تقديم:
لم يعد خافيا على متتبعي الشأن العام أن حزب العمال شهد قبل مؤتمره الأخير المنعقد في شهر ديسمبر الماضي خلافا مع عدد قليل من مناضليه (لا يتجاوز العشرة بين أعضاء الحزب واتحاد الشباب) على رأسهم عبد المومن بلعانس الذي شغل بعد مؤتمر 2014 خطة نائب الأمين العام للحزب. وقد حسم المؤتمر هذا الخلاف واعتبر عبد المومن وجماعته خارج الحزب لا لأنهم في خلاف سياسي وفكري معه فحسب بل لأنهم خاصة رفضوا النقاش داخل الهياكل وفعلوا ما فعلوا، ولكن دون جدوى، لإثارة قواعد الحزب على القيادة المتهمة “بالبيروقراطية”.
وفي المدة الأخيرة عاد الحديث مجدّدا عن عبد المومن بلعانس في علاقة بالأزمة داخل الجبهة الشعبية واصطفافه وراء مجموعة “الوطد الموحد” بالبرلمان التي سعى بعض أفرادها إلى توظيفه بشكل تافه لتشويه حزب العمال مدعيا أن عبد المومن “مسكين… ناضل طول عمره ولم يلق الخير في الذين ناضل معهم”. وهذه الطريقة التي لا علاقة لها بالسياسة والنضال لا هدف منها سوى استجداء عاطفة الناس وإظهار عبد المومن بمظهر الضحية، وهي في النهاية طريقة تسيء إلى مومن أكثر مما تنفعه علاوة على إساءتها لمن يستعملها لأنها تبين أنه لا أخلاق ولا مبادئ له وأنه لا شيء يردّه عن استعمال أشنع الأساليب لتحقيق أجندته الخاصة.
لذلك ونزولا عند رغبة العديد من المتابعين للشأن العام الذين عرفوا أن عبد المومن بلعانس هو الذي استقال من الهياكل القيادية للحزب وتمسك باستقالته رغم محاولات القيادة إثناءه عن موقفه ثم سعى لاحقا إلى تكوين كتلة وتجميع عناصر لا علاقة لها بالحزب للضغط على قيادته ومحاولة التأثير في خطه الفكري والسياسي والتنظيمي، ننشر وثيقة كنا وزعناها قبل المؤتمر على أعضاء الحزب وعلى أنصاره ونصيراته وتناولنا فيها بإطناب تطور الخلاف مع عبد المومن ومآلاته. ونحن على يقين أن كل من يقرأ هذه الوثيقة سيتبين له أن ما يفعله عبد المومن اليوم في كتلة الجبهة الشعبية مع مجموعة الوطد الموحد من أجل فرقعتها، أي الكتلة، وفرقعة الجبهة الشعبية ما هو، من حيث الطريقة والأسلوب، إلا تكرار لما حاول القيام به داخل حزب العمال علاوة بالطبع على ما فيه من سعي إلى تصفية الحساب مع رفاقه القدامى الذين فشل في الضغط عليهم والذين بينت الوقائع أن حزبهم أصبح في وضع أفضل بكثير مما كان عليه حين تجاوز خلافاته الداخلية وحسمها بمبدئية.
قراءة طيبة.
يمرّ حزبنا هذه المدة، بمصاعب داخلية. فهو يواجه تكتّلا جديدا. ومن يتابع مسار هذا التكتل لا يمكن أن يعزله بأي حال من الأحوال عن مجريات الواقع الموضوعي الحالي سريع التغير وشديد التعقيد من جهة وعن الصعوبة التي يجدها حزبنا، كما الجبهة الشعبية، في متابعته والاستجابة لمتطلباته من جهة ثانية. فبعد حوالي الثماني سنوات من سقوط الدكتاتورية تزداد الأوضاع تأزّما مع رجحان موازين القوى أكثر فأكثر لصالح قوى الثورة المضادة في ظل تراجع القوى الثورية والتقدمية من جانب والحركة الاجتماعية والشعبية من جانب آخر حتى وإن كان المسار الثوري لم يغلق بعد ولم تستقر الأوضاع نهائيا لفائدة قوى الثورة المضادة.
ومن البديهي أن تخلق حالة كهذه نزعة من التشاؤم واليأس والإحباط هنا وهناك، وبالخصوص في صفوف العنصر البورجوازي الصغير، محدود النظرة وضيّق الأفق. ومن النافل أن حزبنا ليس معزولا عن هذه الحالة بل هو في صلبها، يتأثر بها ويؤثر فيها. ولذلك فإنّ مثل هذه الأوضاع المتأزمة تخلق مناخات مناسبة للانشقاقات داخل الأحزاب الثورية سواء بدافع انحرافات يمينية، بعنوان التأقلم مع إكراهات “الوضع الصعب” حيث يقع التخلي عن المبادئ والأهداف الجوهرية بدعوى “عدم ملاءمتها للواقع”، أو بدافع انحرافات يسراوية، انعزالية، تقفز على الواقع، عن طريق الجملة الثورية التي لا تحلّ شيئا من القضايا المطروحة.
وفي هذا السياق فإن اللحظة التي نعيشها اليوم من المسار الثوري في تونس هي بالفعل لحظة فرز وبالتالي لا ينبغي بالمرّة أن نستغرب ظهور انشقاقات في حزبنا وفي غيره من الأحزاب الثورية والتقدّمية. وبعبارة أخرى، فإنه من واجبنا التعامل مع هذه الظواهر كإفرازات عادية للصراع الطبقي، في تجلياته الفكرية والسياسية والاجتماعية، وما يتأتّى عنه من ضغوط وتأثيرات في المناضلات والمناضلين بمستوياتهم المختلفة إذ لا يمكن الاعتقاد أن الأمر ينحصر في فئة معيّنة منهم مرتبطة بالسن أو بقصر التجربة. ولكن إذا كانت هذه الظواهر ترافق الأحزاب الثورية في مسار تطورها، فإن الأهم من كل ذلك، وهو ما أثبتته بالإيجاب تجربة حزبنا منذ تأسيسه، خلال مختلف الصراعات التي عرفها في كل المنعرجات التي عاشتها بلادنا، يبقى مرتبطا بكيفيّة تعامل هذه الأحزاب مع هذه الظواهر أي بقدرتها على استثمار الصّراعات والخلافات التي تنشأ صلبها، في ظرف من الظروف، لتصليب عودها فكريا وسياسيا وتنظيميا وعمليا.
إن التعاطي السليم مع الخلافات والصراعات الناشئة داخل الحزب في لحظة من لحظات تطوره في ارتباط، بالطبع وبالضرورة بواقع الصراع السياسي والاجتماعي، يتطلب الكثير من الدقّة والفهم لتوجيه الاهتمام إلى القضايا الحقيقية المثارة واجتناب إضاعة الوقت في التفاهات والمماحكات الشخصية أو بعض المسائل الجزئية التي تشتّت الاهتمام وتُشِيع الإحباط لدى كل متابع سواء من المناضلات والمناضلين العاديّين أو لدى الحزام الذي لن يرى في تلك الصراعات والخلافات سوى ضربا من الحروب الشخصية على المواقع والمصالح، وهو ما يخدم في نهاية الأمر مصلحة أي طرف انتهازي لا رغبة له في كشف مآربه الحقيقية. وهو ما ينطبق على وضعنا الحالي، إذ من الأهمية القصوى أن يدرك كافة الرفيقات والرفاق جوهر الخلافات والصراعات الحالية مع التكتل الذي يقوده الرفيق عبد المومن بلعانس (ع م ب) بمعية الرفيقين عبد الجبار المدوري (ع ج م) وسمير حمودة (س ح)، حتى لا يضيعوا في الجزئيات ولا ينخرطوا في معارك “الفايسبوك” الدونكوشيتية أو يصيبهم الارتباك لأقل خبر أو تدوينة أو تعليق.
إن هذه المسالة تزداد اليوم أهمية إذا رأينا كيف تتصرف العناصر المتكتّلة وما هي المسائل التي تركّز عليها أو تُروّج لها والمتاهات التي تعمل على جرّ المناضلين والمناضلات إليها. فبعد حوالي عشرة أشهر من استقالة “ع م ب” وسعيه المستمر إلى لفّ من أسماهم بـ”الغاضبين” أو “المنسحبين” أو “المطرودين” وبعد عقد أربع أو خمس “ندوات” موازية، فإننا لا نسمع كلاما لا عن خط فكري وسياسي ولا عن برنامج أو استراتيجيا أو تكتيك أو نشاط أو أي مشروع بديل، بل إننا لا نسمع غير شعارات وكلام عام عن “القيادة البيروقرطية” التي ينبغي “إزاحتها” كشرط لـ”إحلال الديمقراطية داخل الحزب”، مع تركيز شخصي، يصل إلى درجة الإسفاف والابتذال، والسقوط الأخلاقي الذي ما بعده سقوط على الرفيق “ج ه”، الذي يُقدّم على أنه “رمز البيروقراطية” و”سبب كل الكوارث” في محاولة للشخصنة السّخيفة والانحراف بالنقاش عن مجراه الحقيقي.
وفي الحقيقة فإن كثرة الكلام عن “البيروقراطية” و”الديمقراطية” وعن الرفيق جيلاني الهمامي (ج هـ) وفي بعض الجهات عن الرفيبق عمار عمروسية (ع ع)، ما هي إلا “الطّعم” الذي يستعمل لمحاولة جرّ المناضلات والمناضلين، ممّن لهم مشاكل أو خلافات سواء مع المشرفين عليهم أو مع هذا العضو أو ذاك من القيادة، أو ممّن انسدّت الآفاق أمامهم ولا يرون مخرجا من صعوبات الوضع الحالي، لتجييشهم أولا ضدّ القيادة في انتظار طرح “البديل” عليهم. وبعبارة أخرى فإن الحديث العام، المتشنّج والمتوتّر عن “القيادة البيروقراطية”، ليس سوى الشجرة التي تحجب الغاب، أو الغطاء الذي يحجب الخلاف الحقيقي وهدف التكتّل الذي يريد الوصول إليه في نهاية الأمر ولكنه لا يفصح عنه منذ البداية لسبب بسيط وهو إمكانية الاعتراض عليه حتى من “الغاضبين” أو “المنسحبين” أو المطرودين. وليس أدل على ذلك من ردّة الفعل التي أحدثها نص “س ح” حول “أزمة الحزب” أو نص “ع ج م” حول “هيكلة الحزب” في صفوف عناصر التكتل ذاتهم. فلما سُئل “ع م ب”، في اجتماع بسيدي بوزيد، حضره بعض رفاقنا عمّا يقترح من بدائل بعد كل الحديث عن “أزمة الحزب” وعن “القيادة البيروقراطية” أجاب: “نتلمدوا وبعد نشوفو” أي اقطعوا مع القيادة وتجمّعوا “حولنا” وفيما بعد ستعرفون توجّهنا.
إن محور الصراع الحقيقي اليوم مع رموز التكتل ونعني “ع ب ع” و”ع ج م” و”س ح” هو هويّة الحزب ذاتها أو بالأحرى الحزب الذي نريد. فهل نحن نريد الحفاظ على حزبنا، حزبا طبقيا، ثوريا، ماركسيا لينينيّا، نعمل على تطويره وتثويره بلا انقطاع، أم أننا نعتبر هذا الحزب، قد “انتهى” والعبارة للرفيق “س ح”، واستنفد دوره التاريخي ولم يعد صالحا لزمننا الحالي بسبب “التطورات الموضوعية الحاصلة”، وهو ما “يستوجب” تأسيس نمط “جديد” من الأحزاب، أكثر “مرونة” و”أقدر على تجميع الناس” بما يجعلنا نحقّق “أهدافنا” في الوصول إلى الحكم عوض البقاء “أقليّة معزولة” وهو ما يحقّقه في نظر الجماعة “الحزب اليساري الكبير” الجامع لكل “أطياف الماركسية من تروتسكيّين وماويين وتحريفيّين الخ..” على “قاعدة برنامج سياسي مباشر واستراتيجي” (انظر نص “س ح” حول أزمة الحزب). هذا هو لبّ الخلاف. وهذا هو سبب “الحرب” على “القيادة البيروقراطية”.
إن المستهدف الحقيقي ليس القيادة في حد ذاتها أو “ج ه” أو غيره من الرفاق في شخصهم، بل هو نمط الحزب الثوري الماركسي ـ اللينيني في خصائصه الجوهرية الفكرية والسياسية والتنظيمية، لا في تفاصيله وجزئيّاته المتغيّرة التي ترتبط بالظروف الخاصة، زمنا ومكانا، في كونه حزبا حاملَ وعيِ، طلائعيّا، فكرا وخطًّا سياسيا وبرنامجا واستراتيجية وتكتيكا وكادرا، حزبا منظّما على أسس صلبة تجعله قادرا على منازلة الرجعية بأجهزتها وأدواتها المختلفة، حزبا ممركزا، ديمقراطيا، موحّدا، ناشطا، فاعلا.
أن يكون حزبنا يمرّ بصعوبات، أو حتّى بأزمة، وأن يكون فشل في أكثر من واجهة ولم يحقّق المطلوب، سواء قبل الثورة، مّما جعل تأثيرنا في مجرياتها وفي نتائجها محدودا، أو بعد الثورة، ممّا جعلنا لا نستغل الظروف السانحة لنتقدم، على الأقلّ، في الانغراس ونحقق نتائج أفضل في التصدّي للثورة المضادة، فهذه قناعة يتقاسمها غالبية كوادر الحزب إن لم نقل غالبية مناضلاته ومناضليه وكانت على الدوام على رأس مشاغل الهيئات القيادية للحزب حتى إن لم تجد لها، بشكل عام، الحلّ أو الحلول الملائمة، وعليه فإنّه من الغباء، كل الغباء، أن لا نعترف بالمشاكل والمصاعب الكثيرة التي يمرّ بها الحزب. ولكن المشكل كل المشكل يكمن في كيفيّة الجواب على هذه المشاكل والمصاعب: إن الأجوبة كما بيّنت كل التجارب الثورية ليست واحدة في كل الحالات بل يمكن أن تتراوح بين إجابة ثورية، واقعية وعملية ترمي إلى دفع الحزب إلى الأمام وتعميق طابعة الطبقي، في نطاق مبادئه وأهدافه الكبرى، وتطهيره من الانحرافات والشوائب، وبين إجابة يمينية تدفع نحو التخلي عن هوية الحزب الثورية والبحث عن حلول أخرى في إطار أنساق فكرية وسياسية معادية للماركسية بل إصلاحية وانتهازية، بدعوى أن المبادئ والأهداف الكبرى “فشلت” و”انتهت” ولا بد من تعويضها بـ”النجاعة” و”البراغماتية”، وبين إجابة ثالثة، يسراوية، مجردة ولا واقعية تنزع عادة إلى المزايدة داعية إلى هجر الفضاءات الشرعية بكل مستوياتها والانغلاق في عالم من الجمل الثورجيّة.
هذا هو، مرّة أخرى، لبّ القضية الذي لا يفصح عنه للعموم، “ع م ب” وبعض العناصر الأخرى المقرّبة منه والواعية بالمشروع “الجديد”، مشروع “الحزب اليساري الكبير”. إن تفسيخ الحزب تنظيميّا بالتخلّي عن جوهر مبادئ التنظيم الثوري، اللينيني، هو في الواقع المدخل لتفسيخ الحزب أيديولوجيا وسياسيا. ويمكن القول إن هذا الأمر، بدأ يظهر بعْدُ في ممارسة الجماعة. إن محاولة تجميع من هبّ ودبّ، وبشكل أدقّ كل من مرّ يوما باتحاد الشباب وانسحب لسبب من الأسباب، أو مرّ يوما بالحزب وانسحب أو استقال ولم تعد تربطه به أية رابطة نضالية، أو أطرد لارتكابه أخطاء فادحة، واعتبارهم جميعا “أبناء الحزب” و”أصحاب حقّ فيه” بدعوى أنهم “ضحايا البيروقراطية”، إن هذه المحاولة هي التي تخلق القاعدة المادية، لا لخلق “ميزان قوى ضدّ القيادة”، كما يصرّح بذلك “ع ج م” بشكل واضح فقط، وإنّما أيضا لتغيير هويّة الحزب الثورية، الماركسية اللينينية، بما تحمله غالبية تلك العناصر المجمّعة، من أفكار وممارسات وعادات تتنافى مع هذه الهوية وتصبّ رأسا في الانتهازية اليمينيّة.
لقد كشف “ع م ب” عن هذا التوجّه في الانتخابات البلدية الأخيرة حين رفض، خلافا لما أجمعت عليه تقريبا الأغلبية الساحقة من مكونات الجبهة الشعبية وقياداتها، تشكيل قائمات باسم الجبهة الشعبية ودعا إلى تشكيل قائمات “موسّعة”، تذوب فيها عمليّا الجبهة، وقد كان من نتائج تعنّته تعطّل العمل في جهة المنستير، والحال أنه كان المشرف عليها علاوة على أنه نائب في البرلمان، واقتصار الجبهة الشعبية على تشكيل ثلاث قائمات فحسب على واحد وثلاثين بلدية في الجهة، علما أنه من الناحية الفعلية لم ينخرط لا هو ولا من ناصره في تشكيل ولو قائمة واحدة حتى بالمعايير التي دافع عنها، والتي كانت مناقضة لما اتّجه إليه الحزب والجبهة، بل إن سلوكه لم يخلق سوى مزيدا من الارتباك في صفوف مناضلي الحزب والجبهة. ويؤكّد اليوم عديد الرفاق من اتحاد الشباب الذين ناقش معهم “ع م ب” في المدة الأخيرة، أنه دعاهم من الآن إلى التفكير في تشكيل قائمات “مستقلة” على “أرضية واسعة”، لا قائمات باسم الجبهة الشعبية، في الانتخابات التشريعية القائمة. وما هذا في الواقع إلّا بداية تكريس لنهج إصلاحي، يدفع نحو تخلّي الجبهة الشعبية عن هويّتها والتنازل عن أهدافها الجوهرية التي من المفروض أن تميّزها عن باقي القوى الرجعية والإصلاحية، في المشهد الانتخابي، دون أن يعني ذلك رفضا للتحالفات والاتفاقات الانتخابية في ظروف معيّنة، علاوة على أنّه بداية انحراف نحو جعل الانتخابات، لا واجهة من واجهات العمل من أجل نشر الوعي في صفوف أوسع الجماهير الكادحة وإعدادها للمعارك الثورية الفاصلة من أجل تحقيق مطالبها بشكل جذري وفعلي، بل هدفا في حدّ ذاتها ووسيلة للوصول إلى الحكم من موقع متذيّل للبورجوازية.
