إنّ الحياة السياسية ببلادنا صارت متعفّنة. وهذه الحقيقة لا تصدم أحدا اليوم، فهي قناعة عامة لدى قطاعات واسعة من الشعب التونسي. وحتّى المتسبّبون في هذا التعفّن أو المساهمون فيه بشكل أو بآخر لم يعد لهم مفرّ من الاعتراف بتلك الحقيقة حتّى وإن سعى كلّ طرف منهم إلى إبعاد الشبهة عنه. وما من شكّ في أنّ سبب هذا التعفّن يعود إلى كون المافيات ولوبيات الفساد والعمالة التي حافظت على مصالحها الجوهريّة بعد سقوط الدكتاتوريّة، تمكّنت من التّأقلم مع أوضاع الحرية الجديدة واستغلّت وقوف الثورة في منتصف الطّريق وضعف الحركة الشعبيّة، وعيًا وتأطيرًا، وكذلك ضعف القوى الثوريّة والديمقراطيّة، لكي تسيطر على الفضاء العام وعلى مؤسّسات الدّولة وأجهزتها.
لقد تمكّنت مختلف المافيات وااللّوبيات المالية والتجارية في القطاعين المنظّم والموازي والمرتبطة بمصالح الاحتكارات والدّول الأجنبية من تطويع الأحزاب الحاكمة لمصالحها وتحويل كتلها البرلمانيّة، ومن ثمّة وزراؤها في الحكومة، إلى قنوات للدّفاع عن تلك المصالح. كما أنّها تسرّبت إلى أجهزة الدّولة من قضاء وأمن وديوانة وإدارة وأصبحت لها مراكز نفوذها داخلها. ومن جهة أخرى فقد وضعت يديها على معظم وسائل الإعلام وأخضعتها.
ويمثّل المال السّلاح الأساسي الذي تعتمده تلك المافيات واللّوبيات في إفساد المؤسّسات التمثيليّة وأجهزة الدّولة والإعلام ومنظّمات المجتمع المدني، وقد صارت الأمور تتمّ بوقاحة. والأخطر من ذلك أنّ المال الخارجي أصبح له دوره هو أيضا في تعفين الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، فهو يتدخّل عبر قوى سياسيّة وعبر شبكة من الجمعيّات والمنظّمات الخيريّة المزعومة التي لا هدف لها سوى تعميق عقليّة الزبونيّة لصالح هذا الطّرف أو ذاك. وقد كنّا تعرّضنا إلى هذه المسألة بالذّات في افتتاحيّة العدد الماضي، وبيّنّا كيف نزلت تلك المنظمات والجمعيّات المرتبطة بأحزاب سياسيّة أو بأشخاص يبحثون عن موطأ قدم في السّلطة، بكلّ ثقلها في شهر رمضان لشراء ضمائر النّاس استعدادا للانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة.
لقد عفّنت كلّ هذه الممارسات الحياة السياسيّة ببلادنا، وأصبحت أحزاب الحكم خاصّة وممثّلوها في البرلمان وفي مختلف مؤسسات الدولة عنوانا للفساد. وهو ما يثير سخطا متزايدا في مختلف الأوساط الشعبيّة ويدفع بفئات واسعة منها إلى الاستقالة من الشّأن العام والشّعور بالإحباط، خاصّة وأنّ هذا التعفّن السياسي مرتبط بأزمة اقتصاديّة واجتماعيّة عميقة تعصف بمصالح أوسع طبقات المجتمع وفئاته وتدفع بها نحو القاع، نتيجة تفاقم البطالة وتدهور المقدرة الشرائيّة وتردّي الخدمات العامّة وانتشار مظاهر البؤس والفقر على نطاق واسع. وقد عملت بعض وسائل الإعلام والمواقع الاجتماعيّة المنخرطة في تعفين الحياة السياسيّة على تعميق حالة الإحباط والاستقالة من الشّأن العام و”النّقمة” على “السياسة والسّياسيّين”.
