جيلاني الهمامي
قطعت الثورة المضادة في عهد حكومة الشاهد اشواطا كبيرة باتجاه الالتفاف على المكتسبات الجزئية التي أحرزها الشعب التونسي في الثورة وهي باتفاق الجميع مكتسبات في مجال الحريات وبصورة أعم النظام السياسي الجديد. ففي عهدها تكثفت الدعاية المنادية بمراجعة النظام السياسي بغاية العودة للنظام الرئاسي الذي يحمل في طياته تسهيلات كبرى للانزلاق نحو الحكم الفردي والديكتاتورية. وحاولت هذه الدعاية تبرير الأزمة الحادة التي يعيشها الاقتصاد والمجتمع بتشتت مراكز القرار في السلطة التنفيذية بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة واعتبرت ذلك سببا في تراجع ” هيبة الدولة ” وفي عجزها عن ضبط الانفلاتات أي عدم قدرتها على قمع الاحتجاجات الشعبية المستمرة طوال سنوات ما بعد الثورة. وبما ان هذه الدعاية لم تفلح في ترويض الرأي العام فقد لجأ القائمون عليها إلى تكتيك تقويض النظام السياسي تدريجيا عبر تهميش بعض هيئات الرقابة التي أحدثها الدستور ( هيئة مقاومة الفساد ومقاومة التعذيب الخ … ) والتلكؤ في إحداث البعض الآخر منها مثل هيئة الاعلام السمعي البصري والمحكمة الدستورية وغيرها من جهة كما لجأت من جهة أخرى إلى محاولة تنقيح القانون الانتخابي وإدخال عقبة العتبة في وجه التشكيلات السياسية الصغيرة بغاية منح الفرصة لحزبي البرجوازية الرجعيين، النداء والنهضة، للاستفراد بمؤسسة البرلمان ومن ثمة الحكومة وباقي مؤسسات الحكم والدولة.
من جانب آخر استمرت حكومة الشاهد في السعي المحموم عبر وسائل الاعلام التي وضعت عليها اليد إلى ترذيل الحياة السياسية سواء عبر تنفير جماهير الشباب وفئات كثيرة أخرى من الاهتمام بالشأن العام وتحقير الأحزاب السياسية وتحميلها مسؤولية التردي العام الذي سقطت فيه الحياة العامة أو عبر خلق الفرقة داخل الأحزاب وتشجيع السياحة الحزبية والبرلمانية وشراء الذمم وصنع الاتباع المرتزقة بما يعطي فعلا صورة سيئة عن السياسة والسياسيين.
وفي نفس السياق كثفت الحكومة هجومها على الحريات العامة والفردية وطال هذا الهجوم خاصة الشباب المحتج في الجهات وفي بعض القطاعات (المفروزين أمنيا) وعلى الاعتصامات والاحتجاجات. وفي هذا الاطار عادت الأساليب القديمة في الاعتداء على المناضلين والتسريع بمحاكمتهم. وبطبيعة الحال تمثل هذه المحاكمات أسلوبا من أساليب ” الردع ” والترهيب. وقد لاحظنا إلى جانب ذلك تواتر المحاكمات على خلفية تدوينات في المواقع الاجتماعية ولعل حالة الشاب جريح الرش في سليانة أيمن البهلي مثال ساطع على ذلك. وإذا كانت هذه المحاكمات تدل على شيء فهي تدل أولا على أن الرقابة تطال الجميع وأن الحكومة تسمح لنفسها باختراق حسابات المواطنين وثانيا على أنها لا تتورع عن محاكتهم لمنعهم من التعبير ونقد الحكومة.
وإلى جانب ذلك أكدت الحكومة الحالية تواطؤها مع الاعتداءات على الحريات من قبل العناصر المتطرفة ومجرمي الحق العام بما زاد في حالة الانفلات الأمني ويعمق الشعور بانعدام الاطمئنان لدى عموم المواطنين.
كل هذه الحقائق تقيم الدليل على الهجوم الممنهج من قبل الحكومة لمحاصرة فضاء الحرية الذي اكتسبه الشعب بتضحيات جسيمة وعلى رغبتها في العودة بالبلاد إلى مربع الاستبداد والحكم المطلق باتجاه محو آثار الثورة. لذلك أصبحت المعركة من أجل حماية المكسب الديمقراطي رغم انها معركة ذات طابع دفاعي أولوية من أولويات النضال السياسي. ومعلوم أن غياب الحرية هو الإطار الأمثل لتكثيف الاستغلال الاقتصادي والمادي وبيع البلاد للقوى الأجنبية وأن القوى الرجعية وحدها تستفيد من هذا المناخ إذ تستطيع فرض سياساتها وبرامجها المعادية للشعب دون مقاومة وتخضع كل الأطر والأدوات لمشيئتها كالاعلام والقضاء والمدرسة فضلا عن مؤسسات القهر المادي كالبوليس والجيش.
إن النضال من أجل وقف زحف حكومة الالتفاف وكامل المنظومة الرجعية على مكتسبات الثورة ليس مجرد عمل مثقفاتي بل هو من صميم المعركة ضد الثورة المضادة. وفي هذا مطلوب من الأحزاب السياسية والمنظمات المهنية والجمعيات وفعاليات الشباب والنساء والحركة الثقافية أن توحد جهودها وأن تعمل من أجل تكثيف العمل وتنظيم الحملات في علاقة بكل الملفات ذات الصلة بالحريات العامة والفردية. وحبذا لو تمكنت هذه القوى من تشكيل ائتلاف حرياتي واسع وشامل يجمع كل الفعاليات وينشط في جميع مكونات ملف الحرية والديمقراطية بدء من الدفاع على النظام السياسي الحالي باعتباره الأمثل لبلادنا في المرحلة الانتقالية التي تعيشها وصولا إلى تنظيم المقاومة الشعبية ضد الجريمة الفردية والمنظمة.