كلّ شيء في تونس يشعل”، حياتنا الكلّ ولاّت جحيم مسعور”… هكذا علّق أحد المواطنين في الأيّام الأخيرة في إشارة إلى سلسلة الحرائق التي تلتهم حقول الحبوب في شمال البلاد في عام “صابة” قياسيّة حسب التقديرات الرّسمية، إذ من المتوقّع أن يصل محصول هذه “الصّابة” إلى 23 مليون قنطار، وهو ما يسدّ تقريبا 4/3 حاجات البلاد، وبالتالي يؤمّن الغذاء للتونسيات والتونسيّين. وقد أكّد متحدّث باسم الحماية المدنيّة أنّ 95 % من هذه الحرائق قد تكون “بفعل فاعل”، أي أنّها ناجمة عن أعمال إجراميّة.
وفي هذا السّياق توجّهت أصابع الاتّهام، من أكثر من طرف، إلى المستفيدين من هذه الجريمة النّكراء التي تستهدف قوت شّعب، وهم “اللّوبيات” التي تعمل في الخفاء، والتي ليست لها مصلحة في الصّابة، بل لها مصلحة في الحدب والجفاف، لكي تتمكّن من استيراد الحبوب من الأسواق الخارجيّة ومراكمة الأرباح من هذه السّمسرة.
ونحن لا نستبعد أن تكون هذه اللّوبيات وراء هذه الجريمة، والخشية كلّ الخشية أن تضيع الحقيقة كما ضاعت في مناسبات عديدة أخرى، منها حرائق الغابات منذ سنوات، ووقتها تمّ الحديث عن “اللّوبيات” التي تبحث عن استغلال الغابات المحروقة لإنتاج الفحم، كما تمّ الحديث عن اللوبيات التي تبحث عن تحويل بعض المناطق الغابية القريبة من البحر إلى مناطق صالحة للبناء لإقامة الفنادق والقرى السياحيّة. ولكن لم يتمّ لاحقا الوصول إلى نتائج مقنعة للرّأي العام.
ونحن لا نرى غرابة في ذلك، فتونس اليوم هي تحت حكم المافيات ولوبيات الفساد والسّماسرة المرتهنين للخارج الذين يسيطرون على مفاصل الدّولة والمجتمع. وما حريق المحاصيل اليوم إلاّ وجه من وجوه “الحرائق” العامّة التي تعرفها بلادنا، فثمّة “حريق” الصحّة و”حريق” التعليم و”حريق” الصناديق الاجتماعيّة، و”حريق” البيئة و”حريق” الطّاقة والفسفاط وغيرها من ثروات البلاد ومنتوجاتها، و”حريق” البطالة والهجرة السريّة و”حريق” الإرهاب… ووراء كلّ “حريق” من هذه “الحرائق” تتمترس لوبيات ومافيات وسماسرة يذبحون الوطن والشّعب، وهم كلّهم تحت رعاية الائتلاف الحاكم الذي “يذبح” الوطن والشّعب، فيحمي أولئك المجرمين ويشرّع لهم، عبر البرلمان الذي تسيطر عليه جماعاتهم (للتّذكير قانون الرّخام…)، ويوفّر أرضيّة تخريب البلاد والمجتمع.
إنّ الشعب لا ينبغي أن يكلّ من المطالبة بكشف الحقيقة ومعاقبة المجرمين الذين يقتاتون من دمهم ومن عرقهم، وهو ما يدفع اليوم إلى القيام ما ينبغي القيام به من أعمال سواء داخل المؤسّسات التمثيليّة أو عبر وسائل الإعلام أو في الشّارع لإرغام السّلطات على كشف الحقيقة. ولكن الحل يبقى أوّلا وأخيرا في تغيير منظومة الحكم والقضاء على مراكز النّهب والفساد والعمالة، لأنّه يمكن القضاء على حريق اليوم، ولكنّ ذلك لن يمنعْ، إذا بقيت المنظومة هي نفسها، من اشتعال حرائق أخرى غدا.
إنّ ثورتنا وقفت في منتصف الطّريق، لذلك تعفّنت حياتنا السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والأخلاقيّة، وهو ما فتح الباب، أشهرا قبل الانتخابات، إلى بروز التيّارات الشعبويّة التي تستغلّ الوضع، كما استغلَّ غيرها من قبلُ الإرهاب، والتي لن تأتي بجديد إذا كتب لها النّجاح، بأفضل ممّا أتى به الائتلاف الحاكن الحالي، بل ربّما بأخطر منه.
إنّ الرسالة موجّهة إلينا نحن القوى الثوريّة والتقدميّة. فمسؤوليّتنا في ما آلت إليه الأمور واضحة، إذ أنّنا لم نقدر على فرض أنفسنا بديلا، ولكن ذلك لا يمثّل مدعاة لليأس والإحباط، بل إنّنا قادرون على التّدارك إذا ما تحرّرنا من التردّد، ووضعنا البرنامج الملائم وعبّأْنا القوّة القادرة على الدّفاع عنه. فعسى أن تصل الرّسالة إلى من ينبغي أن تصل إليه، وعسى أن يحصل الدّرس ممّا أضعناه من وقت في المماحكات والصّراعات التي لم تؤدِّ إلى أيّ نتيجة، بل عطّلت قوانا وأضعفتها.