهي من حيث بدأت : “ان الجبهة الشعبية تعتبر من افضل التجارب الجبهوية اليسارية-القومية في تونس والوطن العربي لكنها ككل الجبهات تبقى خاضعة لقوانين العمل الجبهوي، فالجبهة تشكلت في ظروف سياسية معينة وباهداف تكتيكية محددة واهداف استراتيجية عامة وبتغير الظروف والتكتيكات يجب على الجبهة ان تتغير وتتطور والا فانها ستتكلس وتندثر لتفسح المجال لاشكال جبهوية اكثر ملائمة للواقع ” وفي الحقيقة فان الجبهة بامكانها ان تتطور وتجدد نفسها وذلك عبر حسم خطها السياسي وتطهير نفسها من الانتهازية السياسية والانفتاح على الطاقات التي تقاسمها نفس الخط والتوجه السياسي، كما يجب على الجبهة مباشرة بعد الانتخابات ان تنكب على اعادة هيكلة نفسها واعادة طرح المقترحات الجدية التي تقدمت لتطوير ادائها والتي لم ترى النور بسبب الخلافات الداخلية.
في النهاية سيشهد التاريخ انه ورغم ما نالنا من تهجمات وقدح وتشويه كنا دوما وطيلة سنوات حريصين على وحدة الجبهة والنقاش داخل اطرها وعدم الاساءة إلى صورتها، وسيشهد التاريخ ان ثلة من نواب الجبهة قد قاموا بحل كتلتها لحسابات سياسية ضيقة جدا فيها الشخصي وفيها الحزبي، نحن نعتقد ان الجبهة أكبر من مجرد كتلة ولو شاركت الجبهة في انتخابات 2014 ولم تتحصل على كتلة لما قلنا “انتهت الجبهة” لأننا نرى أن النواب هم ذراع من اذرع الجبهة وليس العكس، لكن كتلة الجبهة وبتقييم الجميع كانت مكسبا وطنيا ليس للجبهة فحسب وانما للشعب التونسي وقواه الوطنية، وحلها لحسابات ضيقة هو جريمة في حق الجبهة وحق الشعب ودليل على قمة عدم المسؤولية التي يمكن ان يصل اليها الجماعة للحصول على موقع او على تصفية حساب. خاصة ان التعلة في حل الكتلة هو عدم تشريكها في اتخاذ القرارات في حين ان المحتجين هم فقط من حزبين على تسعة اولا، ومنهم اربعة اعضاء مجلس مركزي ثانيا، ومنهم عضوي مجلس امناء ثالثا، وقد شاركو في كل النقاشات التي دارت حول التشريعية والرئاسية والهيكلة والندوة ..الخ