منذ أن تمّ حسم موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية ومع حلول آجال غلق باب التسجيل بدأت حملات تشويه العمليّة الانتخابيّة عبر التوظيف الاعلامي والأنشطة الخيرية الهادفة الى التأثير في ارادة الناخبين بحكم غياب الارادة في تحييد المرفق العام ومنع عديد المنظمات والجمعيات من تحويل أنشطتها الاجتماعية إلى واجهة سياسية لأحزاب ضالعة في الارتهان للخارج وفي محاصرة التمويلات المشبوهة القادمة من الداخل والخارج تحت عناوين مختلفة.
لم يعد خافيا على التونسيات والتونسيين اقتران هذه المحطة الانتخابية المفصليّة بتنامي حجم الفساد المالي والاعلامي والتداخل بين المرفق العام ونشاط أحزاب الحكم وروافدهم من منظمات وجمعيات وقوى خارجية، اقليميّة ودوليّة، ضالعة في دعم هذا وذاك وأن هدفهم من هذه البيئة المشوّهة هو استمرار منظومة الفشل والاستئثار بالحكم والقضاء على حلم التونسيين في تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
ولأن هذا الموضوع على درجة عالية من الخطورة فإن القوى السياسية التقدمية والديمقراطية والمنظمات الوطنية والحقوقية والهيئات الدستورية والإعلاميين النزهاء والنشطاء بالإعلام البديل ولاسيما بمواقع التواصل الاجتماعي من واجبهم تصعيد الضّغط وتعريّة كل هذه الاخلالات وعدم الخضوع لهذا الأمر الواقع، وقد بيّنت التجربة أن الالتزام بهذا النّهج ساهم في إطلاع الرّأي العام على الدّور المشبوه لبعض القنوات الاعلاميّة والجمعيات وكشف مصادر تمويلهم والهدف من نشاطهم، خاصة والعديد منها لا يزال مرتبطا بالإسلام السياسي ويمعن في ممارسة التوظيف الديني وإغراق البلاد بموائد الافطار وتقديم المساعدات المذلّة لكرامة التونسي وهي ممارسات تحصل بعلم وفي غالب الأحيان بدعم من أجهزة الحكم بما يوحي أن اليمين بشقيه الليبرالي والديني لا همّ له سوى البقاء في الحكم رغم فشله الذّريع في إدارة كل المراحل الانتقالية منذ سنة 2011. ان أحزاب الحكم المنحدرة من هذا اليمين لا تكتفي بفشلها في تحسين الحياة الاجتماعية للتونسيات والتونسيين بل تمعن في تحويل أوضاعهم المعيشية لتجارة انتخابية رخيصة. أمام خطورة التوظيف السياسي للبرامج الاجتماعية من قبل الحكومة ذاتها المؤتمنة على ضمان حيادية المرفق الاداري لابدّ من التّفاعل مع الجدل الواسع حول القانون الأساسي عدد 10 لسنة 2019 المؤرخ في 30 جانفي 2019 المتعلّق بإحداث برنامج الأمان الاجتماعي.
الإطار العام للقانون والأهداف والاجراءات
بالنظر إلى شرح الأسباب والنقاشات التمهيدية صلب لجنة الصحة والشؤون الاجتماعية بمجلس نواب الشعب والأحكام العامة للقانون الأساسي المتعلق بإحداث برنامج الأمان الاجتماعي يتنزل هذا القانون في إطار مقاربة جديدة لمعالجة الفقر متعدد الأبعاد عبر إدخال جملة من الاصلاحات على الخطط والبرامج الاجتماعية المعتمدة في هذا المجال وتوسيع دائرتها لتشمل الحد من الفقر والهشاشة الاجتماعية استنادا إلى مبادئ العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والإنصاف .
ومن أهم الإجراءات التي جاء بها:
- اعتماد مقاربة الفقر متعدّد الأبعاد ومعايير المقاربة الحقوقيّة في النّفاذ إلى أوسع ما يمكن من الخدمات
- الشفافيّة في تصنيف الفئات الاجتماعيّة من الأشدّ فقرا إلى محدودي الدّخل
- إلزام الدولة بإعداد استراتيجيّة وطنيّة للحدّ من الفقر
- اعتبار التوقّي من الفقر والحدّ منه والارتداد إليه والنهوض بالفقراء وذوي الدّخل المحدود من قبيل المسؤوليّة الوطنيّة
- التنصيص على إحداث هيكل تنفيذي ” الوكالة الوطنية للإدماج والتنميّة الاجتماعية ” يتمتّع بالمرونة والنّجاعة ويستجيب لمقوّمات الحوكمة في مستوى أخذ القرار والتصرّف المالي.