كيف يستعمل التنظيم وسيلة للتّضليل؟
إن الرجوع إلى مسار التكتل منذ استقالة الرفيق “ع م ب” يؤكّد بما لا يدع مجالا للشك أن مسألة “التنظيم” وتحديدا “البيروقراطية” ليست إلّا ذريعة، على الأقل في ذهن قادة هذا التكتّل، لتحقيق مراجعات أعمق وأشمل، لا علاقة لها بتصحيح أوضاع الحزب على أسس ثورية، ماركسية لينينية، والحفاظ على وحدته. نقول هذا لأن العديد من العناصر الشبابية والحزبية سابقا، المنسحبة أو المستقيلة أو المطرودة، انجرّت مع التكتل، البعض لتصفية حسابات مع هذا الرفيق أو ذاك أو مع هذا الهيكل أو ذاك، والبعض الثاني لأنه متأزّم منذ المؤتمر الماضي لأنه لم يحصل على مركز في اللجنة المركزية وينتظر اللحظة للتعبير عن غضبه والبعض الثالث، لأنه تربطه علاقات ذاتية مع “ع م ب” أو مع أحد رموز التكتل أو مع أحد الأصدقاء أو الصديقات الذين انخرطوا في مشروع الانشقاق. ولكن كلّ هذا الخليط من الدوافع والأهواء لا يعبّر إلا عن ضيق أفق وعدم وعي يُمثّل هو في حدّ ذاته قاعدة مادية لقبول كلّ المواقف التي يعبّر عنها قادة التكتل لأن ما يهمّهم جميعا أو معظمهم، هو الحصول ما يشبع نرجسيتهم.
لقد وجّه الرفيق “ع م ب” رسالة الاستقالة، المقتضبة جدّا، إلى اللجنة التنفيذية، بتاريخ 4 جانفي الماضي. وهذا هو نص الرسالة: “يعيش حزبنا ومنذ مدة طويلة أوضاعا داخلية جدّ صعبة. وقد باءت كل المحاولات لحلحلة هذه الأوضاع في اتجاه الأفضل بالفشل، لذلك قرّرت التخلي عن مسؤولياتي القيادية داخله. شكرا. ودمتم للنضال. الإمضاء ع م ب”. ومن الملاحظ أن “ع م ب” كان حضر آخر اجتماع للجنة المركزية بتاريخ 26 أكتوبر 2017 وحضر بعد ذلك بعض اجتماعات اللجنة التنفيذية ثم بدأ يتغيّب دون ذكر لسبب، بل إنه كان، حين يقع الاتصال به قبل الاجتماع يؤكّد حضوره ثم يتغيّب.
وقد ردّت اللجنة التنفيذية على رسالة الاستقالة برسالة مقتضبة أيضا رفضت فيها الاستقالة ودعت فيها “ع م ب” إلى التخلّي عنها ومواصلة تحمل مسؤولياته مشيرة إلى أن ما ذهب إليه من تقييم (لأول مرة في الحقيقة لأن “م” في العادة أقل الرفاق نقدا لأوضاع الحزب وأكثرهم تنسيبا لنقائصه وهناته) هو في حد ذاته لا يدعو إلى الاستقالة بل إلى مزيد بذل الجهد من أجل الخروج بالحزب من المصاعب التي هو فيها والتي لا ينكرها أحد من قيادة الحزب. كما دعته إلى مناقشة استقالته داخل القيادة لمعرفة أسبابها. ولا بدّ من التذكير في هذا السياق بخطورة الظرف التي قدّم فيها “م” استقالته. لقد أثارت الميزانية التي زكّتها الأغلبية البرلمانيّة موجة من الاحتجاجات في عدّة مناطق واجهتها الحكومة بالعنف والقمع. وكانت مناسبة لها لشنّ حملة إعلامية رهيبة على الجبهة الشعبية التي شاركت في تلك الاحتجاجات وساندتها. وقد كان رفاقنا في مقدّمة الاحتجاجات خاصة بعد تشكيل حركة “فاش نستنّاو” التي لعبت دورا نشيطا أربك الائتلاف الحاكم. ولم يتورّع وقتها رئيس الحكومة يوسف الشاهد عن اتّهام الجبهة الشعبية بالتخريب وبالتواطؤ ضمنيّا مع الإرهاب. وفي هذا الجوّ المشحون عمدت عناصر إجرامية إلى حرق مقرّ الحزب بالعروسة. هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد كانت الجبهة في فترة تشكيل القائمات البلدية وهي تشكو من تأخير كبير في ذلك علاوة على ضعف الإعداد في كافة المستويات وحالة الانحلال التي كانت عليها هياكل الجبهة ومناضلاتها ومناضلوها.
ولكن “ع م ب” تمسّك بموقفه مصرّحا بأنه وإن استقال من الهياكل القيادية فإنه سيحافظ على عضويّته في الحزب وسيكون من جنوده على ذمّة ما تكلّفه به القيادة من مهام. ومع ذلك لم تيأس اللجنة التنفيذية وواصلت مساعيها لإثنائه عن الاستقالة ووصلت حدّ دعوته، إن شاء، إلى التمتّع بفترة من الراحة، بالنظر إلى وضعه الصحي، وإرجاء النقاش إلى وقت لاحق يكون فيه أكثر استعدادا. ولكن دون جدوى. بعد ذلك فوجئت اللجنة التنفيذية ببداية تسرّب خبر الاستقالة حتى قبل أن تعلم بها اللجنة المركزية واتّضح أن “م” هو الذي يقوم بذلك رغم أنه أنكر في البداية. فوجّهت إليه اللجنة التنفيذية رسالة أخرى بتاريخ 8 مارس 2018 ذكّرته فيها بالتزاماته تجاه الحزب وطالبته بالردّ كتابيا بخصوص دعوته إلى التراجع عن استقالته ومواصلة تحمّل مسؤولياته القيادية. ولم تأت هذه الإجابة إلا في شهر مارس عشية انعقاد اجتماع اللجنة المركزية. وقد كشف “م” لأوّل مرة، على الأقل، نصف ما يفكّر فيه. لقد ضمّن هذه الرسالة تقييمه لمسار الحزب قبل الثورة وما بعدها. ولئن وقف عند نقاط إيجابية في مسار الحزب قبل الثورة، فإنه اعتبر مساره بعد الثورة “فاشلا” في أكثر من مستوى. وعلى هذا الأساس تمسّك باستقالته وطالب “بفتح نقاش عام داخل الحزب بكل موضوعية على ما آلت إليه أوضاعنا وأسباب ذلك”.
لقد اضطرت اللجنة المركزية في نهاية الأمر إلى قبول الاستقالة ووجّهت إليه رسالة بتاريخ 8 أفريل 2018 تحدّد طبيعة فيها العلاقة مستقبلا، بما يضمن حقوقه ويحدّد واجباته كعضو في الحزب.
ولكن الأخبار التي تفيد بأن “ع م ب” يواصل اتصالاته في كل الاتجاهات للإعلام باستقالته من جهة وللهجوم على قيادة الحزب “البيروقرطية” والمسؤولة عن تدهور أوضاعه من جهة أخرى لم تتوقّف. وقد جاء اجتماع 27 ماي الذي دعا إليه ليكشف في الواقع النّصف المتبقي الذي لم يكشف عنه “م” في رسالتيه السّابقتين. لقد ضمّ هذا الاجتماع 18 شخصا لا يتجاوز فيهم عدد المناضلين المنظّمين في الحزب أصابع اليد. وكان محور الاجتماع الهجوم على قيادة الحزب وبعض عناصرها على رأسهم “ج ه”. وظهر في هذا الاجتماع توجّهان أساسيان، الأول يدعو إلى خوض الصراع “ضد البيروقراطية” داخل الحزب والثاني أخذ منزعا انشقاقيا. ولكن في النهاية صدرت عن هذا الاجتماع عريضة يدعو فيها المجتمعون الذين لم يفصحوا عن أسمائهم، إلى “فتح نقاش عام داخل الحزب يشارك فيه كافة مناضليه ومناضلاته (من هم؟)” وإصدار نشرية داخلية تضمّ كل النصوص التي رفضت القيادة تعميمها للنقاش وتمكين كل المناضلين دون استثناء من الاطّلاع على هذه النشرية ومن نشر آرائهم فيها، ثم يأتي الأهم في العريضة وهو عقد مؤتمر استثنائي و”تشكيل لجنة تضم أعضاء من داخل القيادة ومن خارجها للتحضير لمؤتمر استثنائي يكون مسبوقا بنقاش عميق ومفتوح حول التمشي الذي سيقع اعتماده لنجاح المؤتمر”. وبعبارة أخرى فإن الجماعة يرفضون انعقاد المؤتمر العادي المقرر لآخر هذا العام والذي شارك “م” منذ أواسط 2016 في تحديد ملامحه الكبرى.
ولكن لماذا مؤتمر استثنائي؟ هنا مربط الفرس. لقد اعتبر دعاة هذا المؤتمر أن “وضع الحزب استثنائي”، زاعمين أنّ نصفه منسحب أو مطرود ونصفه الآخر مشتّت”، وأن هياكله “بعضها مشلول وبعضها صوري على الورق” (هكذا بكل صلف…) أما “القيادة” فهي معزولة ولا تمثل كافة مناضلات الحزب ومناضليه وبالتالي لا يحقّ لها أن تتولّى هي الإعداد للمؤتمر. فما هو المطروح إذن؟ المطروح هو أولا: تشكيل لجنة مشتركة تتكون من عناصر من القيادة وأخرى من “المعارضة”. وثانيا: فتح باب الحضور في المؤتمر لكافة المنسحبين والمستقيلين والمطرودين، بل لكل من ربطته علاقة سابقة بالحزب. كما دعت العريضة إلى فتح نقاش عام داخل الحزب حول “الأزمة” وإلى إصدار نشريّة داخلية لمناقشة هذه الأزمة التي تحمل في الواقع عنوانا واحدا وهو “البيروقراطية” داخل الحزب ومسؤولية القيادة عنها. وقد تمّت مراجعة النسخة الأولى للعريضة التي اتسمت بحدّة مفرطة تجاه القيادة بأخرى أقل حدّة منها. وانطلق الجماعة في ترويجها لجمع التوقيعات عليها. ومن الملاحظ أن القيادة ما كان لها أن تعلم بهذا الاجتماع لولا الإعلام الذي قدّمه الرفيق “س ح” لهيكله بفرنسا الجنوبية بناء على توصية كان قدمها في لقاء الـ”18″ وهي أن يبلّغ كل من هو منظّم في الحزب هيكله بهذا اللقاء وبقراراته معتبرا أن اللقاء لا هو سري ولا من وراء ظهر القيادة. ولكن لا أحد من المتبقّين أعلم هيكله.
لقد تصرّفت قيادة الحزب بحكمة في مواجهة هذه الوضعية رافضة اتّخاذ أي إجراء متسرّع وقرّرت الاتصال والنقاش مع العدد القليل من العناصر المهيكلة والمنظمة داخل الحزب.
إن أهم هذه النقاشات هي تلك التي دارت بين وفد من قيادة الحزب (الأمين العام وعضوان من اللجنة التنفيذية وعضو من اللجنة المركزية) و”ع م ب”. لقد أعاد هذا الأخير في مداخلة مطوّلة ما جاء تقريبا في رسالته التقييميّة الموجهة إلى اللجنة المركزية وأضاف إليها فكرة النقاش العام والنشرية. ولما سئل عن العريضة ومحتواها اعتبرها مبادرة من “ع ج” لا منه هو. وقد ردّ وفد القيادة على كل النقاط المثارة بشكل ملموس مدعوم بالمعطيات والوقائع المستندة إلى محاضر جلسات اللجنة المركزية ومقرّراتها ومحاضر اجتماعات اللجنة التنفيذية ومراسلات الحزب الدورية.
ويمكن حوصلة ردود الوفد في فكرة أساسية وهي التالية: “إنك تعلم أيها الرفيق، والحال أنك نائب الأمين العام، أن ما تثيره من نقاط تقييميّة في مجال التنظيم خاصة، جلّها يمثل قاسما مشتركا لدى أعضاء القيادة التي ما انفكت تسعى إلى تجاوز النقائص والهنات معتمدة أكثر من خطة للغرض. كما تعلم أنك من ناحيتك لم تساهم بأي مشروع لتجاوز هذا الوضع وأنك لم تطلب أي نقاش يذكر حولها في أي مستوى من المستويات حتى تدّعي أنك يئست من المحاولات ولم تجد آذانا صاغية للتفاعل معك ومع نقودك. وإلى ذلك كله متى عبّرت عن فكرة ووقع منعك من تبليغها في أي هيكل من الهياكل؟ أو متى طلبت الذهاب إلى جهة من الجهات في إطار حزبي ورفض لك ذلك؟ ومن منعك في الهياكل التي أشرفت عليها (بوزيد، منوبة، المهدية، المنستير الخ…) من ضبط خطط لتطوير عمل الحزب وتوسيع صفوفه؟ ومن منعك وأنت المكلف، صلب اللجنة التنفيذية بالاتصال بالأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وبالإشراف على الهيكل التنسيقي للعمل في الجبهة الشعبية من تقديم المقترحات واتخاذ الخطوات العملية للتقدم بعملنا هذا؟ وحتى اليوم وعلى فرض أنك وعيت الآن بخطورة أوضاع الحزب فمن منعك من طرح ما تريد طرحه في داخل الحزب إن كان الهدف هو النهوض بأوضاعه؟ وفوق ذلك كله أنت أعلم الناس أننا مقدمون على مؤتمر وأن الاتفاق حاصل، وأنت طرف في ذلك، على تعميق النقاش وتوسيعه بشتى الطرق والوسائل (اجتماعات مباشرة، ندوات، نصوص ونشريات الخ…) في هذا المؤتمر حول وضع الحزب ليكون فعلا نقلة نوعية في تاريخه. وحول العناصر المنسحبة أو المستقيلة أو المطرودة (عددها لا يتجاوز خلال سنوات العشر حالات كان “ع م ب” مساهما في كل القرارات المتخذة بشأنها وموافقا) فأنت الأعلم بحجمها وبأسبابها التي يتداخل فيها الموضوعي والذاتي، وبالجهود التي بذلت خاصة لاسترجاع الحزب المنسحبين وحتى المستقيلين، وهو مجهود شاركت فيه اللجان الجهوية والمحلية ونجحت أحيانا وأخفقت أحيانا أخرى، فمن أين أتيت بفكرة أن الحزب مشتّت وأن الموجودين خارجه أكثر ممّن هم داخله؟ أليس هذا مسعى تكتليّا هدفه تغيير تركيبة المؤتمر وخلق ميزان قوى داخله للانقلاب على قيادة الحزب وتغيير خط الحزب السياسي والفكري الذي لا يمكنكم تغييره بتركيبة الحزب الحالية؟ لماذا لا تخوضون الصراع من داخل الحزب وإن كسبتم أغلبية فأهلا وسهلا؟ وفي خصوص ما يروّج حول النصوص التي ترفض القيادة نشرها: ما هي هذه النصوص؟ نص “ع ج م” الذي يعود إلى 15 أكتوبر 2015 وقد عاد فيه إلى تقييم المؤتمر وإلى المقترحات التنظيمية التي كان طرحها في المؤتمر (توسيع القيادة، تمثيلية الجهات الخ…) ولم تحظ بموافقة غالبية النواب؟ هل من فائدة في فتح نقاش عام من جديد حول موضوع حسمه المؤتمر؟ ثم ماذا فعل “ع ج م” بذلك النص؟ ألم يحاول اعتماده أرضية لتشكيل تكتل وبدأ في اتصالات جانبية؟ وقد أجهض هذه العملية أول الرفاق الذي اتصلت به “ن ر” في الوطن القبلي؟ وفي خصوص نصّي الرفيق “س ح” ألم ينشر النص الأول حول الحزب اليساري الكبير مباشرة في موقع “الحوار المتمدن”؟ والثاني “حول أزمة الحزب” ألم يعمّمه “س ح” بنفسه على من أراد من الأعضاء والأصدقاء وتمّ اقتراحه أرضية نقاش في اجتماع الكتلة بتاريخ 27 ماي 2018؟ عن أي ديمقراطية تتحدّثون وأنتم تمارسون التكتل ولا تحترمون أبجديات العمل الحزبي المنظم بل إنكم تريدون من القيادة في نهاية الأمر أن تساعدكم على تكتلكم؟ تروّجون نصوصكم بأنفسكم على من تريدون وتطلبون من القيادة أن تساعدكم على ترويجها على من لم تتمكّنوا أنتم من الاتصال بهم؟ وأخيرا وليس آخرا هل يعقل أن تواصل التصرّف مع المناضلين والمناضلات وتتّصل بهم بصفتك نائب الأمين العام والحال أنك استقلت بمحض إرادتك من الهيئات القيادية للحزب وتمسّكت بهذه الاستقالة رغم محاولات إقناعك بالتراجع عنها؟ وبالتالي وفي النهاية، من هو المخلّ بقواعد الديمقراطية؟ قيادة الحزب “البيروقراطية” أم أنت وبقية الرفاق الذين يتكتّلون؟”
هذا تقريبا ما طرحه الوفد على “ع م ب” الذي وجد حرجا حقيقيّا لتفنيد ما قُدِّم إليه. وقد طرح عليه الوفد التفكير جديّا في وضع الحزب والكفّ عن الاتصالات الجانبية التي تمثل مسعى تكتليّا واضحا وذكّره بأنه هو الذي تمسّك باستقالته رغم كل المحاولات وأن القيادة لم تقبلها إلا بعد حوالي الثلاثة أشهر من تقديمها في ظرف دقيق وصعب أثار استغراب المناضلات والمناضلين وبعد أن يئست من عودته. كما أن الوفد أعلمه أن أبواب القيادة ليست موصدة في وجهه ولأن مكانه صلبها، شريطة التراجع عن الاستقالة ونقد الذات، وهو ما لم يُبدِ له استعدادا. فاقترح عليه الوفد الالتحاق بأحد هياكل الحزب للنشاط والنقاش فيه والمساهمة في إعداد المؤتمر ومراعاة لمركزه وتاريخه اقترح الوفد أن يتكون الهيكل من الأمين العام و”ع ع” (اللذين تربطه بهما علاقات وديّة بما يسهّل تجاوز مخلّفات الاستقالة). ولكنه اشترط أن يحضر معه في الهيكل “ع ج م”. فتمّ الجواب بأن هذا الأخير موجود في هيكل (دائرة ثقافية حدّدت مهامها وضبطت قائمة للاتصال بأعضائها من المهتمين بالثقافة ووافقوا على الحضور) وهو لم يُنشّطه منذ أن تسلم الإشراف عليه. كما تمّ توضيح أن مقترح التحاق “ع ج م” بالهيكل لتكون مهمته الوحيدة تقريبا الخوض في أزمة الحزب ما هي إلا صيغة ملتوية لتشكيل “اللجنة المشتركة” المذكورة في العريضة وهو ما ترفضه القيادة لأنه تكريس للانشقاق وخلط لأوراق الحزب. وانتهى اللقاء بوعد، في الظاهر على الأقل، بالتوقف عن الاتصالات الجانبية والالتزام بالعمل داخل أطر الحزب بل إن “ع م ب” طلب من القيادة أن تتولّى الاتصال بالعناصر “الغاضبة” والنقاش معها وحلّ الإشكالات التي تثيرها.
