علي الجلولي
تُعتبر فنزويلا ذات الاحتياطي النفطي الأوفر في العالم المحدّد الأساسيّ في ضبط الأسعار العالمية، عبر التحكّم في العرض والطلب وأصبحت سياساتها داخل منظمة “أوبك” تزعج الامبريالية الغربية برمّتها والأمريكية على وجه الخصوص باعتبار الدور التحريضي الذي تلعبه صلب الأقطار المصدّرة للنفط باتّجاه اتّباع “سياسة مستقلّة” تؤمّن سيادة تلك البلدان على ثرواتها وتحفظ مصالح شعوبها وهو ما يفسّر سياسة التحرّش التي تمارسها الولايات الأمريكية ضدّ دولة فنزويلا والخنق الاقتصادي الهادف الى تدمير المنظومة الاقتصادية ككلّ، شأنها في ذلك شأن كوبا وايران وغيرهم… وتبيّن الأحداث الأخيرة التي شهدتها فنزويلا أن نظام مادورو نجح الى حدّ كبير في إدارة الصّراع ضدّ السياسة التدخّلية الأمريكية وضدّ عملائها بالداخل من عسكريين ومدنيين يسعون الى السّطو على السلطة.
في خطوة تحمل الكثير من الرموز والمعاني، قام مواطنون فنزويليون منذ شهر باقتحام سفارة بلادهم بواشنطن – هذه السفارة التي أعلن مسؤولها الأوّل الانشقاق عن بلاده وموالاة الأمريكان-، وعلّقوا على شرفاتها لافتات كبرى كتب عليها:”لا للحرب من أجل النفط”، “أوقفوا الانقلاب”، “قوايدو ليس موضع ترحيب”. يأتي هذا في ظلّ تصاعد التوتر بين الطرفين، وخاصة في ظلّ بروز مؤشرات انتصار الإرادة الفنزويلية وارتباك العنجهيّة الأمريكية. ففي آخر تصريحات لرئيس المخابرات الروسية أكّد هذا الأخير أنّ ترامب يحضّر لعمل عسكري ضد فنزويلا انطلاقا من الأراضي الكولومبية. لكنّ جاهزية فنزويلا حكومة وجيشا وشعبا هي أكثر من أيّ وقت مضى، وهو ما ثبت بالدليل القاطع من خلال القدرة على التصدّي لمحاولة التمرّد العسكري التي قادها بعض العسكريين الصغار عشية 1ماي الذي دعا العميل “قوايدو” إلى تحويله إلى “يوم غضب شعبي غير مسبوق” لكن الصّفعة جاءته مدويّة وقويّة وذلك بفشل التمرّد العسكري وفشل دعوته للتظاهر يوم 1ماي حيث خرج الملايين من الجماهير لرفض أيّ اعتداء على بلادهم. هذا ويتّجه الرأي لدى العديد من متابعي الشأن السياسي في العالم وفي أمريكا الجنوبية أنّ فنزويلا قدرت على امتصاص الصّدمة وتمييع النّوايا التدخّليّة لإدارة ترامب التي تقف اليوم عاجزة عن تسويق نواياها، بما يعطي دولة فنزويلا نفسا جديدا لحسن إدارة الصراع، ولعل في استعرض الأحداث التي صدّرنا بها -هذا المقال- ما يؤكّد هذه القراءة.
لكنّ الأمر الذي يجب أن نتبيّنه جيّدا هو: لماذا تتحرّش الولايات المتحدة بفنزويلا؟ هل الأسباب إيديولوجية، كما يريد ترامب التّسويق له من أنّه لا يقبل قلاعا حمراء واشتراكيّة في قارّته؟
النّفط هو جوهر الصّراع في المنطقة والعالم
تُعتبر فنزويلا دولة نفطية بامتياز، إذ يشكّل النفط قرابة 95°/° من عائدات صادراتها، لهذا فإنّ اقتصاد البلاد يعيش حالتي الصّعود والهبوط بحسب أسعار النفط في السوق العالمية. وقد تصاعد تأثير تراجع الأسعار من 2015، حيث تراجعت من 115دولارا (2014) إلى 27دولارا (2015)، قبل أن يعود ليستقرّ عموما في حدود 50/70دولارا. وللتّدليل على عمق الانعكاسات السّلبيّة على فنزويلا، فقد كانت قيمة الصادرات النفطية سنة 2014 حوالي 71.7مليار دولار لتتدحرج إلى 27.8 مليار دولار سنة2015.