في مثل هذا المناخ وجدت الشعبويّة لنفسها أرضا خصبة للانتعاش، فعادت بعض المجموعات المرتبطة بالنظام القديم إلى الظّهور والإكثار من الحركة بمناسبة الانتخابات القادمة، مقدِّمة نفسها “منقذا”، وهي تمجّد بن علي وحكمه الدكتاتوري وتعتبر الثورة التونسيّة “خرابًا ودمارًا” مُستغِلّة في ذلك فشل أحزاب الحكم برمّتها. وهي ما انفكّت تلقى صدى لدى بعض الفئات سواء المهمّشة أو الوسطى المُهدَّدة بالتفقير والتّهميش والتي بدأت تتكتّل حولها مع اقتراب موعد الانتخابات.
والأمر نفسه نلاحظه مع ظهور بعض الشخصيّات التي تعمل بالطّريقة نفسها لنشر الوهم في صفوف بعض الفئات، مستعملة “العمل الخيري” مطيّة للمتاجرة بفقر النّاس وبؤسهم وللإيهام بأنّ الحلّ السحري بيدها، وهو بالطّبع كذب في كذبٍ، لأنّ الطبقات والفئات المتضرّرة من الأزمة، وبالتّالي من الائتلاف الحاكم، لن تحُلّ مشاكلها الصّدقات، فهي في حاجة إلى محاربة الفقر لا المتاجرة به، وبالتالي إلى اختيارات جديدة اقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة تقطع مع السّائد اليوم، أي مع التبعيّة ومع الفئات الكمبرادوريّة الطفيليّة التي تكرّس هذه التبعيّة.
وما من شكّ في أنّ هذه التيارات الشعبويّة التي تبدو في الظّاهر مع الشّعب، وهي في الجوهر ضدّه وتُعِدّ له نار جهنّم من استبداد وقهر واستغلال، ليست ظاهرة تونسيّة وحسب، بل هي اليوم ظاهرة عالميّة، ولا أدلّ على ذلك من انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، وقبلها انتخابات أوكرانيا وغيرها.
كما أنّ بروز هذه الظاهرة، سواء في البلدان الأخرى أو حتّى في بلدنا، لا يمثّل “عقابا” لأحزاب الحكم المتعفّنة والفاسدة والغارقة في صراعات مصلحيّة ضيّقة، والعاجزة عن إيجاد حلول جدّية لمشاكل أوسع الطّبقات والفئات الكادحة والشعبيّة والوسطى فحسب، ولكنّه عقاب أيضا للقوى الثوريّة والتقدميّة التي لم تقدر على استثمار الأزمة لتفرض نفسه بديلا وتخلّص الشّعب الكادح من فساد الأنظمة الحاكمة واستغلالها.
في بلادنا تحديدا تتحمّل القوى الثوريّة والتقدميّة جزءًا من المسؤوليّة فيما آلت إليه الأوضاع وخصوصا في تفشّي روح الاستقالة والإحباط من جهة، وبروز التيّارات الشعبويّة من بقايا نظام بن علي وغيرها من جهة ثانية. فلو أنّ هذه القوى قامت بالجهد اللاّزم السياسي والعملي والتنظيمي لَتمكّنت من ملأ السّاحة ومن التقدّم في طريق كسب قيادة عملية التغيير الاجتماعي والسياسي في بلادنا واستكمال مهام الثّورة.
وإذا لم يقع تجاوز هذا الضّعف في أسرع وقت والحسم مع مظاهر التردّد في المجالين السياسي والعملي، فإنّ القوى الرّجعيّة، سواء كانت في الحكم أو خارجه ستجد الوقت والإمكانات لتجهض المسار الثّوري نهائيّا. وفي هذا السّياق فإنّ الانتخابات الرّئاسيّة والتشريعيّة ستكون مِحرارًا لقياس تأثير القوى الثّوريّة والتقدميّة، ولكنّها لن تكون لا المعركة الأخيرة ولا المعركة الحاسمة.