ولكن “ع م ب” واصل نفس الممارسات التكتلية. وتوالت الاجتماعات والاتصالات بالمناضلات والمناضلين لاستقطابهم للتكتل وهو ما فشل فيه هو وبقية العناصر فراحوا يبحثون عن أنصار من خارج الحزب أي من خارج هياكله، مع العلم أن بعض الرفاق توقف عن حضور اجتماعات التكتل والبعض الآخر ظلّ يماطل ويغالط ويحضر اجتماعات هياكل الحزب في جهته لينقل حيثيّاتها للكتلة، مع العلم أن توصيات كانت توجّه إلى عناصر الكتلة غير المعروفة، خاصة في اتحاد الشباب بأن لا تظهر هويّتها وتواصل الحضور في هياكلها لمعرفة ما يجري في الحزب ونقله إلى الكتلة الخ… وهو ما دفع قيادة الحزب إلى توجيه رسالة إلى عموم الحزب نقتطف منها هذه الفقرات التي تلخص فحواها:
“إن اللج التن تعتبر أن ما يقوم به الرفيق “ع.م.ب” هو عمل لا مبرّر له بل هو عمل تكتلي، لا مبدئي، وهو يضرّ بالحزب ولا يخدمه في شيء. فالرفيق “ع.م.ب” يعرف جيدا أنه لم يبتدع شيئا جديدا حين تحدّث في رسالته عن فشل الحزب في الانغراس وفي استغلال الظروف التي أتاحتها الثورة لقطع خطوات نوعية نحو السلطة، وحين تحدّث أيضا عن انخرام الحياة التنظيمية داخل الحزب وتراجع الأداء إلى غير ذلك من الظواهر. وهو يعرف كما يعرف أغلب كوادر الحزب أن هذه القضايا مثارة في المجالس الوطنية للحزب وفي معظم هياكله وفي المراسلات وفي مقرّرات اجتماعات اللج الم وغيرها من الوثائق. وتشهد محاضر جلسات اللج الم واللج التن أن الرفيق “ع.م.ب” لم يكن أحرص من غيره من الرفاق على إثارة هذه القضايا إن كتابة أو مشافهة. وإلى ذلك فإن الرفيق “ع.م.ب” يعرف جيدا أن الهياكل القيادية للحزب قرّرت أن تكون كل تلك المسائل محور نقاش مركزي في المؤتمر القادم للحزب الذي نعتبره مؤتمرا حاسما للنهوض بأوضاع الحزب وإعادة وضعه على السكة الصحيحة.
فإذا كانت كل هذه القضايا مثارة داخل الحزب وإذا كانت أبواب النقاش مفتوحة حولها فما الداعي إلى تنظيم مثل هذه الاجتماعات الموازية وتشتيت جهود الحزب في هذا الظرف بالذات الذي تشهد فيه البلاد تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية خطيرة؟ فما هو أحسن السبل لكي نعالج وضع حزبنا ونستعدّ لعقد مؤتمره من ناحية ونواكب تطور الأوضاع في البلاد ونساهم في النهوض بأوضاع الجبهة الشعبية التي تعرف بدورها تعطلا كبيرا أكّدته النتائج الانتخابية الهزيلة الأخيرة من ناحية أخرى: النقاش الداخلي المنظّم أم الاجتماعات من وراء الهياكل؟ إن رفض الحزب في خطّه التنظيمي (الذي سيكون محور نقاش من جديد في المؤتمر القادم) التكتلات لا علاقة له بالبيروقراطية بل هو من جوهر الديمقراطية في أبعادها المختلفة السياسيّة وحتى الأخلاقية ـ الأيديولوجية:
ـ إن النقاش داخل الهياكل في مختلف مستوياتها وبالطرق المتاحة، المباشرة أو باعتماد الكتابة، يسمح لكل المناضلات والمناضلين بالمساهمة في النقاش، وبمقارعة أفكارهم ومعطياتهم بعضها ضد بعض وبنقد بعضهم بعضا بل ونقد كافة هياكل الحزب بدءا بالقيادة وهو ما يسمح ببلورة المواقف بأكثر موضوعية، أما التكتلات فإنها لا تسمح بكل هذا بل تفتح الباب إلى النظرات الأحادية الجانب سواء في التعاطي مع المعطيات الواقعية المتعلقة بهذه المسألة أو تلك أو بالاستنتاجات المتولدة عنها، علاوة على كونها تهضم حق الرفاق غير الحاضرين في المشاركة في النقاش أو حتى في الدفاع عن وجهات نظرهم خاصة إذا كانوا معنيّين مباشرة في تلك النقاشات وهو ما يجعل من العقلية التكتليّة عقلية منافية للديمقراطية.
ـ إن النقاش داخل الهياكل وبشكل مفتوح يدعم الثقة بين الرفيقات والرفاق لأنه يقوم على المصارحة والنزاهة والنقد المباشر وعلى مقارعة الحجّة بالحجّة بما يطور الحزب ويدفعه إلى الأمام، أما النقاش خارج الأطر فهو يشيع عدم الثقة ويفتح الباب إلى المغالطات ونقل معطيات من طرف واحد دون تمكّن الطرف المقابل، فردا أو هيكلا من الردّ والتصحيح، كما يفتح الباب للنميمة والقيل والقال و”التّوتْوِيت” وتشويه هذا الرفيق أو ذاك أو هذا الهيكل أو ذاك وتبرير الأخطاء الشخصية وإلقاء المسؤولية على الغير وإلى غير ذلك من الانحرافات التي تجد في مثل هذه الظروف الأرضية الخصبة للانتعاش.
لهذه الأسباب تعتبر اللج التن أن ما يقوم به الرفيق “ع.م.ب” من اتصالات واجتماعات جانبية تمثل انتهاكا للقانون الأساسي والنظام الداخلي للحزب اللذيْن ساهم هو ذاته في وضعهما واللذين يحدّدان أطر النقاش وأساليب إجرائها وفض الخلافات. ومما يؤكد عدم شرعية هذه الأساليب، إضافة إلى عدم جدواها، هو أن الرفيق “ع.م.ب”، مثله مثل الرفاق المنتظمين في الهياكل والذين حضروا معه، لم يمنعهم أحد مطلقا من التعبير عن آرائهم كتابة أو مشافهة في هياكلهم وبالتالي فلا مبرّر لهم ولا ذريعة لاستعمال مثل هذه الأساليب اللامبدئية. وعليه فقد قررت اللج التن التوجّه برسالة إلى كل من الرفيق “ع.م.ب” وإلى كل الرفاق الآخرين المنظمين في هياكل لدعوتهم إلى الكف عن هذا التصرف والنقاش داخل هياكلهم. وفي هذا السياق فإن اللج التن تلحّ على أن يجرى النقاش مع هؤلاء الرفاق حول ما أتوه من تصرفات داخل هياكلهم ومع رفيقاتهم ورفاقهم الذين ينشطون معهم ويعرفون بعضهم البعض وهو ما يجعلهم قادرين على محاسبة بعضهم.
أما في خصوص العناصر التي لا صلة لها بالحزب والتي انسحبت من تلقاء نفسها لأسباب شخصية أو سياسية أو التي أطردت من الحزب لعدم أهليّتها بالانتماء إلى صفوفه بقرار من الهياكل التي رشحتهم للعضوية أو بسبب ارتكاب أخطاء جسيمة يعاقب عليها قانون الحزب، فإننا نعتبر أن تشريكها في هذه اللقاءات الجانبية يمثل خطأ فادحا لأن الرفيق “ع.م.ب” (والرفاق المنظمين الحاضرين معه) يعرف جيدا الأسباب المحيطة سواء بالانسحابات أو بقرارات الطرد التي اتخذت إثر نقاش داخل الأطر ودون أية معارضة أو تحفّظ، كما أنه يدرك تمام الإدراك ما ينص عليه النظام الداخلي للحزب من إجراءات تخصّ عودة المنسحبين إلى صفوف الحزب أو مراجعة القرارات المتعلقة بالطرد. ومهما يكن من أمر فإن محاولة تجميع كل من هب ودب لـ”خلق ميزان قوى يمكن من الضغط على القيادة البيروقراطية”، وتبرير ذلك بأن “الكل معني بمصير الحزب”، لا يمكن أن يقبله أي مناضل داخل الحزب لما في هذا السلوك من خروج عن أبسط المبادئ. إن مصير الحزب يعني أولا وقبل كل شيء المناضلات والمناضلين الذين يؤدّون واجبهم تجاهه وتجاه شعبهم.
إن اللج التن للحزب تدعو كل الرفيقات والرفاق إلى التعامل الجدي مع هذه التصرفات الخاطئة التي تستهدف في النهاية وحدة الحزب وهويته…..”
اجتماع سبتمبر وتكريس الانشقاق
لقد باءت كل محاولات الحزب لإقناع “ع م ب” و”ع ج م” و”س ح” بوضع حد للممارسات التكتلية بالفشل. فقد عمد هؤلاء الرفاق إلى المماطلة وربح الوقت للاتصال بمناضلات الحزب ومناضليه وإرسال العريضة إليهم بهدف التوقيع ومحاولة جرّهم إلى صفهم دائما باستعمال واجهة “النضال ضد البيروقراطية” فلا حديث عن سياسة أو فكر بل لا حديث عن تشبّث بالخط السياسي للحزب وبرنامجه وتكتيكه ومواقفه من مختلف القضايا المطروحة في الساحة السياسية ولا عن نشاط عملي ملموس رغم كثرة القضايا التي يثيرها واقع الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة. وقد جاء اجتماع المنستير (22 سبتمبر 2018 بعد أن كان سبقه اجتماع آخر محدود بالرجيش من ولاية المهدية) ليُكرّس بشكل واضح تشكّل الكتلة وسيرها نحو الانقسام. ومن المفيد، قبل التعرض لما أسفر عنه هذا الاجتماع من نتائج، التعرض للنقاش الذي جرى، قبل يوم فقط، مع الرفيق “س ح” لأهميته.
إن الرفيق “س ح” هو أحد أهم عناصر هذا التكتل. وهو لا يخفي منذ مدة غير قصيرة انتماءه لأحد التيارات التروتسكية (الرفيق أصبح يعلن ذلك ويضع صورة تروتسكي في بروفايل صفحته بالشبكة الاجتماعية ـ فايسبوك) بما يعنيه من فكر وسياسة وتنظيم وتقييم للتجربة الاشتراكية للقرن العشرين. ومع ذلك فإن قيادة الحزب لم تتّخذ فيه إجراء طالما أنه يناقش وطالما أنه يعلن تمسّكه بالحزب وبخطه السياسي ويواظب على اجتماعات هيكله ونشاطه ويدفع مساهمته الشهرية بانتظام. ومن مزايا “س ح” أنه واضح تمام الوضوح في أفكاره وفيما يريد الوصول إليه. وقد عبّر عن ذلك في بعض النصوص أحدهما نشره في موقع “الحوار المتمدن” حول الحزب اليساري الكبير” والثاني وزّعه على عناصر الكتلة وعلى العديد من مناضلات الحزب ومناضليه وهو بعنوان “حول أزمة الحزب” وفيه طرح مفهومه للحزب وهو مفهوم، كما سنرى ذلك لاحقا، لا علاقة له بهوية حزبنا الفكرية والسياسية والتنظيمية. وبالطبع فقد تزامن كل هذا مع ظهور التكتل، وكأن “س ح” كان ينتظر هو أيضا الفرصة لينطلق في مسار جديد، مسار التكتل والانشقاق الذي لم تتوفّر له الظروف في السابق لكي يعبّر عن نفسه.
ففي هذا الاجتماع الذي حضره الأمين العام وعضو من اللجنة المركزية والذي جرى، بشهادة “س ح”، في “جوّ من الصراحة والودّية ودون تشنجات”، ذكر هذا الأخير أنه التقى الرفيق “ع م ب” في شهر جويلية 2017 أي أشهرا قبل تقديم استقالته (4 جانفي 2018). وفي هذا اللقاء لاحظ أن “ع م ب” لم يكن في حالة معنوية حسنة وأنه كان محبطا من جرّاء “أوضاع الحزب”. فعبّر له هو بدوره أنه لم يعد مقتنعا بحزب العمال وهو يعتبر أن هذا الحزب قد “انتهى” بمعنى أنه قد يبقى رقما في البلاد لكنه لن يكون قادرا على قلب موازين القوى التي توصله إلى السلطة، وفي أحسن الحالات سيبقى رقما في المشهد لا أكثر ولا أقل، على غرار الحزب الشيوعي اللبناني. ومن هذا المنطلق فإن حزب العمال إذا أراد أن يتطور لا بد له من السير نحو تكوين “الحزب اليساري الكبير” ويندمج مع الأحزاب الماركسية الأخرى”.
ويؤكّد “س ح” أن الرفيق “ع م ب” لم يعارضه في ما طرحه وأن هذا الطرح قد يكون شجّعه على الاستقالة من الهيئات القيادية للحزب ولكنه لما التقاه بعد الاستقالة لم يكن، في البداية، ينوي خوض معركة داخل الحزب إلا أنه و”ع ج م” دعياه إلى عدم “التسليم” بل إلى “خوض المعركة والضغط على الحزب”. ومن هنا بدأت الاتصالات ومحاولات التجميع فسلسلة اللقاءات المتواصلة و”العريضة” والتي يعتبرها الرفيق “س ح”، وفقا لمفهومه للتنظيم، أمرا عاديا، حتى وإن كان منافيا للنظام الداخلي للحزب، بل إنه لا يرى مانعا، مثلا، في أن يحضر عضو الحزب اجتماعات هيكله وفي نفس الوقت يحضر اجتماعات مع أعضاء آخرين من هياكل وجهات أخرى للنقاش والتنسيق في المواقف وتكوين “معارضة” داخل الحزب كما هو الحال اليوم، بعنوان “مواجهة أزمة الحزب وإيجاد الحلول لها”. وعندما يسأل الرفيق “س ح” إذا كانت له أفكار ويريد الدفاع عنها وتبليغها للمناضلين وكسبهم إليها، فلماذا لا يطرحها داخل أطر الحزب؟ وهل ثمة من أو ما يمنعه من القيام بذلك يتهرّب من الجواب بل إنه لما قيل له لماذا لم يحضر بنفسه اجتماع المجلس الوطني في شهر سبتمبر الماضي ليطرح أفكاره ويدافع عنها وخيّر أن يحضر رفيق آخر من هيكل فرنسا الجنوبية أجاب بأنه لا يريد أن يكون في مواجهة مع جمهور الحاضرين في المجلس (كذا).
إن ما قدمه الرفيق “س ح”، وهو ما تمّ الخوض فيه معه خلال اللقاء، يبيّن بشكل لا لبس فيه أن استقالة الرفيق “ع م ب” لم تكن مجرد ردة فعل ظرفية، بل كانت مندرجة في سياق تكتلي، انقسامي، واع حتى لا نقول مدروسا، وهو ما جعل منها بالفعل نقطة الانطلاق لتشكيل التكتل (انظر نص الرفيق “م ـ ز” بالعدد الثالث من النشرية ـ سبتمبر 2018). كما أنه يبين أن الأمر لا يتعلق بتصحيح أوضاع الحزب و”تخليصه من شوائب البيروقراطية”، بل بطرح بديل كامل للحزب، طرح تصفوي. ولكن “ع م ب” ومن معه من العناصر التي تمسك بـ”خيوط اللعبة” لا يعلنون ذلك صراحة أمام كل من يحاولون استقطابهم فهم يسعون إلى إيهامهم أولا بأن الحزب “تفكك وانتهى” وثانيا أن “القيادة البيروقراطية” و”المعزولة عن القواعد” هي المسؤولة عن ذلك وثالثا أنه ينبغي التكتل وتنظيم الصفوف ضدها والدعوة إلى مؤتمر استثنائي تعدّه لجنة مشتركة بدعوى إنقاذ الحزب، ورابعا وبما أن القيادة لم تستمع إلى مطالبنا علينا أن ننظّم صفوفنا ونبعث هياكلنا فالحزب حزبنا وليس حزبهم. كل ذلك دون أية إشارة إلى القضايا الأساسية المتعلّقة بهويّة هذا المشروع السّياسية والفكرية والتنظيمية والذي سيشكل الحلقة الأخيرة، وقتها وبعنوان “البحث جماعيا عن حلّ لأزمة الحزب” يقع رفع اللثام عن المشروع الجديد الذي لم يتمكّنوا من أن يقنعوا به لا عامة الحزب ولا أغلبيّته ولا حتى أقلية منه ذات وزن، وهو ما جعلهم كما أسلفنا ينفخون صفوفهم بعناصر لا تربطهم بالحزب أيّة صلة ويقدمونهم على أنهم من مناضليه وأنصاره.
وقد كان اجتماع المنستير الذي حاولنا إقناع “س ح” و”ع ج م” و”ع م ب” وغيرهم عدم حضوره أو تنظيمه والعودة إلى هياكلهم الحزبية وخوض “معركتهم” صلبها إن كانت لهم حقا أفكار ومقترحات لتصحيح أوضاع الحزب. لقد ترك جميعهم كلامنا جانبا ونظموا الاجتماع. وكالعادة لم يكن من بين الحاضرين وعددهم (38) سوى نفس ذلك العدد القليل من المنظمين الذين بادروا بالعملية منذ البداية إلى جانب حوالي الـ15 شابا جلّهم لا عضوية لهم في الحزب ولا في اتحاد الشباب. وقد أفضى هذا الاجتماع مجدّدا إلى نفس الأفكار السابقة التي صيغت في رسالة إلى الحزب بتاريخ 23 سبتمبر 2018 وهي التراجع عن كل الإجراءات التأديبية المتخذة أو المزمع اتخاذها في شأن عدد من الرفيقات والرفاق وتوسيع النقاش حول أزمة الحزب وسبل تجاوزها وتعميمه محليا وجهويا ووطنيا وتكوين لجنة متفق عليها (بالطبع بين الكتلة واللجنة المركزية. من عندنا) للإعداد لمؤتمر ديمقراطي وموحّد يساهم في جعل الحزب قادرا على تجاوز أزمته ولا يزيدها تعقيدا أو استفحالا”. وكما يلاحظ فإن هذه الرسالة احتوت تقريبا نفس مضمون “العريضة” ولكن بشكل مخفّف ومبطّن. تشريك “كل المناضلات والمناضلين” بمن فيهم كل من كانت له علاقة بالحزب أو باتحاد الشباب وانسحب أو استقال أو أطرد وتكوين “لجنة متّفق عليها” للإعداد لمؤتمر “ديمقراطي وموحّد” بما يعني أن الحزب أصبح فيه شقّان وقيادتان بما يفرض مؤتمرا استثنائيا يعدّ له الشقّان لإعادة توحيد الحزب. وكالعادة تمّ حصر أزمة الحزب في “البيروقراطية” وكالعادة أيضا لا حديث عن فكر أو سياسة أو تكتيك.