ورغم اختلاف وجهات النظر حول أهداف هذا القانون فإنّ استناده إلى سجّل معطيات علمي سيدعم الشّفافيّة والموضوعيّة في إسناد المساعدات لمستحقّيها والتصدّي للانتفاع المزدوج وعقلنة مسار اتّخاذ القرار.
هل تضمن الجوانب الفنّية والاجرائيّة المتّصلة بهذا القانون القطع مع التّوظيف السياسي لبرامج مقاومة الفقر؟
رغم صدور القانون منذ ما يزيد عن الأربعة أشهر فإن الحكومة لا تتردّد في التعامل مع هذا البرنامج كورقة انتخابية في المرحلة الراهنة ومن أهم المؤشرات على هذا التوجّه:
- عدم التّسريع بإنهاء التّطبيقات الخاصة بالتّقاطعات الادارية بما يساعد الأخصائيين الاجتماعيين الميدانيين على تقدير مبدا الاستحقاق الأولي من عدمه
- عدم إصدار النّصوص التطبيقيّة
- الصورة المشوّهة لمشروع إحداث الوكالة الوطنية للإدماج والتنميّة الاجتماعية التي يقع تداولها بأروقة وزارة الشؤون الاجتماعية والمتعارضة أصلا مع أهداف هذا القانون ومع مقاربة مقاومة الفقرمتعدّد الأبعاد وما رافق هذا المشروع من جدل في صفوف المنتسبين لمهنة الخدمة الاجتماعية وهياكلهم النقابيّة وخشية من أن يتحوّل برنامج الأمان إلى واجهة عصريّة للتصرّف في المساعدات الماليّة الظرفيّة والعلاج فقط، بعيدا عن منطق الإدماج ومقاومة سوء التكيّف بل أن سلك الأخصائيين الاجتماعيين لا يخفي تخوّفه من المساس بثوابت مهنته وخصوصيّتها في ظلّ تهافت بعض المسؤولين بوزارة الشؤون الاجتماعية على تنفيذ أجندات والحصول على غنائم من وراء مشروع الوكالة لا علاقة له بأهداف القانون وواقع الفئات المهمّشة .
- اعتماد خطّة اتّصالية من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية وتنفيذها دون تشريك الفنّيين تمّ بموجبها فسح المجال للدّعاية السياسيّة وإغراق الهياكل المحليّة والجهويّة للشؤون الاجتماعيّة بطلبات تسجيل لفئات غير معنيّة بهذا البرنامج.
- إشراف رئيس الحكومة، يوم 13ماي 2019 بوحدة للنهوض الاجتماعي بجهة الكبّاريّة، على انطلاق توزيع بطاقات “الأمان الاجتماعي” الخاصّة بالمنحة القارّة والعلاج المجاني وبالتّعريفة المنخفضة وهي خطوة تنطوي على مغالطة كبيرة للرأي العام وبالتحديد للفئات الفقيرة ومحدودة الدّخل ولها علاقة بالدّعاية الانتخابيّة لا غير باعتبار أن القانون الأساسي المتعلّق بإحداث برنامج الأمان الاجتماعي ينصّ في فصله التّاسع على أن الوكالة الوطنية للإدماج والتنميّة الاجتماعيّة هي من يتولّى ضبط قائمة المنتفعين ببرنامج الأمان الاجتماعي ويؤكد الفصل 18 من نفس القانون على مهمّة الوكالة في مسك سجلّ معطيات حول الفئات الفقيرة والفئات محدودة الدّخل، كما أن البطاقات الورقيّة المعتمدة حاليا مقيسة وصدرت في شأنها أوامر حكومية لا يمكن تغييرها ببطاقات الأمان إلا بنصوص تطبيقيّة مماثلة وما يبعث على الاستغراب أن نظام التّنقيط لم يقع التّصديق عليه وأن المسح الميداني لم يكتمل بل سيبقى مختلّا في غياب التّقاطعات الادارية الضروريّة والأخطر من ذلك أن مثل هذه الحملات تظهر مهنة الخدمة الاجتماعية وسلك الأخصائيين الاجتماعيين كجزء من منظومة الدّعاية وفي ذلك عدم احترام لهذه المهنة ولنصوصها القانونية الداعمة لخصوصيّتها واستقلاليّتها وحيادها.
في ظل هذا الفشل وعلى ضوء هذا الامعان في إهدار الفرص وغياب الإرادة في تبني منوال تنموي يتناسب مع مقتضيات الحرية والحق في الشغل والكرامة الوطنية فإن المرحلة القادمة ولا سيما الأشهر التي تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية والتشريعية ستشهد ارتفاعا لوتيرة التوظيف السياسي للبرامج الاجتماعية ونخشى أن يلقى برنامج “إحميني” الموجّه لضمان التغطيّة الصحيّة والاجتماعيّة للنساء العاملات بالوسط الريفي نفس المصير.
س.د