لقد تساوقت هذه المعطيات مع تصاعد الصراع العالمي حول الطاقة والنفط تحديدا، الصراع بين كبريات الدول لوضع اليد على الطاقة ومصادرها. وفي هذا الإطار تُعتبر فنزويلا ذات الاحتياطي الأوفر في العالم، وهي محدّد أساسيّ في ضبط الأسعار العالمية، من جهة التحكّم في العرض والطّلب العالمي. وقد انزعجت الامبرياليّة الغربيّة وخصوصا الأمريكية من سياسة فنزويلا في منظمة “أوبك” حين أقنعت عديد الأقطار المصدّرة للنفط بضرورة اتّخاذ “سياسة مستقلّة” تحفظ مصالح هذه الدول، وليس مصالح دول أخرى تريد التحكّم في السوق العالمية.
لقد قام الرئيس شافيز ثم الرئيس مادورو بجهد في هذا الاتّجاه، وقد اعتبرت الولايات المتحدة ذلك تحدّيا سافرا لها ولنيّتها فرض سيادتها الكليّة على هذه السّوق ومن ثمّة على العملة المسيطرة، أي الدولار الذي يعترضه تحدّي كبير يتمثّل في فنزويلا صاحبة الصّوت المؤثّر في “أوبك” بحكم حجم ثروته وخاصة حجم احتياطيها، وأيضا إيران والجزائر، ومجمل هذه الدول هي ذات علاقة متينة مع القوى الصّاعدة أي روسيا والصين، غريمي الولايات المتّحدة وكبيري منافسيها. إذا إنّ جوهر الصراع الدائر اليوم هو صراع من أجل الهيمنة التي لن تتحقّق إلاّ بالهيمنة على مصادر الثّروة، لذلك اتّخذت الولايات المتحدة وشركاتها الاحتكاريّة، المتحالفة مع عديد الاحتكارات الغربية مجموعة من الإجراءات الاقتصادية والماليّة لحصار فنزويلا وحكومتها التي أمّمت النفط منذ وصول شافيز إلى الحكم.
إنّ هدف الولايات المتّحدة واضح، وهو فرض تنازلات على دولة فنزويلا حتى تتمكّن من وضع يدها على الذهب الأسود لسنوات أو لعقود قادمة. وفي هذا الصدد تلعب إدارة ترامب أحقر لعبة وهي الحصار لتجويع الشعب حتى يثور ويتمرّد على نظامه. وكنتيجة مباشرة للحصار الجائر وصلت نسبة التضخّم المليون بالمائة، وأصبحت عديد السّلع مفقودة. ولولا المكاسب الاجتماعية الكبرى التي تحقّقت سابقا والتي تهمّ خاصة السكن والتعليم والصحة والنقل…، ربّما لكانت المجاعة اليوم في فنزويلا. لهذا فقد أعطى الحصار نتائج معاكسة، فالتفاف الشعب وخاصة سواده الأعظم من الطّبقات الشعبيّة حول الارادة المستقلّة للحكومة، هو اليوم الصّخرة التي تتحطّم عليها المؤامرات الخارجية. ووعي أجزاء مهمّة من الفنزويليين بحقيقة الصراع هو وعي سياسي متقدّم ووطني، وهو ما يزعج الامبرياليّين.