وإثر هذا الاجتماع ازدادت الصورة اتّضاحا خاصة بعد أن اطلع رموز التكتل على نسخة من النشرية الداخلية التي احتوت ردودا على نصي “س ح” حول “أزمة الحزب” و”ع ج م” حول “مبادرة لإعادة هيكلة الحزب” وبعد أن علموا أيضا بأن اللجنة المركزية للحزب بصدد اتخاذ إجراءات تأديبية ضد عدد من المنشقين طردا أو تجميدا. فتكثف الهجوم على قيادة الحزب مع التركيز كالعادة، بأساليب سخيفة وسافلة أحيانا، على الرفيق “ج ه” الذي نشر في النشرية ردّا على نص “ع ج م” الذي حبّر بدوره ردّا موغلا في الذاتية والإسفاف ولكنه في نفس الوقت يكشف مرّة أخرى نظرته الليبرالية للتنظيم التي تتنافى مع أبسط مقومات الحزب الثوري المناضل الذي يريد حقا تحقيق تغيير جذري وعميق في المجتمع لفائدة العمال والكادحين. (انظر في هذا الصدد رد الرفيق “ع جل” على ما كتب “ع ج م”). وفي هذا السياق وأمام شعور “الجماعة” بتصميم قيادة الحزب على التصدي للانشقاق وفضح أسسه الفكرية والسياسية واتخاذ الإجراءات التنظيمية المناسبة لوقف الاستهتار بقوانين الحزب، تسارعت خطواتهم الانشقاقية. وهو ما كشفته مواقفهم الأخيرة الداعية إلى بعث “لجنة (قيادة) وطنية ولجان جهوية ومحلية” وعقد ندوة شبابية والتحضير لعقد ندوة وطنية الخ… وهو ما يؤكّد أن الأمر يتجاوز، على الأقل بالنسبة إلى مهندسي التكتل، مجرد “الاحتجاج على البيروقراطية” أو المطالبة، كما تدّعي ذلك الرفيقة “ل ك” بمجرد “نقاش عام” داخل الحزب وهي التي رفضت حتى مجرد كتابة فقرة واحدة لتبرير انسحابها من الحزب لأنه وقع مجرّد لفت نظرها إلى كثرة الغيابات عن اجتماعات اللجنة المركزية.
حزب “تبقرط” أم انحراف عن خط الحزب؟
نصل هنا إلى بعض القضايا الأساسية التي توضع كواجهة لتبرير الأعمال التكتلية والانشقاقية للجماعة، وأولها مسألة الديمقراطية داخل حزب العمال. لقد جعلوا من “النضال ضد البيروقراطية” داخل الحزب شعارا، وهم يقدمون أنفسهم على أنهم “المدافعون عن الديمقراطية” و”الذائدون عنها” و”الراغبون في تصحيح أوضاع الحزب”. وهنا تكمن المغالطة. فمن يسمع هذه الإعلانات ويقرأ التصريحات يذهب في اعتقاده أن الكتلة متمسكة بمبادئ الحزب التنظيمية وبنظامه الداخلي وقانونه الأساسي وهي لا تعارض إلا “الانحرافات البيروقراطية”. وإنّ نصّي “ع ج م” و”س ح” يبيّنان في الحقيقة، كما المعطيات والوقائع والممارسات التي تحدّثنا عنها، والتي تبقى أبلغ حتى من النصوص والتي ينبغي أن نتحاسب على أساسها قبل أن نتحاسب على المواقف النظرية، أن الخلاف غير ذلك، بل أعمق من ذلك.
هل أن حزب العمال حزب ديمقراطي البارحة كما اليوم، مع القيادات السابقة ومع القيادة الحالية؟ إن جوابنا واضح لا لبس فيه: إن حزبنا حزب ديمقراطي ولا نغالي في شيء إذا قلنا إنه أكثر الأحزاب ديمقراطيّة في تونس بما في ذلك زمن السرية أيام الدكتاتورية. فما هي أسس ديمقراطية حزبنا التي احترمها وما يزال إلى حد الساعة؟ إن هذه الأسس، بشكل مركّز ومكثّف، هي التالية:
أولا: حق كافة المناضلات والمناضلين في المشاركة في النقاشات وفي تحديد المواقف السياسية العامة وضبط التوجهات والمخططات الرئيسية واتخاذ القرارات داخل الحزب وكذلك المشاركة في النشاطات. ولم تمنع ظروف السرية حزب العمال من الحفاظ على هذه القاعدة. وهو ما ساعد على الحفاظ على وحدة الحزب بما في ذلك عند حدوث خلافات حادة، وحتى انشقاق كما حصل مع “م ك” في ظرف من أخطر ما عرفت البلاد في مطلع تسعينات القرن الماضي (الهجوم الكاسح للدكتاتورية النوفمبريّة على الحريات) والحزب (حملة قمعية) والعالم (سقوط الاتحاد السوفياتي والهجوم الكاسح على الشيوعية وعلى كل ما هو ثوري وتقدمي). ويكفي هنا التذكير بمحطات هامة في تاريخ الحزب: تأسيس الحزب، ضبط برنامج الحريات السياسية (1987)، الموقف من انقلاب 7 نوفمبر 1987، الموقف من انتخابات 1989 (التي قاطعها الحزب)، رفع شعار إسقاط الدكتاتورية والدعوة إلى انتخاب مجلس تأسيسي في مطلع تسعينات القرن الماضي، هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات (2005)، يضاف إلى كل ذلك مختلف القضايا التي أثيرت بعد الثورة ومن بينها تغيير اسم الحزب. وفي كلمة واحدة ما من قضية جوهرية نظرية أو استراتيجية أو تكتيكية إلا ونوقشت وحُسمت بشكل ديمقراطي أي بفتح نقاش عام حولها وبتعميم وجهات النظر المتباينة كلما كان هناك خلاف داخل القيادة أو داخل أطر الحزب حولها. ولا بدّ من الإشارة في هذا السياق أنه عندما ظهرت خلافات داخل اللجنة المركزية وتبلورت بشكل واضح فإنها لم تتردّد في طرحها على كافة الحزب للنقاش والحسم كما حصل ذلك في انتخابات 1989 حين دعا “م ك” وعدد من الرفاق وقتها للمشاركة في تلك الانتخابات وكما حصل أيضا عند مناقشة تكتيك الحزب في عام 1992 حين طرحت مسألة المجلس التأسيسي. وقد عكست مجلة الشيوعي هذه النقاشات.
ثانيا: القيادة الجماعية، وهذه نقطة أخرى من نقاط قوة حزب العمال. فمنذ التأسيس ظل العمل في القيادة جماعيا. وفي هذا السياق اختار المؤسّسون، انطلاقا من تقييم لتجارب شيوعية سابقة وأخذا بعين الاعتبار لتجربتنا الخاصة، أن نكتفي بتعيين ناطق رسمي للحزب، لا أمينا عاما، قد يسيطر عليه. وحتى بعد الثورة وتشريع وجود الحزب، وخلق خطة أمين عام للحزب، فقد جاء النظام الداخلي مُغلّبا للقيادة الجماعية إذ لم يمنح الأمين العام صلاحيات خاصة تسمح له بالانفراد بالقرار مثل تعيين أعضاء اللجنة التنفيذية أو أعضاء في أي مستوى آخر كما هو الحال في معظم الأحزاب التونسية على غرار حزبي حركة النهضة حيث يعين الغنوشي مثلا أعضاء المكتب التنفيذي وثلث أعضاء مجلس الشورى ونداء تونس، حيث كان السبسي هو الذي يعين ويقيل متى شاء وكيفما شاء إلى غير ذلك من الأحزاب، حيث يتصرف الرئيس أو الأمين العام كحاكم فردي ذي صلاحيات واسعة. وهذا المفهوم الديمقراطي ينسحب على بقية أعضاء القيادة فلا أحد منهم ينفرد بصلاحيات خاصة تجعله فوق الهياكل بل لكل قيادي مهمة ومسؤولية، عدا ما تفرضه أحيانا القدرات والتفرغ، كما ينسحب على كامل هياكل الحزب وهيئاته الأخرى، فالمسؤول هو أحد أعضاء الهيكل لا يتمتّع فيه بصلاحيات تجعله فوق الآخرين أو تعطيه امتيازات. وعلى هذا الأساس فإن كل القرارات تتخذ بصورة جماعية، أي بالأغلبية والأقلية وفي بعض الحالات الهامة كطرد عضو قيادي مثلا فإن القرار لا يتخذ بالأغلبية البسيطة بل بأغلبية الثلثين الخ…
أما من ناحية علاقة القيادة بالهياكل الوسطى والقاعدية للحزب فهي في الأساس منسجمة مع النظام الداخلي للحزب. فالمجلس الوطني ينعقد في آجاله. واللجان الجهوية والمحلية تجتمع وتناقش وتخطط لنشاطها وتتلقى مراسلات دورية من اللجنة التنفيذية التي يتولى أعضاؤها مثلهم مثل جُلِّ أعضاء اللجنة المركزية، الإشراف على الهياكل في كافة المستويات. وفي الحقيقة فإن من يقرأ ما كتبه “س ح” أو “ع ج م” عن عزلة القيادة عن القاعدة لا يمكنه إلا أن يسخر من هذه المزاعم التي لا تخرج عن سياق التشويه المقصود به تقديم القيادة على أنها بيروقراطية، متسلطة، منعزلة لتسهل المطالبة بالالتفاف عليها وعدم الاعتراف بها. إن اللجنة المركزية منتخبة من المؤتمر، هذا من حيث الشكل. أما في علاقاتها داخل الحزب فأعضاؤها يعيشون مع باقي مناضلات الحزب ومناضليه، يناقشون وينشطون معهم وهم عرضة للنقد مثلهم مثل بقية أعضاء الهيكل. ونحن نتحدّى أيا كان أن يذكر مثالا واحدا لمناضل/ة تعرض/ت لإجراء تأديبي أو طرد لأنه/ها انتقد قياديا أو حتّى ارتكب في حقه تجاوزات. فقد حرصت القيادة دائما على ضرب فكرة أن القيادي “معصوم من الخطأ” وأن “كلامه شافي” و”قراراته لا تردّ”. إن النقد، وخاصة نقد القيادات، هو أحد أبرز مظاهر الديمقراطية في حزب العمال منذ نشأته ويكاد لا يخلو تقرير لأي هيكل من هياكل الحزب في أي مستوى كان من نقد الذات الذي يصل أحيانا إلى حد جلد الذات والابتعاد عن التنسيب.
لكن هل يعني هذا أن عملنا لا تشوبه شائبة وأننا لا نعاني من الأمراض البيروقراطية والليبرالية على حدّ سواء؟ إن من يدعي ذلك مخطئ. إن عملنا ما يزال متخلّفا في أكثر من مستوى بما في ذلك في المجال الديمقراطي (تداخل الصلاحيات بين الهياكل، ضعف المشاركة في النقاشات وتداول المعلومة داخل الحزب والهياكل، ضعف ممارسة النقد والنقد الذاتي والمحاسبة في كافة المستويات الخ…). وتكفي هنا العودة إلى تقارير اللجنة المركزية ومراسلات اللجنة التنفيذية ومساهمات المناضلات والمناضلين لإدراك أن هذه المسألة ليست غائبة عن حزبنا عند بل هي مطروحة بطبيعتها قبل حتى أن تثيرها عناصر التكتل، ولا بد من معالجتها بعمق وإيجاد السبل الكفيلة بتجاوز نقائصنا وأخطائنا وانحرافاتنا وعلينا أن لا نسقط في موقف دفاعي أو تبريري خوفا من أن توظف العناصر المتكتلة تلك الأخطاء والنقائص والانحرافات لتبرير مواقفها التصفوية.
ولا بد هنا من إثارة مسألة ذات أهمية وهي مسألة الانتخاب داخل الحزب. إنّ الانتخاب هو أحد أهم ركائز الديمقراطية الحزبية. ولكن حزبنا مرّ بظروف صعبة حالت دون تكريس هذا المبدأ بشكل منهجي وصارم وشامل. فقد نشأ الحزب وعاش طيلة أكثر من ربع قرن في السرية. لقد كان البوليس السياسي يلاحق المناضلات والمناضلين باستمرار ويحاول الاندساس في هياكل الحزب لكشفهم واعتقالهم وتعذيبهم وسجنهم وهو ما فرض نمط عمل استثنائي: اعتماد التّعيين في الإشراف والانتداب للقيادة بعد التشاور في حلقات ضيقة، وبالتالي اعتماد مبدأ الثقة عوض الانتخاب، فصل الهياكل بعضها عن بعض، استعمال الأسماء المستعارة، استعمال الستائر وحتى طرق لتغيير الأصوات في الاجتماعات كي لا يتعرّف المناضلون بعضهم على بعض الخ… لقد كانت هذه هي الطريقة الوحيدة للإفلات من قبضة البوليس ومواصلة النشاط. ومع ذلك فقد تعرّض المئات من المناضلين للاعتقال. ولكن هذه الظروف لم تمنع قيادات الحزب من البحث الدائم عن الصّيغ التي تخفّف من أسلوب التعيين وذلك بممارسة التشاور حيث يوجد رفاق ورفاق يعرفون بعضهم البعض، إخضاع الرفاق والرفيقات المشرفين/ات للتقييم الدائم وتغييرهم عند الاقتضاء الخ…
أما بعد الثورة وخروجنا للعلنيّة فإننا في الواقع لم نحسن التصرف وارتكبنا أخطاء كثيرة في التنظيم. فقد فتح الحزب، بحثا عن الكثرة، للعديد من العناصر البورجوازية الصغيرة التي جرفها تيار الثورة والباحثة عن موقع أو عن مصلحة. وهو ما بثّ في الحزب أفكارا وسلوكات وممارسات لا علاقة لها بهويته من حيث الالتزام والانضباط والتضحية والأداء والأخلاق الخ… ممّا خلق ارتباكا كبيرا داخل الحزب اضطرّه إلى مراجعة حساباته وحتى الانكفاء على نفسه، كلّ هذا مضاف إليه أساليب عملنا المتخلّفة أحيانا، وانغماسنا في الحركية وضعف المتابعة إن لم نقل انعدامها أحيانا، عرقل تطور حزبنا وأخّر تنفيذ ما تقرّر أكثر من مرة، وهو ممارسة الانتخاب في كافة مستويات الحزب، ولم ينفّذ هذا إلا في مستوى اللجنة المركزية وفي مستوى انتخاب المسؤولين المحلّيين. ولكن عقد المؤتمرات الجهوية والمحلية لم يدخل إلى الآن حيّز التنفيذ بل إنه سيقع البدء فيه هذه الأيام. ونحن مصرّون على تطوير حزبنا من هذه الناحية.
ورغم كل هذه النقائص فإن حزبنا من أفضل الأحزاب، إن لم نقل أفضلها، من الناحية الديمقراطية ولا يزايد علينا أحدا، لأن الانتخاب ما هو إلا وجه من وجوه الديمقراطية وليس كلّها. وهنا لا بد من وضع الإصبع على نقطة في غاية من الأهمية تتعلّق بالديمقراطية. فهذه الأخيرة تتحوّل إلى مسألة شكليّة فارغة وإلى مزايدة إن لم ترتبط بعنصر الوعي. إن المناضل/ة الواعي/ة المتمكّن نظريا والواضح سياسيا والقادر عمليا هو الأقدر على إعطاء الديمقراطية، بما في ذلك في بعدها الانتخابي، مضمونا ثوريا وهو الأقدر على تحويلها إلى قيم ومعايير وتقاليد بل إلى نمط حياة ثورية. وبالفعل فقد كان الوعي، بحدوده ونقائصه، في زمن السرّية، هو صمّام الأمان كي لا تنحرف القيادة أو أي هيكل أو أي فرد أو مجموعة بالانحراف بالحزب عن خطّه الثوري فحافظ عليه رغم كل الصعوبات والضغوط والانكسارات الرّهيبة. أما التبعيّة فيُغَذيها تخلف الوعي الذي يفتح الباب أمام سيطرة النوازع الذاتية والمحاباة بل وحتى شراء الذّمم. لذلك فإن الانتخاب ينبغي أن يقترن دائما بمجهود جبّار في مجال التكوين والتثقيف المرتبطين بالممارسة.
ولكن إذا كان الأمر كذلك أي إذا كانت القيادة، وعموم المناضلين/ات، يدركون ما يعانيه الحزب من نقائص وهنات في حياته الداخلية بما في ذلك في مجال الديمقراطية، فلماذا تصرّ الكتلة على موقفها بل يوغل بعض عناصرها، ونقصد هنا الرفيق “س ح” في التجنّي على اللجنة المركزية والادّعاء بأنها تخاف الديمقراطية والانتخاب وتعتبرهما خطرا على الحزب؟ إن الجواب واضح. فلئن كانت بعض العناصر منساقة مع التكتل انطلاقا من مواقف جزئية، ومن مماحكات شخصية مع هذا الرفيق أو ذاك ووجدت في شعار “مقاومة البيروقراطية” إطارا للاحتجاج أو لتصفية حساب، فإن البعض الآخر له منطلقات أخرى، ذلك أن “ع ج م” لا يتحدّث عن “انحرافات أو أخطاء بيروقراطية” بل عن “بيروقراطية ممنهجة”. وهو نفس المنحى الذي يذهب فيه “س ح” حتى لو اقتضى منه ذلك قلب الحقائق وقولبة الواقع ليوجد مشروعية لمواقفه الخاطئة. وهنا مربط الفرس لأن الخلاف أعمق وأشمل من أن يتعلق بمسائل جزئية تخصّ “فهم المركزية الديمقراطية” أو تقييم أخطاء تخصّ تطبيقاتها أو حتى خروج الحزب عن خطه التنظيمي العام ومحاولة إعادته على السكّة الصحيحة. إن الخلاف له علاقة في نهاية الأمر بمفهوم حزب الطبقة العاملة ذاته. وهو ما سعى إلى تبيانه عدد من الرفاق في نشرية الحزب ردّا على نصّي “ع ج م” و”س ح” ولكن لا بدّ لنا من إبداء بعض الملاحظات الجوهرية.
إن ما يتردد في بعض كتابات الرفاق، هو أن النمط الثوري “التقليدي” للحزب، أي اللينيني، قد انتهى لأن ذلك النمط نشأ في ظروف روسيا الخاصة وهو “لا يستجيب إلا إلى خصوصيات الحركة الثورية في روسيا وإلى تطور الحزب البلشفي وبصفة خاصة قبل الثورة وخلال الحرب الأهلية… لا يستجيب إلا لظروف معينة أي الظروف السياسية لنشأته في روسيا القيصرية…” (نص الرفيق “س ح” حول أزمة الحزب). ويضيف “س ح” أن التطورات الحاصلة منذ ذلك الوقت إلى الآن بما فيها فشل التجربة الاشتراكية السوفياتية واندثارها إنما تؤكد” بشكل مطلق عدم صلاحية النمط اللينيني للحزب الثوري، العمالي، الشيوعي… وبعبارة أخرى فالمراد بهذا الكلام، هو نفي الطابع النظري العام للنمط اللينيني للحزب الذي لم يكن في الواقع ابن التجربة الروسية فحسب بل كان أيضا تطويرا خلّاقا من لينين للماركسية في مجال تنظيم حزب الطبقة العاملة، انطلاقا من الدروس المستقاة من كامل التجارب العمالية والاشتراكية السابقة (ألمانيا، فرنسا، إنجلترا الخ…).
إن هذه المسألة لا يمكن فهم أبعادها بشكل دقيق إلا إذا وقفنا عند الأسس التي انبنى عليها الحزب الثوري من النمط اللينيني لكي ندرك إن كانت حقا ولّى زمانها ولم تعد الطبقة العاملة اليوم في حاجة إليها في معركتها ضد البورجوازية؟ وبالضبط فهذا ما لا يخوض فيه الجماعة بل لا يريدون الخوض فيه بشكل واضح وصريح. إن “س ح” يعمد إلى المراوغة لطمس الموضوع وعدم الخوض فيه، باختزال التنظيم في جانبه الشكلي أو في الأشكال التي يتخذها، بما يعني أن التنظيم “مسألة تقنية” في نهاية الأمر تتغير بتغيّر الظروف والمطروح على كل حزب أن يبحث في ظروفه عن الأشكال التنظيمية التي تستجيب لواقعه الخ…(ص12). وما من شك أنّ في كل هذا خلطا متعمّدا، بين الأسس الفكرية والنظرية للتنظيم وبين الأشكال التي تتكرّس بها هذه الأسس في الظّروف الملموسة، زمانا ومكانا ممّا يجعلها قابلة للتّغيير على الدوام.
إن التنظيم الثوري ومن باب أولى وأحرى الحزب اللينيني، ليس مجرد “أشكال”، أو “قوالب”، ولكنه الأداة التي يتمّ عبرها الربط بين النظرية والممارسة والتحقيق الفعلي لأهداف الثورة عن طريق أعضاء مقتنعين، ملتزمين، مصمّمين، موحّدين، منضبطين، ناشطين، وعليه فإن الحزب ينبني على أسس فكرية ونظرية تكسبه هويّته الخاصة. إن أول تلك الأسس هو الطابع الطليعي للحزب الذي يعني من ضمن ما يعني أن تكون للحزب رؤية فلسفية للعالم، نظرية ثورية تستوعب الواقع، برنامج سياسي للتغيير، وثانيهما كادر طليعي، مستوعب الخط وقادر على الدفاع عنه وعلى تكريسه وعلى المبادرة، أي كادر ملتزم، ومنضبط وعملي، وثالثها تنظيم مرتبط بالطبقة العاملة والكادحين عبر خلاياه وتنظيماته القطاعية والمتخصصة، تنظيم موحّد وفعّال، مبني على مبدأ المركزية الديمقراطية التي تتحقق في ظلّها حرية النقاش ووحدة الممارسة ونجاعة العمل.
إن الحزب ليس الطبقة العاملة بل هو مبدئيا طليعتها في مستوى الوعي وفي مستوى الممارسة التي ستتحوّل إلى ممارسة منظمة تعكس وعيا جديدا هو الوعي البروليتاري الثوري. وطليعيّة الوعي تتجلّى من خلال الانتهاء إلى قناعة أن نمط الإنتاج الرأسمالي الاستغلالي القائم يجب تجاوزه نوعيا من خلال الثورة الاجتماعية التي تقلب رأسا على عقب نمط الإنتاج وعلاقاته نحو صانعي الثروة والمحرومين منها. إن هذا الوعي ليس حسّا طبقيا اقتصادويا، بل جزءا من رؤية جديدة للعالم وللإنسان والمجتمع، رؤية ترى التاريخ في تطوّره وتغيّره، وهذه الرؤية تجد طريقها إلى التقدم كمشروع بديل من خلال تنظيمٍ: هو الحزب. وهذا التنظيم حتى يكون قادرا على إنجاز مهماته على الوجه المطلوب يجب أن يحوز جملة من الصفات والمواصفات (ليس التقنية) والشروط ذات الطابع الفكري (المرجعية) والسياسي (البرنامج المفصّل) والعملي (التنظيم المنغرس، الفاعل والنشيط).
والحزب يضمّ في صفوفه عناصر الطليعة، وليس كل عناصر الطبقة، فهؤلاء (أي مجمل الطبقة) يقودهم ويخلق لهم الأطر المرنة التي تدفعهم إلى الانخراط في النضال. أما عناصر الطليعة الذين يفرزهم النضال، فبحكم وعيهم المتقدّم يتولّون هم بذاتهم مهمّات قيادة الطبقة على مختلف واجهات النضال. وطليعيّة هؤلاء لا تجعل منهم لا أنبياء ولا قادة موهوبين متعالين على الطبقة، بل جزءا منها يعيشون صلبها كما تعيش السمكة في الماء، ويتعلّمون منها ويؤثرون فيها ويتأثرون بها. ومن البديهي، أن تبقى هذه العناصر الطليعية، في مجتمع رأسمالي، استغلالي. متوحّش، قليلة العدد، بل، قطرة من محيط، حسب عبارة لينين. لكن هذه العناصر تستمدّ قوتها من الجماهير التي تلتف وتنتظم حولها.
إن حزبنا، بوصفه حزب الطبقة العاملة، هو حزب ذو مهمة تاريخية، صعبة ومعقّدة. صحيح أنه يتوجّه إلى السواد الأعظم من المجتمع، لكنه السواد المحروم والمضطهد والمفقّر والذي يعيش تحت كلاكل الثروة والسلطة الممسوكة حصرا من قبل الرأسماليين. إن هذا المضمون الطبقي لمهماتنا ولأشكال تنظمنا، وفضلا عن كونه يعطي نبلا للرسالة التاريخية للطبقة العاملة التي لن تحرّر ذاتها فقط، بل ستحرّر كل المجتمع من الاستغلال والاغتراب، فإنّه أيضا يتطلّب صرامة قصوى في التعاطي مع شروط نضال الطبقة العاملة. وهذا بقطع النظر عمّا إذا كنا حققنا هذا الشرط أم أننا ما نزال في طريق تحقيقه وهو الأصحّ. ذلك هو الهدف وعلينا السير نحوه.
وهنا نصل إلى إحدى المسائل المحورية وهي طريقة تنظيم الحزب الثوري أو المبدأ العام الذي يقوم عليه تنظيم الحزب الثوري وهو المركزية الديمقراطية المستهدفة دائما من القوى الانتهازية، البورجوازية والبورجوازية الصغيرة التي إمّا تهاجمها بشكل صريح وتعتبرها “مركزية بيروقراطية” أو تفرغها من محتواها وتقدّمها على أنها مجرد آلية تقنية، محايدة، صالحة لكل الأحزاب مهما كان انتماؤها الطبقي، وليست بالضرورة خاصة من خواص التنظيم الثوري كي تتلاعب بها وتفصّلها على المقاس الذي تريد (انظر نص الرفيق “س ح” حول أزمة الحزب”). إن المركزية الديمقراطية ليست مجرد “شكل تقني”، بل هي نظام تتحقق من خلاله، بإرادة جماعية، مبادئ وقيم وأهداف ثورية. فبعد تحديد الخط الفكري والسياسي والبرنامج والاستراتيجية والتكتيك تأتي مسألة بأي تنظيم تتحقّق كل هذه الأهداف؟ وهنا تأتي المركزية الديمقراطية كمبدأ عام، (نعم كمبدأ عام) يقوم عليه التنظيم لعقلنة عمل الحزب وتخليصه من تسلط أو طغيان “القائد الملهم” وتشرذم الإرادات الفردية أو الخاصة.
إن المركزية الديمقراطية كمبدأ عام يقوم عليه التنظيم الثوري، بل قام عليه تحديدا تنظيم كل الأحزاب الثورية التي قادت ثورات العصر مؤكدة صحته في الممارسة الملموسة لا في النظرية فحسب، إنما هي ضرورية لإيجاد حلول لجملة من التناقضات التي يواجهها التنظيم الثوري (ومن ثمة الطبقة العاملة والكادحون …) في حياته وفي ممارسته وهي التالية: كيف يضمن لكافة الأعضاء حقوقهم وفي نفس الوقت يلزمهم بواجباتهم (الحقوق/الواجبات)؟ وكيف يضمن لكافة الأعضاء حرية النقاش من جهة والانضباط وعدم إهدار الوقت في النقاشات التي لا تنتهي من جهة ثانية (الحرية/الانضباط)؟ وكيف يضمن الحق في الاختلاف في وجهات النظر (الديمقراطية) من جهة ويحقّق وحدة الإرادة والممارسة من جهة أخرى (الاختلاف أو الديمقراطية/وحدة الممارسة)؟
تلك هي التناقضات التي يطرح على المركزية الديمقراطية حلّها كمبدأ ينتظم على أساسه الحزب الثوري الذي تجمع أعضاؤه مصلحة طبقية مشتركة، جماعية، تحدد توجهاتهم وأعمالهم، وليس كل الأحزاب. إن الأحزاب البورجوازية والرجعية قائمة على قيم أخرى غير قيم الديمقراطية وهي قيم الفرد، المال، تكتل المصالح، ميزان قوى الأجهزة الخ… وبشكل عام فإن صاحب القرار المعلن أو الخفي في هذه الأحزاب هو من يملك المال والثروة فهو الذي يحدد السياسة ويملي إن اقتضى الأمر القرارات والتعيينات. وما تبقى فإنما هو شكليات للاستهلاك أو بالأحرى لإلباس المصالح الفردية أو الفئوية الضيقة لبوسا ديمقراطيا تماما كما تصبغ البورجوازية مصالحها الخاصة بصبغة “الوطنية” حتى تفرضها على العمال والكادحين الخ…
لقد بيّنا أعلاه، عند الحديث عن حزبنا، مضمون الجانب الديمقراطي من المركزية الديمقراطية وحدّدناه تقريبا في أربع نقاط وهي: أولا: مساهمة الجميع، مساهمة حرة، في مناقشة السياسات والتوجّهات والقرارات الرئيسية . ثانيا: جماعية القيادة وحق الجميع في الترشح لها وفي انتخاب أعضائها. ثالثا: الحق في نقد قيادات الحزب في كافة المستويات المركزية والجهوية والمحلية والقطاعية ومحاسبتها وسحب الثقة منها عند الاقتضاء. رابعا: تحويل الرابطة الحزبية إلى رابطة رفاقية تعلو على الروابط العائلية والعشائرية والذاتية (الصداقة الخ…) وممارسة النقد والنقد الذاتي.
ونأتي الآن إلى الجانب الثاني المتعلق بالمركزية وهو يشمل ثلاث نقاط أساسية. وتتمثل الأولى في خضوع الأقلية للأغلبية للحفاظ على وحدة الممارسة داخل الحزب وخاصة على قدرته على الحركة. إن الحزب ليس ناديا للنقاش المفتوح، بل هو تنظيم للعمل أيضا وبالتالي فالنقاش ينبغي أن يسقّف بوقت، فبعد أن تتحدّد المواقف وتتبادل الحجج يقع المرور إلى اتخاذ الموقف لأن الأوضاع لا تنتظر واتخاذ الموقف يتحدّد ديمقراطيا بالأغلبية والأقلية وحالما يحسم الأمر يقع الانتقال إلى التنفيذ والالتزام الصارم بالموقف الأغلبي في انتظار التقييم في ضوء الممارسة والتجربة.
أما النقطة الثانية فتتعلّق بخضوع المراتب القيادية الدنيا للمراتب القيادية العليا. إن القيادة المركزية، هي المسؤول الأول عن الحزب وهي منتخبة لتقود وليست مجرّد هيئة تنسيق لتنظيم النقاشات وإيصال الوثائق والإعلام بما يجري في الحزب، بل هي تناقش وتقرّر وفق التوجّهات المضبوطة جماعيا ومن واجب الهياكل القيادية الدنيا أن تنضبط لقراراتها دون أن يعني ذلك الانضباط الأعمى، فالنقاش يبقى دائما حقّا من حقوق العضو، دون أن يعني ذلك التملّص من تنفيذ القرارات. وأخيرا نصل إلى النقطة الثالثة وهي مسؤولية القيادة المطلقة عن تنفيذ القرارات المتّخذة ديمقراطيا. فحين يبدأ التنفيذ ينتهي التردّد ولا يمكن التملص من التنفيذ بدعوى “دعني أناقش وأقتنع شخصيا قبل أن أنفّذ” فذلك يعني انتهاء التنظيم والانضباط والنجاعة.
هذه هي المعاني التي تتكوّن منها المركزية الديمقراطية. فلا الديمقراطية هدف في حدّ ذاتها ولا المركزية هدف في حد ذاتها هي أيضا، بل هما، نظام لتوفير الشرط السياسي العملي لتحقيق الثورة. والسؤال المطروح اليوم بكل جدّية على هامش الخلاف مع الكتلة هو التالي: هل أن هذه الأسس انتهى وقتها؟ وهل أن من باب “السلفية” التمسّك بها؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال إلا بالإجابة عن سؤال آخر وهو التالي: هل تغيّر العصر؟ وهل تغيرت البورجوازية؟ وهل أنها “لانت” وأصبحت “ودودة” مع الطبقة العاملة وقابلة بالتخلي عن مصالحها، وهو ما يجعل الطبقة العاملة والكادحين في غير حاجة إلى حزب من الطراز الثوري اللينيني؟ الواقع أن البورجوازية ازدادت شراسة وعنجهية وقدرة على تخريب وعي الطبقة العاملة والكادحين وطوّرت أساليب قمعها واختراقها وتفكيكها لهم وللقوى الثورية.
إن بورجوازية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين على رجعيّتها تبدو “رخوة” مقارنة بالبورجوازية الاحتكارية الحالية وما لها من إمكانيات أيديولوجية وسياسية ومالية وأمنية وعسكرية رهيبة لمقاومة الطبقة العاملة والشعوب. وإلى ذلك كله فمن الغباء عدم ملاحظة التطور الدائم للنزعة الفاشيّة لدى البورجوازية في مختلف أنحاء العالم وخاصة في الدول الرأسمالية الكبرى بسبب الأزمة التي تنخرها والتي تدفع البورجوازية الاحتكارية إلى تحميل تبعاتها للعمال والشعوب بكل الوسائل بما في ذلك القمع الوحشي والعدوان والحروب المدمّرة. وعليه فإن الطبقة العاملة محتاجة أكثر من أي وقت مضى إلى التنظيم من الطراز اللينيني حتى تنتصر على البورجوازية. وبالطبع فالمطلوب ليس نسخ هذا التنظيم بشكل ميكانيكي وإنما الاسترشاد بخواصّه الجوهرية وتنزيلها في الواقع وإعطائها الشكل أو الأشكال المناسبة للظروف الراهنة بمعطياتها المختلفة.
إن “س ح” إذ ينفي الطابع النظري العام لأسس التنظيم الثوري اللينيني بعنوان تغير الظروف والخصوصيات والتجديد ورفض السلفية والجمود إنما هو يرمي إلى نسف ما اكتسبته الطبقة العاملة من تجربة أكثر من قرن عوض الحفاظ عليه وتطويره. وقد تناسى “س ح” أنه لا يوجد لقتل الماركسية سبيل واحد أي ما سمّاه السلفية والجمود ولكن توجد طريق أخرى أيضا وهي التحريفية، نعم التحريفية، التي تفرغ الماركسية من مضمونها الثوري، وتحوّلها إلى قشرة بلا روح، إلى نظرية، ميّتة، مبتذلة، بلا مخالب، وهو ما يسقط فيه هو بالذات حتى وإن حاول تغليف كلامه بالماركسية والثورية وما إلى ذلك من الجمل المعسولة، والأفظع من كل ذلك ما يلجأ إليه “س ح” من تسطيح وابتذال، حريّ برجالات البروباقندا البورجوازية المعادية للشيوعية، حين ينفي بجرّة قلم، من البرج العاجي للمثقف البورجوازي الصغير المعزول عن الحياة الواقعية، كل التجربة السوفييتيّة ويحكم عليها بالفشل مدّعيا أن المبادئ اللينينية هي التي أدّت إلى تحول الحزب البلشفي إلى أكبر حزب بيروقراطي في التاريخ ليبرّر الدعوة إلى التخلّي عنها وتصفيتها.
إن الرفيق “س ح” الذي يكثر الحديث، بما في ذلك في نصّه الحالي “حول أزمة االحزب” عن الجدلية وعن تناقضها مع الميكانيكية والتقليد الشكلي (mimitisme)، ليُبرّرَ الدعوة إلى التخلّي عن المبادئ اللينينية في التنظيم، متظاهرا بالثورية والتجديد، نراه يتناسى كل هذا الحديث “الفلسفي” الجميل، حين يتطرّق إلى تقييم التجربة السوفياتية بقيادة ستالين خاصة، لأن المواقف الجاهزة، التي تروّج لها أبواق البورجوازية والتيارات الانتهازية البورجوازية الصغيرة، من هذه التجربة تُعْمِيه فيصبح لا ينظر إلى التاريخ في جدليته، في التواءاته وتعرّجاته، في تقدمه وتراجعه… إنه ينسى أو يتناسى أننا لسنا في عالم ميكانيكي، محدّد ومُسطّر مسبقا بل نحن في مجال اجتماعي، إنساني، تاريخي، في مجال صراع طبقي يحكمه ألف عامل وعامل، بل تحكمه موازين قوى متغيرة نتيجة تلك العوامل، وهو ما يجعل من إمكانية الارتداد في الطريق أمرا ممكنا.