للهجوم الامبريالي أوجه أخرى
تعرف الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في فنزويلا منذ أكثر من ثلاث سنوات تدهورا كبيرا، ومن المنطقي أن يكون لذلك انعكاس سياسي خاصة مع تصاعد الحصار الأمريكي على اقتصاد فنزويلا خصوصا منذ وصول الفاشي ترامب إلى الإدارة الأمريكية. فهذا الأخير أراد استغلال وضعيّة أسعار النفط كورقة ضغط ضدّ نظام فنزويلا، لذلك حرّكت أذنابها من الخدم وممثّلي الطبقات الطفيليّة واللاّوطنية للقيام بدور الاختراق وهو الدور الذي يلعبه من داخل فنزويلا قوايدو- الرئيس السّابق للبرلمان الذي أعلن نفسه رئيسا مقابل الرئيس المنتخب نيكولاس مادورو الذي شهد كل العالم بشفافيّة وديمقراطية انتخابه- وذلك في تحدّ صارخ للقوانين والأعراف بما عزّز القناعة أنّه مجرّد دمية في يد البيت الأبيض لا غير، وهو الذي يجاهر بتواصله مع إدارة ترامب وصقورها. كما أنّه لا يرى حرجا في دعوة جيش فنزويلا للانقلاب على الحكم الشّرعي. ويجد قوايدو الإسناد من أنظمة التبعيّة وخاصة نظامي كولومبيا والبرازيل اللذين تحوّلا إلى منصة إطلاق ضد شعب فنزويلا وحكومته رغم الرفض الكبير لشعبي كولومبيا والبرازيل لهذه السياسة التدخّلية التي لن تجلب للمنطقة إلاّ التوتّر والحروب بالوكالة لصالح مغامري الشّمال وعلى رأسهم ترامب الذي تعمل إدارته على العودة إلى منطق اعتبار أمريكا الجنوبية “حديقة خلفيّة للبيت الأبيض”، وهو ما يفترض القضاء على بؤر العداء للسّياسة التدخليّة الأمريكية، هذه البؤر التي ازدادت توسّعا في السّنوات الأخيرة بوصول حركات “يسارية” إلى الحكم في البرازيل وبوليفيا والشيلي والإكوادور ونيكاراغوا وأخيرا المكسيك، وذلك إضافةإلى الدول القديمة كوبا وفنزويلا.
إنّ هذا الوضع أصبح مزعجا لساكن البيت الأبيض ومهدّدا لمصالح الاحتكارات الرأسمالية في أمريكا الشماليّة وأذنابها في جنوب القارّة، لذلك كان لابدّ من التدخّل لإيقاف هذا النّزيف، وقد عبّر ترامب علنا أنّ حربه ضدّ فنزويلا ستتواصل لتشمل نيكاراغوا وكوبا “للقضاء على الاشتراكية نهائيا في القارة وفي العالم”.
شعب فنزويلا يقاوم
يتّفق جزء مهمّ من متتبّعي الشؤون الدولية، وملفّ الحرب الطّاقية أنّ من بين الورقات التي خسرتها الإدارة الأمريكية في حربها الضروس ضدّ فنزويلا هي ورقة الشعب الفنزويلي. لقد كانت ساذجة جدا حين بنت استراتيجياتها على فرضية تمرّد الشعب وثورته واصطفافه وراء “قوايدو”. إنّ هذا الأخير عند لفيف مهمّ من الشعب هو مجرّد “قوّاد”، بل دمية تُحرَّك من أروقة البيت الأبيض. وشعب فنزويلا بإرثه الثوري العظيم – وهو الذي يعتبر نفسه امتدادا للثورة البوليفارية ولمجمل الحركات التحرّرية في أمريكا الجنوبية- غير قابل بأيّ تنازل لصالح الشركات الاحتكارية لتضع يدها على مقدرات الشعب، هذا الشعب الذي لم ينسى ما كان يجري في بلده منذ بضعة سنوات فقط. فقد كانت شركات النفط الأمريكيّة والأجنبيّة هي التي تتحكّم في مفاصل القرار في البلاد، وكان برميل سعر النفط سنة 1999(حين وصل شافيز للحكم) لا يتجاوز 5دولار وكان يباع في الأسواق العالمية بأضعاف أضعاف ذلك ليوضع في جيوب الأثرياء الأجانب وأتباعهم المحليّين، ولأجل إدامة هذا الوضع كانت شركات النّفط الخارجية هي الحاكم الفعلي للبلاد، وحين وضع الشعب يده على مقدّراته وثرواته التي بادرت بتأميم النفط، بدأت أوضاع الشعب تتغيّر.
انّ شعب فنزويلا غير قابل للعودة إلى ذلك الماضي البغيض، لذلك فهو يتحدّى ويقاوم وكما انتصر بالأمس، سيعيد اليوم الانتصار، وهو اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى مسنود من قبل كلّ القوى الوطنيّة والتقدميّة في العالم، ونضاله يحوز إعجاب شعوب العالم المفقّر والمسيطر عليه من قبل الامبريالية. ففي نهاية فيفري الجاري، عقد قرابة 500 مندوب من أكثر من 87 بلدا “قمّة عالميّة للشعوب” في قلب كاركاس، عاصمة فنزويلا، لتحدّي الحصار والانخراط مع شعب فنزويلا في معركته العادلة من أجل سيادته واستقلاله وحرّيته.