إن الثورة سيرورة لا بدّ من رعايتها وتطويرها وتحصينه باستمرار وإلا فإن الرجوع إلى الوراء، وإن حصل ذلك فلا يعني أن الطريق المتخذة من البداية خاطئة وأن الأسس التي قامت عليها موصلة في كل الحالات إلى “الكارثة”. لقد تناسى الرفيق “س ح” أن تلك المبادئ التنظيمية اللينينية المرتبطة بخط سياسي ثوري وبفكر ثوري هي التي قادت على الأقل وبما لا يدع أي مجال للشك، باعتبار التجربة الحيّة الملموسة، لا لغو المثقفين البورجوازيين الصغار وتنظيراتهم الفارغة، إلى انتصار ثورة أكتوبر العظمى لعام 1917 التي قلبت فعلا وجه العالم وفتحت مرحلة تاريخية جديدة بالنسبة إلى المضطهدين عمّالا وشعوبا. كما أن تلك المبادئ هي التي ساهمت في خلاص روسيا وتحوّلها إلى قوة اقتصادية كبرى بل إن تلك المبادئ هي التي ساهمت في انتصار الاتحاد السوفييتي على الوحش النازي الذي أخضع معظم بلدان أوربا لنيره ولو تسنّت له السيطرة على الاتحاد السوفياتي لامتدت سيطرته على العالم عقودا كما لاحظ ذلك بعض المؤرّخين الذين لا يمكن اتهامهم بأنهم من “أتباع ستالين”. إن هذه الحقائق التي لا ينفيها حتى الساسة والمثقفون والبورجوازيون النزهاء، نرى العديد من أدعياء اليسار يطمسونها لإظهار عدائهم لستالين ليس إلا، وكأنهم قادرون على تغيير التاريخ.
وإلى ذلك فإن النمط اللينيني للحزب هو الذي ألهم العمال والكادحين في العالم وجعلهم يتصدون للبورجوازية والفاشية وينتصرون عليها ويحققون الثورة في أكثر من بلاد، في الصين وفيتنام وعدد من بلدان أوربا الشرقية ويخطون خطوات كبيرة ومؤثرة في مجرى الأحداث في البلدان الرأسمالية الأساسية. وحتى نحن في تونس ماذا كان سيكون مصيرنا لولا انتظامنا على أسس لينينية؟ فهل كنّا سنقدر على الحفاظ على حزبنا؟ في زمن الجمر؟ لا نعتقد ذلك بالمرة، فرغم محدودية تكوين وتجربتنا جميعا وحاجتنا الدائمة للتكوين والتعلّم، فإن اهتداءنا بالمبادئ اللينينية هو الذي ساعدنا. وممّا يؤكد أننا لم نكن نتعامل مع هذه المبادئ بشكل ميكانيكي، تقليدي، جامد، هو أننا كنا باستمرار نغيّر أشكال التنظيم والنضال وفقا للظروف المستجدّة: استحداث أشكال تنظيمية جديدة حسب الظروف، إن في اتجاه استغلال مساحات القانونية، أو في اتّجاه تشديد العمل السري الخ…
إن الرفيق “س ح” الذي يُصَفّي الحساب مع ستالين ومع لينين وحتى مع ماركس كما سنبيّن ذلك في فقرة لاحقة، لا ينطلق لا من واقع تونس ولا من واقع العالم للخوض في مسألة أسس التنظيم الثوري اللينيني، بل من قالب أيديولوجي، بورجوازي صغير، تصفوي لا غير. إن ما يهمه هو الحكم على التجربة السوفييتية بالفشل بجرّة قلم لتصفية الحساب مع قادتها الذين تشابكوا نظريا وسياسيا مع تروتسكي في مختلف مراحل الثورة وبناء الاشتراكية. لقد كان بإمكان “س ح” أن يعطي لكل ذي حق حقّه ويقيّم التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي تقييما موضوعيا ويواكب تطوراتها ويقف عند المنعرجات التي عرفتها كأول تجربة في التاريخ الإنساني ظلّت تتلمّس طريقها وحدها، وعند الأوقات التي خرجت فيها عن مبادئ الاشتراكية لتنتهي إلى المآل الذي انتهت إليه ويحمّل كل طرف نصيبه من المسؤولية، وهو ما لا يمكن أن يتحقق بالعقلية التصفوية. ونذكّر هنا بالخطوط التقييمية الكبرى للتجربة الاشتراكية التي قام بها حزبنا في مؤتمر عام 1991، (انظر كتاب: “الاشتراكية أو البربرية”) والتي أثار من خلالها، وبكل شجاعة وجرأة، قضايا جوهرية ممّا يعني أننا لسنا “تُبّعا” ولا “مقلّدين” بل إن التبعية والتقليد هما في سلوك الرفيق “س ح” الذي يلوك تقييمات عدمية، ممجوجة بل دعاية معادية أصلا للشيوعية.
ولكن لنترك هذا جانبا في الوقت الحاضر، ولنفترض أن ما يزعمه “س ح” وبعض الرفاق صحيح وأن أسس التنظيم اللينيني انتهت واستنفدت طاقتها ولم تكن صالحة إلا لروسيا القيصرية، فهل هم يأتوننا بجديد من الناحية النظرية العامة، في انتظار الخوض لاحقا فيما يطرحونه علينا في تونس؟ يتظاهر الرفيق “س ح” أنه يقدم الجديد. فحين يردّ على “تحجر الحزب التنظيمي” و”سلفيته” يقول: “الأطروحة التي أدافع عنها …” وكأن هذه الأطروحة جديدة، وهو صاحبها ومبدعها. وفي الحقيقة فإن هذه “الأطروحة” من حيث المحتوى، قديمة قدم ظهور التيارات الانتهازية في الحركة العمالية والاشتراكية. إن رفض الطابع الطّليعي، الموحد، المنضبط، الجاد، للتنظيم والدعوة لاستبداله بتنظيم رخو، واسع، مرن، مفتوح للمنخرطين، لا يحتكم إلى قواعد الانضباط والصّرامة الخ… ليس بالأمر الجديد بل هو قديم واكب الحركة الاشتراكية منذ ظهورها. وتتّخذ هذه النظريات اليوم أشكالا جديدة مثل الدعوة إلى ما يُسمّى “التنظيم الأفقي” وغيره. فقد كان الخلاف قائما منذ البداية بين تيار ثوري مع الخواص الجوهرية للحزب التي حوصلها لينين في بدايات القرن العشرين، وبين نظرة ليبراليّة، عفوية، تمت ترجمتها سياسيا فيما يسمّى بالتيار “الاقتصادوي” الرافض لقيادة الطبقة العاملة للثورة الديمقراطية في مرحلة أولى وللانتقال إلى الثورة الاشتراكية في مرحلة ثانية (بعد ثورة فيفري 1917 الروسية) بدعوى ترك الرأسمالية تتطور بقيادة البورجوازية قبل التفكير في الانتقال إلى الاشتراكية.
وفي مراحل لاحقة وخاصة بعد انقسام الحركة الاشتراكية بعد انتصار الثورة في روسيا، إلى أممية ثالثة شيوعية وثورية، وأمميّة إصلاحية، انتهازية، اشتراكية ديمقراطية، ذهبت هذه الأخيرة إلى رفض مبادئ التنظيم الثوري بدعوى أنها لا تكتسي طابعا نظريا عامّا، بل لا تصلح إلا لظروف روسيا القيصرية وليس لظروف البلدان الأوروبية الديمقراطية. ولم يكن ذلك إلا غطاء تتخفّى بك تلك الأحزاب التي تخلّت عن الثورة الاشتراكية واندمجت في المنظومة الرأسمالية ولم تَعُدْ معنية بتغييرها جذريا، فالتنظيم هو في النهاية انعكاس لرؤية سياسية، فإمّا الثورة وإما الإصلاح. ولكن عندما انتصرت الفاشية في كل من ألمانيا وإيطاليا ثم في فرنسا وغيرها من البلدان البورجوازية الديمقراطية، اضطرّت حتى تلك التنظيمات الاشتراكية الديمقراطية إلى الاستنجاد بمبادئ التنظيم اللينيني الصارمة في مقاومة البورجوازية الاحتكارية. كما تمّت العودة إلى نفس النظريات الليبرالية العفوية في التنظيم بعد ظهور التحريفية في الاتحاد السوفياتي التي اتّخذت غطاء لمراجعة لينين فماركس فالاشتراكية الثورية بشكل عام. واليوم بدأت تظهر “نظريات جديدة” تروّج لها الأوساط البورجوازية والبورجوازية الصغيرة حول “التنظيم الأفقي” وهي أشكال تنظيم ترتبط بالفوضوية والعفوية أكثر منها بشيء آخر. وقد بيّنت الحياة أن هذه التنظيمات التي تنطلق أفقية تنتهي عموديا، بونابرتية، يتحكّم فيها زعيم واحد، قبل أن تتحول إلى أحزاب اشتراكية ديمقراطية عادية (“بوديموس” الإسباني نموذجا).
إن كل ما في الأمر هو أن البورجوازية الصغيرة المثقفة هي هي، تنزعج من كلّ ما هو تنظيم وانضباط وعمل جادّ ومحاسبة وخضوع للأغلبية عندما تكون أقلية فتعتبر ذلك “بيروقراطية” و”تسلّطا” الخ…
إن كل طبقة أساسية في المجتمع لها طليعتها، أي العناصر أو الأحزاب أو التنظيمات التي تجسّد الوعي الحاد بمصالحها وتضبط لها برنامجها واستراتيجيتها وتكتيكها للهيمنة على المجتمع. والطبقة التي ليس لها طليعة بهذا المفهوم تبقى مشتتة وعاجزة ومهيمنا عليها. وهو ما تريده البورجوازية للطبقة العاملة فتنشر في صفوفها مختلف النظريات الانتهازية الفوضوية والليبرالية والسكتارية وتجد في العنصر البورجوازي الصغير إحدى الأدوات التي تمرّر عبرها تلك النظريات: للبورجوازية التنظيم والنجاعة والهيمنة وللطبقة العاملة التشتت والانحلال والتبعيّة. هذا هو الواقع بالضبط. فنحن أمام مقابلة حقيقية بين الوعي والعفوية، بين التنظيم والانحلال، بين الانضباط والليبرالية، بين العمل والثرثرة، بين النجاعة والفوضى، بين النضال كمهمّة رئيسية في الحياة وبين النضال كهواية لتكملة جدول الأعمال اليومي المخصّص للحياة الخاصة، الشغل والعائلة والرياضة أو “التفرهيد”، وفي كلمة بين الثورة وبين الاندماج في النظام الرأسمالي والتذيل للبورجوازية.
حزب للطبقة العاملة أم حزب بورجوازي صغير؟
إن نسف الأسس النظرية العامة للحزب الماركسي اللينيني لا يقوم به “س ح ” لغاية الترف الفكري بل لهدف واضح وجليّ وهو ضرب هوية حزب العمال الفكرية والسياسية واستبدالها بهوية أخرى تتماشى مع قناعاته الجديدة. إن “س ح”، المتشيّع للأفكار التروتسكية، (رغم أنه يتظاهر بأنه لا يتبنى “كل ما قاله أو فعله تروتسكي” وأنه “لا يدافع عن الشخص بل عن أثره” وكأن غيره يتبنّى حرفيا كل ما قاله لينين أو ستالين أو أنه يدافع عن شخصيهما لا عن أثريهما) يرى في حزب العمال، وهذا أمر بديهي ما بعده بداهة، “حزبا ستالينيا، بيروقراطيا، بلا أفق”، (الرفيق “س ح” يتخلّى عن التنسيب الذي يميّز موقفه من تروتسكي، حين يذكر ستالين فلا يرى فيه إلا “زعيم البيروقراطية ومدمّر حزب لينين) ومن الطبيعي والحالة تلك أن يعمل على تغييره، مستغلا فرصة استقالة “ع م ب” التي طرح عليه كما ذكرنا ذلك أعلاه، “خوض المعركة”. بعبارة أخرى إن “س ح ” يخوض المعركة لنفسه ومن زاويته وهو يستغل غضب المجموعة وخلافاتها مع القيادة لإعطاء مشروعية لما يطرحه هو لا ما يطرحه غيره ممّن يتوقف عند إشكالات ذات أبعاد شخصية أو ذاتية أو في أقصى الحالات لا تمسّ جوهر خط الحزب النظري والسياسي.
إن كل هذا يتّضح بشكل لا لبس فيه من خلال نص الرفيق “س ح” “حول أزمة الحزب”. إن هذا النص هو المثال التطبيقي الذي يكشف في نهاية الأمر عمّا يريده هذا الرفيق وما يدعو إليه أو يخطط له، كما يكشف لماذا اتبع طريقة التكتل خارج الهياكل لخوض “معركته” ورفض خوضها بشكل مفتوح ومنظم وديمقراطي داخلها مختلقا ألف ذريعة وذريعة لتبرير سلوكه الانشقاقي. ودون الوقوف كثيرا عند بعض التفاصيل خاصة المتعلقة بالتنظيم والمركزية الديمقراطية التي تناولها الرفيقان (عل ج وعل ب) في العدد الأخير من النشرية، فإننا سنركز على بعض المسائل التي نعتبرها محورية أو مفصلية. فقد تطرق الرفيق “س ح” إلى “أزمة الحزب” ملاحظا أن قيادة الحزب تنكر وجودها وأنها تكتفي بالإشارة إلى بعض المظاهر الجزئية ولا تغوص في عمق المسألة. وهو ما اختار الخوض فيه. فما هو إذن هذا “العمق” الذي يريد “س ح” أخذنا إليه؟
تحدث “س ح” في فقرة أولى عن “جذور الأزمة” فشخّصها في “مستوى أول” حدده بكون الحزب “فشل في مهمته الرئيسية والتاريخية المتمثلة في إدخال الوعي الاشتراكي للطبقة العاملة… هذه المهمة كانت الحافز الرئيسي لتأسيسه”. فهل هذه هي حقا “المهمة التاريخية” للحزب والحافز لتأسيسه؟ وبعبارة أوضح هل أن الحزب ناد ثقافي للتبشير بالاشتراكية وكسب العمال إليها؟ بالطبع لا. إن المهمة التاريخية للحزب في مجتمعنا هي إنجاز الثورة الاشتراكية، وللوصول إلى هذا الهدف لا بد للطبقة العاملة أن تنجز الثورة الوطنية الديمقراطية التي تهم أوسع الطبقات والفئات الكادحة والفقيرة وحتى الفئات الوسطى من البورجوازية المتضررة من التحالف الطبقي الرجعي المتشكل من الكمبرادور محليا ومن الدول والاحتكارات والمؤسسات المالية الاستعمارية التي تسيطر على مقدرات بلادنا وتنهبها وتعرقل تطور قواها المنتجة من جهة ثانية. إن هذه المرحلة ضرورية للانتقال للاشتراكية ولا يمكن القفز عليها.
ومن هذا المنطق فإن الحافز الرئيسي لتأسيس حزبنا لم يكن رغبة مثقفاتية، مجردة، في “نشر الوعي الاشتراكي” في صلب العمال بل كان تسليح الطبقة العاملة أولا والشعب ثانيا ببرنامج واستراتيجيا وتكتيك وتنظيم ثوري للقيام بالثورة. والجميع يتذكر أن ما رجّنا ودفعنا إلى تأسيس الحزب في مطلع ثمانينات القرن الماضي، لم يكن هاجسا نظريا أو مثقفاتيا، بل ما أظهرته انتفاضة الخبز في جانفي 1984 من حاجة متأكدة إلى حزب ثوري، قائد، حتى لا تبقى نضالات الشعب العفوية بلا أفق. وما من شك في أن هذا الحزب محتاج إلى كسب العناصر الواعية في الطبقة العاملة أولا وفي بقية الطبقات والفئات الكادحة والنساء والشباب والمثقفين والمبدعين ثانيا، إلى صفوفه وتكوينهم فكريا وسياسيا وتنظيم نضالاتهم. وهذا لا يتم إلا عبر عمل دؤوب صلبهم، عمل نضالي بالطبع، بالالتحام بنضالاتهم ومرافقتهم فيها دعاية وتحريضا وتنظيما.
لقد سعى حزبنا منذ تأسيه إلى القيام بهذه المهمة. ولكنه لم يتقدم فيها إلا بخطى وئيدة. وهو ما قيّمناه وقيّمنا أسبابه أكثر من مرة، ووقفنا عند الموضوعي منها والذاتي وليس صحيحا ما ادّعاه “س ح” من أننا “اعتدنا على إلقاء المسؤولية على القمع الخ…” بل إننا وصلنا أحيانا إلى درجة جلد الذات. ولم يغب عنّا ما ذكره “س ح” من أننا حتى في زمن الحريات السياسية لم نحقق الخطوات المطلوبة. ولكن ما سبب ذلك؟ الرفيق “س ح” يطرح السؤال ولا يقدّم الإجابة بل يعوّمها في كون ما يعاني منه حزبنا هو نفسه ما تعانيه منه الأحزاب الشيوعية في العالم وهو ما لا يحل المشكل بالطبع. كما أنه يشير إلى ما أسماه بعض “التجارب الراديكالية التي تمكّنت من تحقيق بعض النجاحات” والتي “قامت على تجميع العناصر الثورية والعناصر الإصلاحية ممّا ساعدها على خلق ديناميكية جماهيرية مكنتها من إحراز نجاحات انتخابية أو حتى الوصول إلى الحكم …” ودعا إلى “بذل جهد فكري حتى نتمكن من الاطلاع على نقاط قوتها ونقاط ضعفها …” وهو ما يعني أن “س ح” لم يقدّم شيئا في نهاية الأمر من شأنه أن ينيرنا في خصوص أسباب الأزمة التي يعيشها سواء حزبنا أو الحركة الشيوعية العالمية، كما لم يقدّم إلينا أي شيء يفسر بعض النجاحات التي حققتها كما قال بعض “التجارب الراديكالية”.
ولكن على الأقل ما يمكن أن نقف عنده في كلام “س ح” هو أولا اختزاله مظاهر الأزمة في “الفشل في إدخال الوعي الاشتراكي للطبقة العاملة” وهو ما جعله لا يغوص في عمق المسألة السياسية ويتطرق إلى النقائص والهنات التي طبعت تكتيكات الحزب التي يتوجّه بها إلى العمال والكادحين والشعب عموما، سواء ما تعلق منها بذلك القصور في رسم الخطة العامة للوصول إلى السلطة، أو بالشعارات وأشكال النضال، أو بأساليب العمل وأشكال التنظيم التي وضعناها لتحقيق أهدافنا وثالثا في عدم الوقوف عند العائق الفكري الكبير الذي ظل يعرقل باستمرار سيرنا نحو الطبقة العاملة والكادحين ويتركنا منحسرين في الوسط البورجوازي الصغير المثقف وهو عقليّتنا البورجوازية الصغيرة ذاتها التي تعكس وعيا سطحيّا بدور الطبقة العاملة ذاتها في التاريخ واعتقادا لا يعبّر عن نفسه بوضوح وهو أن البورجوازية الصغيرة هي “صاحبة الوعي” اليوم وهي المدعوّة إلى قيادة التحولات الثورية في المجتمع ممّا ينجر عنه عدم بذل الجهد الفكري والسياسي والعملي الذي يتطلّبه الانغراس في صلب الطبقة العاملة وباقي كادحي المدن والأرياف فتكون النتيجة الدوران في نفس الحلقة: تضخّم الصفوف بالعنصر البورجوازي الصغير المثقف في فترات المدّ وانحسارها في فترات الجزر دون حدوث تحوّل نوعي في التركيبة الطبقية للحزب.
ولكن رغم قصور حزبنا عن الوصول إلى الطبقة العاملة والانغراس فيها والتحول إلى جزء عضوي منها وتحويل الحزب إلى حزب جماهيري، أي تلتف حوله غالبية العمال والكادحين والفئات المتضرّرة من الدكتاتورية، أفلِم يحقق أي مكسب رغم الظروف التي عاش فيها وهي ظروف غير مواتية للحركة العمالية والشيوعية والثورية لا محليا ولا عربيا ولا دوليا؟ ألم يساهم في تطوير الوعي وفي مقاومة الدكتاتورية وفي تحقيق عدد من المكاسب التي جعلت منه نسبيّا في موقع متقدم مقارنة حتى بالعديد من الأحزاب الثورية في المنطقة والعالم؟ أم أنه لا يجب الاعتراف بهذه المكاسب حتى لا تحسب لفائدة الحزب وقيادته؟ على الأقل الرفيق “ع م ب” يعترف بها ويحصرها فيما قبل الثورة فحسب. هل أن قيادة الثورة والوصول إلى السلطة مسألة إرادية خارجة عن الظروف الموضوعية والذاتية للحركة بشكل عام؟ وهل أن عدم وصول أي حزب شيوعي، ثوري في العقود الأخيرة إلى السلطة يمثل ذريعة للتخلي عن الشيوعية وعن الثورة والبحث عن سبل أخرى للوصول إلى الحكم؟ فهل الوصول إلى الحكم هو هدف في حدّ ذاته؟ أم أن المطروح هو البحث بلا هوادة في نقاط الضعف الحقيقية فينا وفي صعوبات الواقع الموضوعي أيضا لتحديد طريق تحقيق الثورة الاشتراكية؟ إن ما يهم “س ح” هو إصدار حكم على الحزب بالفشل وعدم الاعتراف له ولقياداته المتتالية بتحقيق أي مكسب، يراكم عليه على الأقل والرفع من “السقف” عند تحديد معيار التقييم (كسب غالبيّة الطبقة العاملة للوعي الاشتراكي وكأنها عملية سهلة وبسيطة وكان من الأحرى أن يطرح الرفيق “س ح” السؤال على نفسه إلى كم من عامل أوصل هو الوعي الاشتراكي حتى يبعد عن المزايدات) حتى يتسنى له تشريع ما سيطرحه لاحقا. فالعدمية ولا شيء غير العدمية هي التي تقود الرفيق “س ح” الذي لا ينطلق من الواقع بل من الصورة المرسومة في ذهنه والتي يريد إخضاع الواقع لها أو إسقاطها عليه، وهو أسلوب لا هو مادي ولا هو جدلي.
إن الرفيق “س ح” بعد أن يصفّي الحساب مع الحزب في المجال السياسي ينتقل إلى المستوى الثاني المتعلق بواقع التنظيم في الظرف الراهن”. وفي هذا المجال أيضا يكتفي “س ح” بسرد عديد مظاهر الخلل في حياتنا التنظيمية التي لا تضيف شيئا لما وقفت عنده القيادة في تقاريرها، وهذه مشكلة من مشاكل الرفيق “س ح” فهو يظن دائما أنه من يأتي بالجديد حتى لوكان يجترّ ما قالته القيادة، وإن كان بفارق أوّل وهو أن تشخيصات القيادة أكثر دقة وملموسية، ثم بفارق ثان وهو أن القيادة أُرفقت دائما نقودها وملاحظاتها بمقترحات عملية للتجاوز بقطع النظر عن سلامة هذه المقترحات أو خطأها. ولكن علينا أن نعي أن الرفيق “س ح” ليس هدفه التعرّض بشكل ملموس للواقع التنظيمي للحزب والوقوف عند مختلف محاولات القيادة للتجاوز بل ما يهمّه هنا أيضا هو الحكم على الحزب بالفشل ليصل إلى ما يريد وهو ما كنّا تعرضنا له أعلاه أي نسف الأسس النظرية التنظيمية التي قام عليها الحزب بدعوى أن الزمن تجاوزها.
وفي هذا السياق يحاول “س ح” تصفية الحساب مع المركزية الديمقراطية، فهو “معها”، كلما وُضعَ في زاوية، ولكنه يضيف أنه يختلف في فهمها، وهو ضمنيا ضدّها كلما خفّ الضغط عليه حتى أنّك في النهاية لا تفهم هل هو مع “نظرية تعدد الخطوط” داخل الحزب أم ضدها؟ وهل هو مع وجود التكتلات داخل الحزب أم ضده؟ فنحن أمام تناقض صارخ في مواقفه حتى أننا لا نفهم ماذا يجادل رغم أن موقف حزبنا من بعض المسائل واضح. فهو يعرف تمام المعرفة أننا نُفَرِّق بين أن تظهر، كانعكاس للصراع الطبقي، أفكار انتهازية أو خط انتهازي، يسراوي أو يميني، في داخل الحزب ويقاومه الحزب عن طريق الصراع الفكري والسياسي، وبين أن يتحوّل تعايش الخطوط داخل الحزب إلى قاعدة فيصبح بلا بوصلة، تتقاذفه التيارات المختلفة وحتى المتضادة. كما نفرق بين أن يلتقي مناضلون على نفس الموقف داخل الحزب ويدافعون عنه في أطرهم، وهو أمر عادي، وبين أن يتحول الحزب إلى مجموعة تنظيمات داخل التنظيم الواحد بدعوى الديمقراطية وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى خلق مراكز عديدة في الحزب تجزّئ الإرادة الواحدة وتنفي الممارسة الموحدة بل تقضي على الديمقراطية وتفسح المجال للمؤامرات الفردية والتفاهمات الخفية بين الكتل والزعامات على حساب القواعد الخ…
ولا بد هنا من الرد على نقطة وهي ما ذهب إليه “س ح” من أن الثوريّين مارسوا التكتل هم أيضا في أكثر من تجربة. ولئن كان هذا صحيحا فإن “س ح” لا يبيّن لنا كيف ومتى؟ إن الثوريين، قبل أن يلجؤوا إلى التكتل أو الانشقاق، يدافعون عن مواقفهم ويصارعون خصومهم من الانتهازيين داخل الأطر وفي كنف الوضوح لكي يكسبوا غالبية الأعضاء لمواقفهم، ولا يتكتلون إلا حين تمارس عليهم القيادات الانتهازية القمع وتحاصرهم وتمنعهم من تبليغ مواقفهم. ولكن في قضية الحال ما هي المواقف الفكرية والسياسية الثورية التي تدافع عنها الكتلة التي ظهرت في حزبنا؟ هذا أولا، وثانيا متى منع أفراد هذه الكتلة من الدفاع عن مواقفهم إن كانت لهم مواقف؟ أليست قيادة الحزب هي التي دعتهم إلى النقاش المنظّم داخل الحزب وهم الذين رفضوا مخيّرين التكتل عوض الوحدة، مخيّرين الاتصالات الجانبية عن المواجهة المباشرة حتى يروّجوا ما يريدون من معطيات خاطئة أو محرّفة حول أوضاع الحزب بهدف الانقلاب عليه وعلى خطه.
إن الرفيق “س ح” المتذبذب نظريا والذي لا يتجاسر على القول صراحة إنه مع الخطوط والتكتلات، نراه في الواقع يخون نفسه ويمارس التكتل ويحاول تشريعه. فهو يتحدث منذ مدّة عن “المعارضة” داخل الحزب (مستحضرا بشكل مهزلي بعض صور ما حصل في الحزب البلشفي) كما أنه يعتبر اجتماع أعضاء خارج هياكلهم وتنظيم نشاطهم، في أطر وهياكل وطنية وجهوية ومحلية، وعلى أرضية خاصة بشكل مواز للحزب أمرا عاديا، ليس فيه ضرب لوحدة الحزب وللديمقراطية داخله، بل إنه يعتبر تصدّي الحزب الصارم لهذه الممارسات “شهادة بأن حزب العمال أصبح حزبا لا ديمقراطيا وبالتالي فإنه لم يعد ثوريا” (الديمقراطية والثورية عند “س ح” تتمثل في ترك الكتلة تعبث بالحزب وتشتّت طاقاته وتشغله عن مهامه…).
وبالطبع فـ”س ح” يحاول دائما إيجاد تبريرات لسلوكه وسلوك الكتلة، من قبيل أن الحزب “مشتت” و”منقسم” وأن “وضع الحزب استثنائي وهو ما يتطلّب حلولا استثنائية”، إلى غير ذلك من المغالطات، وعندما يقال له من أين أتيت بكل هذا يجيب بما يفيد أنه “يثق” بما يرويه له الرفيق “ع م ب” خاصة “نائب الأمين العام السابق للحزب”، أما ما تقوله له القيادة أو الرفاق الآخرون العاملون في هياكل الحزب، بناء على معطيات دقيقة حول عدد أعضاء الحزب مقارنة بالمؤتمر الماضي وهي معطيات تفند تلك المزاعم، فهو لا يروم سماعه لأنه لا يواتي ما يريد تمريره من مواقف.
ولكن بعد كل هذا فما هي “الإصلاحات الهيكلية” التي يقترحها الرفيق “س ح” للحزب والتي ستحقق حسب رأيه “النجاعة التنظيمية”؟ لقد انتقد “س ح” ما تقدّمه القيادة من مقترحات لتجاوز الحالة التنظيمية الهشة للحزب واعتبرها من قبيل “المواعظ والتوصيات” التي لا تسمن ولا تغني من جوع ليسقط هو فيما أدهى أنه ينقده. فقد كرّر جملة من التوصيات الصالحة لكل زمان ومكان من “قبيل إعادة الثقة بين الهياكل القيادية والقاعدية” و”توسيع الديمقراطية وإنعاش الحياة الداخلية” و”تطوير روح المبادرة والتسيير الذاتي للهياكل القاعدية” ولمنظمات الحزب الخ… ولكنه لا يكشف عمّا يريد الوصول إليه إلا حين يتطرق إلى موضوع القيادة. وهنا يقدم “س ح” صورة كاريكاتورية عن الحياة الداخلية للحزب وعن القيادة بل هو يقدّم عن سوء نيّة واضحة صورة لم يجرؤ على تقديمها عن الحزب حتى أعداؤه وخصومه في عهد الدكتاتورية أو بعدها. فما يهمّه، ونحن لا نتجنّى عليه بالمرة، هو التشويه لتشريع الانقلاب على القيادة معبّرا في نفس الوقت عن احتقار مقيت لأعضاء الحزب الذين لا يرى فيهم سوى تُبّعا للقيادة طالما أنهم ليسوا على رأيه ورأي ما يسمّيها بالمعارضة.
فما هي هذه الصورة التي يقدم بها “س ح” الحياة الداخلية للحزب: القيادة القديمة هي التي تحدّد دائما القيادة الجديدة” لأن “القيادة القديمة هي التي تتحكم في مجريات المؤتمر” وهي التي “تتحكّم في نتائجه بما في ذلك تركيبة اللجنة المركزية، بل إن قائمة اللجنة المركزية “الجديدة” يتم إعدادها قبل المؤتمر وليس المؤتمر في هذا الباب إلا أمرا شكليا” “إن ما يطبع عمل الحزب هو تبعية القاعدة الحزبية للقيادة”، “القيادة تعيد إنتاج نفسها”، “القيادة هي التي تختار قيادة اتحاد الشباب”، “القيادة تمارس السرية على عموم الحزب” “القيادة كتلة داخل الحزب”، “الأغلبية تتكتل ضد الأقلية” الخ… إن كل هذه الأحكام التي هندسها “س ح” في ذهنه لا علاقة لها بالواقع بل إن كل الهدف منها هو أولا تشريع ما يقوم به هو وبعض الرفاق من أعمال تكتلية، وثانيا تبرير ما سيقدمه من مقترحات لطريقة انتخاب قيادة الحزب.
لا يمكن الرد على ما يورده “س ح” من أحكام إلا بالعودة إلى مجريات المؤتمر الأخير حتى يفهم القارئ فظاعة ما يقوم به “س” من تحريفات وتشويهات. فكيف تم هذا المؤتمر؟ لقد تم اختيار النواب في كافة الجهات من بين الأعضاء والأعضاء المرشحين بشكل ديمقراطي. فقد كان الترشح حرا والاقتراع سريا. وفوق ذلك كله سمِح للأعضاء المرشّحين في المؤتمر بأن يتمتّعوا بحق التصويت توسيعا لباب الديمقراطية. فعن أيّ تحكم في مجريات المؤتمر يتحدث “س”؟ وهل ثمة طريقة أخرى أكثر ديمقراطية لاختيار المؤتمرين من طريقة حرية الترشح وسرية الاقتراع؟ لنواصل. ثم إن هؤلاء الذين انتخبوا نوّابا في المؤتمر هم أنفسهم الذين انتخبوا اللجنة المركزية الحالية التي ترشح لها. وهنا يكمن المشكل بالنسبة إلى “س ح” و”ع ج م” وغيرهما. لماذا يقع إقناع بعض الرفاق بعدم الترشحّ؟ (وهل في ذلك عيب بين رفاق أم أن ذلك يسمّى ضغطا؟) ولماذا يناقش بعض الرفاق القياديين السابقين عن الترشحات للقيادة؟ هل هذا حرام وبيروقراطية؟ وهل ثمة مؤتمر لا يتناقش فيه الناس عن الترشحات وعن القيادة الجديدة وتركيبتها؟ لا. بالنسبة إلى الجماعة، الديمقراطيين جدّا، على الجميع أن يصمتوا حتى يتمكن “ع ج م” وغيره من القيام بحملتهم طوال المؤتمر ضد هذا الرفيق أو ذاك أو لفائدة هذا الرفيق أو ذاك؟ في كل المؤتمرات تجري مشاورات وتُعدّ قائمات الخ… وذلك من صلب العملية الديمقراطية لأن الحسم في النهاية سيكون للقاعدة الانتخابية، فأن تعدّ قائمة أو ترشّح شخصا لا يعني شيئا طالما أن الناخبين أحرار في اختيار من يريدون. ومع ذلك فحين أراد أحد المرشحين وهو اليوم في الكتلة (الرفيق ح ت) ترويج قائمة فقد وقع سحبها بسرعة وطلب منه ترك المؤتمرين يختارون خارج أي تأثير.
إن مشكلة الرفاق هي في عدم صعود فلان أو فلتان للقيادة والمؤكد أنهم ما كانوا لقيموا كل هذا الضجيج ويكيلوا هذه الاتهامات للقيادة لو صعد فلان أو علان إليها، فالديمقراطية تقاس بهذا المعيار وليس بحرية الاختيار. ولكن لماذا لا يحدثنا “س ح” عمّا قام به بعض الرفاق من سلوكيات داخل المؤتمر؟ الرفيق “ع ج م” ذكر أثناء النقاش معه أنه اتفق وبعض الرفاق الآخرين مع الرفيق “ع م ب” على “خوض معركة في المؤتمر” ولكن “ع م ب” غدر به وبمن اتفق معهم بعد أن انتخب رئيسا للمؤتمر”. أليس هذا تنسيقا وتخطيطا؟ ألم يقع الاتفاق مع رفيق من المهدية بأن يصعد إلى المنبر ويتهجّم على الرفيق “منذر” الذي قال له البعض بأنه لن يدّخر جهدا لسدّ باب العودة إلى اللجنة المركزية أمامه؟ ألم يصرّح أحد رفاق القصرين بأنه جاء إلى المؤتمر لغرض واحد ووحيد وهو تصفية الحساب مع “ج ه”؟ إلى غير ذلك من الممارسات التي بقيت هامشية لا محالة داخل المؤتمر ولم تؤثر في مجرياته.
لماذا إذن يعتبر الرفيق “س ح” أن القيادة “تنتج نفسها”؟ أليست الانتخابات هي الآلية الديمقراطية لتعيين القيادة؟ ثم لماذا كل هذا الاحتقار لقواعد الحزب ولمندوبي المؤتمر؟ بناء على ماذا يعتبرهم تُبّعا؟ ألأنهم لم يزيحوا القيادة؟ لماذا لم يحاول هو ذلك؟ لماذا يتجنب الرفيق “س ح” مثلا حضور المجالس الوطنية للحزب ويفضّل إرسال رفيق آخر عن الهيكل الذي يشرف عليه؟ ولماذا لا يحضر في تونس بعض المجالس الجهوية ليواجه رفاقه بما يتّهمهم به ويستمع إلى آرائهم ويقف عند حقيقة ما يروّجه عنهم؟ ويمكن قول نفس الشيء بالنسبة إلى اتحاد الشباب ومنظمة مساواة اللذين يتّهم “س ح” القيادة بكونها هي التي تُعيّن قيادتيهما. وهو كلام للتضليل ولا هدف منه كما قلنا غير تشريع الأعمال التكتلية.
وقد كان أول من روّج إليه الرفيق “ع م ب”. قبل أن يأخذه الرفيق “س ح” صكّا على بياض. فحين ذهب دون استشارة قيادة الحزب إلى جنوب فرنسا (الرفيق “س ح” جمع الهيكل وطلب منهم التصويت على استضافة الرفيق “ع م ب” وحين حصل على أغلبية اتصل مباشرة بـ”ع م ب” واستدعاه) والتقى بالرفاق وادّعى لهم أنه قاطع مؤتمري اتحاد الشباب في ديسمبر 2016 ومنظمة مساواه في نفس السنة مبرّرا ذلك بأن “كتلة في اللجنة المركزية” هي التي “نظّمت المؤتمرين وحدّدت من يترشّح ومن لا يترشح”. والواقع أن الرفيق “ع م ب” هو الذي افتتح، بدل الأمين العام المتغيّب، مؤتمر اتحاد الشباب وألقى كلمة لا توحي بالمرّة أن له أي تحفظ على ذلك المؤتمر وعلى طريقة إعداده التي تولاها الشّباب بأنفسهم كما تولّوا اختيار قيادتهم التي ناقشوا أعضاءها عضوا عضوا. أما بالنسبة إلى الندوة الوطنية الانتخابية لمنظمة مساواة فقد حضرها الرفيق “ع م ب” من أوّلها إلى آخرها مع العلم أنه جرت العادة أن تدعو قيادتا المنظمّتين وكذلك المكتب الوطني “لليند” أعضاء اللجنة المركزية لمواكبة الأشغال (دون أن يتدخّلوا لا في جدول الأعمال ولا في التسيير) وكانت اللجنة التنفيذية توزّع الدعوة على كافة أعضاء اللجنة المركزية وتحثهم على الحضور لشدّ أزر رفاقهم ورفيقاتهم وللاطلاع على مجريات الأمور داخل منظماتهم، وبالتالي فلا صحّة لما ادّعاه الرفيق “ع م ب”. والمشكل كل المشكل يكمن في أن هؤلاء الرفاق يفتعلون “حكايات” لتبرير سلوكهم اليوم والحال أنهم في الماضي لم يعبّروا لا عن نقد ولا عن خلاف. فحتى بالنسبة إلى مؤتمر اتحاد الشباب الأخير فقد تمّ تقديم تقرير للجنة المركزية ولم تحصل اعتراضات عليه وكان من بين ما نوقش في اجتماع اللجنة المركزية ما أتاه بعض نواب جهة المنستير الذين تشرف عليهم الرفيقة “ل ك” من سلوكات استفزازية وغير أخلاقية (سبّ وشتم) لبعض رفاقهم الذين يختلفون معهم في الرأي ولم تقع مناقشة مسائل أخرى.
إن لبّ المشكل يكمن، مرة أخرى، في أن الرفاق “س ح” و”ع م ب” و”ع ج م” لا يقبلون في الواقع بأبسط قواعد الديمقراطية وهم ضجرون من كونهم يمثلون أقلية ولا يريدون الخضوع للأغلبية، فيختلقون ما يختلقون من “حكايات” ومن تنظيرات فارغة لكي ينسفوا قاعدة خضوع الأقلية للأغلبية. ومن ناحية أخرى فإنهم يرفضون أن تقود القيادة، يعني أن تحسم وتقرر وتنفذ وتراقب وتتدخّل، فهم، طالما أنهم أقلية، لا يرون في القيادة إلا هيكلا للتنسيق لا غير، حتى تتمكّن الأقلية من أن تفعل ما تريد.
ولكن، دعنا من كل هذا فماذا يقترح “س ح” من طريقة لانتخاب القيادة لتجاوز البيروقراطية؟ كل جهة تنتخب من يمثلها في اللجنة المركزية. هذا ما يطالب به “س ح” وهو يتفق فيه مع “ع ج م” الذي كان قدّم مثل هذه الفكرة بعنوان “توسيع القيادة” منذ مؤتمر الحزب ونوقشت ورفضت. كما يطالب، أي الرفيق “س ح”، بتخفيف شروط الترشح للجنة المركزية. تماما مثلما كان أيضا روّج أعلاه لتخفيف شروط الانتماء للحزب بما يفضي في النهاية إلى حزب “رخو” ضعيف قاعدة وقيادة، بعيد عن تلبية شروط قيادة الصراع الطبقي وما تقتضيه من توفّر عضو وكادر نوعيّين، طليعيّين، قادرين على تحمل المصاعب والعواصف المرتبطة بالعضوية وبالقيادة في ذلك الحزب.
إن “س ح” يبدو كأنه لا يعرف كيف تنتخب لا قيادات الأحزاب فحسب بل كذلك قيادات الجمعيات والمنظمات والنقابات. إن القيادة لها صبغة وطنية فمن ينتخب إليها يكون ممثلا للجميع وبالتالي فمن الضروري أن يكون منتخبا منهم جميعا دون اعتبار للجهات. يمكن أن يقع الاتفاق على بعض المعايير، أي على أن تكون القيادة متنوعة جهويا وجندريّا وسنّا، ولكن الانتخاب لا بد أن يكون من الجميع، فالقيادة هي “جهاز وطني” وليست “فدرالية جهات”، والعضو فيها مسؤول أمام كامل الحزب وليس أمام جهته. أما بخصوص الشروط فما هي الشروط المجحفة التي يضعها النظام الداخلي حتى يقع التخفيف فيها؟ إن ما يضبطه النظام الداخلي لا يتجاوز أن يكون المترشح عضوا بالحزب وعضوا بإحدى اللجان الجهوية أو سبق له أن تحمّل مسؤولية في لجنة جهوية فهل يمكن النزول دون هذه الشروط؟ بل ماذا سيكون مصير الحزب كما قلنا أعلاه إذا “خففنا” شروط الانتماء إلى القيادة من جهة ومن شروط العضوية التي حددناها في تبني البرنامج وفي النشاط ضمن هيكل من هياكل الحزب وفي دفع مساهمة شهرية من جهة أخرى؟ فهل هذا هو الحزب الذي يقتضيه اليوم الصراع الطبقي لمنازعة الرجعية؟
وفوق ذلك كله فهل بهذه الطريقة ستتحقق الديمقراطية داخل الحزب؟ بالطبع لا. فالآليات تساعد ولا تحدّد، لأن المحدد يبقى ما يتمتّع به الأعضاء من حقوق وما تتوفر لهم من إمكانات للتعبير عن آرائهم داخل الحزب وللمشاركة في تحديد توجهاته وضبط تكتيكاته، وفوق ذلك كله فإن وجود الديمقراطية من عدمه داخل أي حزب مرتبط أيضا بهوية الحزب الفكرية والسياسية: هل هو حزب يناضل من أجل الديمقراطية أم هو معادٍ لها؟ هذا هو الأساس. ولكن ما يبحث عنه “س ح” ليس الديمقراطية بل الطريقة التي يحاصر بها القيادة حتى لا تقود وإلا فإنها تصبح بيروقراطية.
ولكن الأهم من كل ذلك بل إن مربط الفرس هو ما تركه الرفيق “س ح” للفقرة الأخيرة التي عنونها: “في الخط السياسي للحزب” والتي تتطلب منا انتباها كبيرا لأنها في النهاية تكشف عما يريده الرفيق. لقد حدد “س ح” أربعة توجّهات يمكن أن تساعد الحزب على تطوير عمله الجماهيري وسعيه للانغراس في الطبقة الشغيلة”. وهذه التوجهات الأربعة هي التالية: أولا “خطة جديدة ونفس جديد لإعادة اهتمام المناضلين بالنضال النقابي”. وثانيا: “تحيين برنامجنا الاستراتيجي، البرنامج الاشتراكي… رؤية اشتراكية لنشرها في صلب الطبقة العاملة… التمكن من الرؤية الاشتراكية لا في نسختها السوفييتية التي باءت بالفشل وإنما رؤية ثورية جديدة…”. ثالثا: التخلص من النظرة السكتارية… ومن الفهم الضيق للماركسية اللينينية التي لا تتبنى القراءة الستالينية لتاريخ الحركة الشيوعية وبصفة خاصة قراءة التجربة السوفياتية” وعليه فإن “من مصلحة الحزب الذي يسعى إلى تطوير قاعدته وتسهيل عمله الاستقطابي إلى فتح أبوابه إلى كل الماركسيّين مهما كانت قراءتهم، تروتسكية، وماوية أو غير ذلك…”. أما أمميا فالمطلوب عدم حصر العلاقة بندوة الأحزاب الماركسية اللينينية، بل لا بد من “توسيع حقل العمل في الحركة الثورية العالمية وخلق علاقات متطورة مع الأممية الرابعة وبغيرها من التجمعات الأممية”. رابعا:” التوجه الرابع يتعلق بمشروع الحزب اليساري الكبير. يمكن أن يوفر هذا المسار مساحة جديدة للثوريين الماركسيين، توحيد صفوفهم وتوحيد ممارستهم على قاعدة برنامج سياسي مباشر واستراتيجي ممّا يسهل علينا عمل الاستقطاب والانغراس في صلب الشغيلة والفئات الكادحة والمهمشة”.
هذه هي التوجهات “السياسية الأربعة” التي ينصحنا بها الرفيق “س ح”. ولا يمكن لأي عاقل أن لا ينتبه إلى أن “س ح” يبدأ بالتعرض للعمل النقابي أولا، لا للخط العام للحزب، وحين يتعرض لهذه المسألة في النقطة الثانية فإنه يمرّ مباشرة إلى الحديث عن “البرنامج الاشتراكي… الاستراتيجي” ويغرق في العموميات التي لا تسمن ولا تغني من جوع دون أن ينسى، وهذا هو المهم، توجيه الضربة إلى التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي التي يحكم عليها بجرّة قلم بأنها “باءت بالفشل”، دون أي تنسيب، ولا مراعاة للمراحل التي مرت بها وللمكاسب التي حققتها للطبقة العاملة السوفييتية والعالمية وللشعوب والأمم المضطهدة، قبل أن تسيطر التحريفية على الدولة السوفييتية وترتد على الثورة الاشتراكية. وحتى “البرنامج الاشتراكي” للرفيق “س ح” فإنه لا يتعدى “نشر الوعي الاشتراكي” في صفوف الشغالين، بمعزل عن الواقع الملموس في بلادنا، أي بمعزل عن المرحلة الحالية من الثورة، فهو “برنامج” بلا مضامين سياسية واقتصادية واجتماعية ملموسة، بل إن السؤال الذي يبقى عالقا في الذهن هو التالي: ما هي ميزة هذا “البرنامج الاستراتيجي” وهل أن محوره الثورة الاشتراكية أم ماذا؟ وما هو جوهر النظام السياسي الذي يدعو له هذا البرنامج أهو دكتاتورية البروليتاريا أم شيء أخر؟
لقد تعمّد الرفيق “س ح” عدم الخوض في الخط السياسي للحزب في المرحلة الحالية، وهي مرحلة لها سماتها الخاصة، بما يعنيه الخط من تحليل للمجتمع التونسي ومن تحديد للتناقض الرئيسي الذي يشقه ولطبيعة الثورة اليوم التي يحددها وهي ثورة ذات طابع وطني وديمقراطي وشعبي وللبرنامج والاستراتيجية والتكتيك التي تمليها هذه الثورة. ولا يخفى على من يعرف الرفيق “س ح” أنه تجنب الخوض في الخط السياسي للحزب بهدف واحد وهو تغطية نظرته للثورة ولطبيعتها في تونس فهو يعتبرها، أو بالأحرى ينزع إلى اعتبارها، كما تعتبرها عادة بعض الفصائل التروتسكية، ثورة اشتراكية، تستكمل في مسارها بعض المهام الوطنية والديمقراطية. ولا نسوق هذا الكلام اعتباطا فكلّ من ناقش مع الرفيق “س ح” بشكل دقيق إلا ووقف عند هذه الحقيقة ومن تبرّمه من كل حديث عن الطبقات والفئات الاجتماعية المعنية بالثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية وبالخصوص منها الفئات الوسطى أو الرأسمال الوطني، بفرعيه العمومي والخاص، الذي يدمره التحالف الكمبرادوري الاستعماري الجديد.
وإلى ذلك، وهنا نعود إلى النقطة الأولى المتعلقة بالعمل النقابي، فهل أن ما يطرح على حزبنا في الالتحام ينحصر في العمل النقابي؟ ألسنا مطالبين أيضا بالتوجه إلى الفلاحين والصناعيين والحرفيين والتجار الصغار؟ والموظفين والمبدعين والشباب والنساء؟ أليست هذه عين السكتارية المنقادة فعلا بنظرة “عمالوية” (ouvriériste) تروتسكوـ ماوية على غرار تلك التي سادت في أواخر ستينات القرن الماضي في منظمة “آفاق التونسية” ؟. لنواصل.
إن الرفيق “س ح” يقترب بنا شيئا فشيئا ليكشف عمّا يطالب به حزب العمال، مؤكدا ما قلناه في البداية أن “مقاومة البيروقراطية” ما هي إلا تعلة لتمرير خط آخر وأن محاولة تفسيخ التنظيم ما هي إلا مدخل للتفسيخ الفكري لحزب العمال. ففي النقطة الثالثة وبعنوان “مقاومة النظرة السكتارية” “الستالينية” يقترح “س ح” على الحزب أن يفتح أبوابه “إلى كل الماركسيين مهما كانت قراءتهم تروتسكية أو ماوية أو غير ذلك”. ثم يمضي إلى المستوى الدولي فيطالب بتوسيع العلاقات لتشمل الأممية الرابعة التروتسكية وغيرها من التجمعات الأممية، وهي كثيرة وتشكل خليطا فكريا وسياسيا لا حدّ له. ومن المعلوم أن حزبنا حين تأسّس فقد تمّ ذلك في تباين فكري/أيديولوجي/نظري مع التروتسكية والماوية والتحريفية والاشتراكية الديمقراطية والفوضوية. ولم يكن ذلك من باب التطرف الفكري أو السكتارية العقائدية أو التبعية لهذا المركز الأيديولوجي أو ذاك بل من باب تحديد هوية الحزب ولا أدل على ذلك من أن سقوط مختلف التجارب الاشتراكية للقرن العشرين لم تؤثر في حزبنا ولم ينتج عنها انهياره أو اندثاره.
إن المغالطة في كلام الرفيق “س ح” تكمن في أنه يقدم كل هذه التيارات على أنها “ماركسية، يسارية” وأنها في نهاية الأمر تدافع عن هدف واحد وهو الاشتراكية وأن خلافاتها “مصطنعة” أو بالأحرى “موروثة من الحقبة السوفييتية”. والواقع أن هذا الكلام لا صحة له، ذلك أن الأمر لا يتعلق بمجرد خلافات “شيع” ضيقة بل إن كل تيار من هذه التيارات له خصائصه الفكرية وخاصة السياسية أي له موقفه من قضايا الثورة اليوم بمختلف أبعادها: ثورة أم إصلاح؟ ثورة اشتراكية أم ثورة على مراحل كلّما تعلق الأمر بالبلدان التابعة والمهيمن عليها؟ ما الموقف من المسألة الوطنية؟ ومن القومية؟ والمسألة الزراعية؟ وكذلك الموقف من البورجوازية الوطنية، ومن التكتيك السياسي، الخ… وبعبارة أخرى فإن ما يطرحه “س ح” بدعوى أن “شرط الانتماء هو أولا وقبل شيء العطاء النضالي والدفاع عن البرنامج السياسي للحزب”، هو مجرد لغو وانزلاق شيئا فشيئا نحو تفسيخ الهوية الفكرية والسياسية للحزب. فما هو هذا البرنامج السياسي الذي سيتوحّد حوله هؤلاء “الماركسيون”؟ هم في الجبهة ويجدون صعوبة في التوحّد حول مسائل تكتيكية فما بالك حول مسائل كبرى.
وهنا نصل إلى النقطة الأخيرة والمفصلية. إن “س ح” يدعو في النهاية إلى “مشروع الحزب اليساري الكبير” الذي يجمع الطيف الماركسي على قاعدة “برنامج سياسي مباشر واستراتيجي”. أي حزب يتشكل من خليط أيديولوجي، تربطه سياسات مشتركة. وهنا لا بد من التذكير ببعض المعطيات وهي أن كلمة الحزب اليساري الكبير كان طرحها الرفيق الشهيد شكري بلعيد إثر عودته من زيارة له للمغرب التقى فيها عددا من المناضلين اليساريين الذين أسّسوا تنظيما اندماجيا “اليسار الموحد بالمغرب”. وكان المغاربة سألوه لماذا لا يتوحد اليساريون في تونس في حزب واحد. وكان شكري طرح هذه المسألة وفي ذهنه توحيد حزب العمال وحزب الوطد الموحد ورابطة اليسار. ولم تتعدّ المسألة هذا الحد العام. لم تناقش ولم تطرح كمشروع. وفي عام 2016 وبمناسبة الذكرى الثالثة لاغتيال الشهيد نظم حزب الوطد الموحد ندوة لمناقشة هذه المسألة. وقد كانت تلك الندوة فاشلة باعتراف منظميها إذ ظهر ألف مفهوم للحزب اليساري الكبير بل إن المفهوم الذي طغى هو “تجميع كل من ينتمون إلى اليسار حول برنامج أدنى ديمقراطي وتقدمي…” أي تكوين حزب/جبهة إصلاحي/إصلاحية يجمع كل من يعلن انتماءه لليسار. وانفض الاجتماع ومن ساعتها لم يعد أحد يتحدث عن هذا الموضوع، مع العلم أن الرفيق “ج ه” كان هو الذي قدّم يومها موقف الحزب في وثيقة اطلع عليها مسبقا كافة أعضاء اللجنة التنفيذية، بمن فيهم الرفيق “ع م ب” وأضافوا إليها بعض الملاحظات وأقرّوها وثيقة تعبّر عن وجهة نظر الحزب.
لا بد أولا وقبل كل شيء من توضيح أن الحزب هو تعبيرة طبقية. وهو حامل لهوية فكرية، أيديولوجية تمثل الأساس الذي ينبني عليه ويوحّد مناضليه ومناضلاته ويمثل منطلقهم في النظر إلى الأشياء. كما أنه حامل لبرنامج سياسي واستراتيجيا وتكتيك. ومن هنا فإن الطبقة العاملة محتاجة إلى حزبها الطبقي الذي يعبّر عن مصالحها. وهذا الحزب لا يمكن أن يكون بلا هوية فكرية أو مجرد تجمع سياسي. فالجبهات هي التي تتأسس على برامج سياسية فقط وليست الأحزاب. فحتى الأحزاب التي تدّعي أنها “منفتحة” وليست أيديولوجية إنما هي أحزاب تغالط وتكذب على غرار الأحزاب البورجوازية والاشتراكية الديمقراطية. وحتى الأحزاب التي حاولت بناء نفسها على أساس “لا أيديولوجي” مزعوم مثلما حصل عندنا في تونس (التجمع الاشتراكي، الحزب الديمقراطي التقدمي، الجمهوري، النداء…) فكلها انفجرت وتشظّت لا لشيء إلا لأن منطلقاتها في معالجة أي قضية من القضايا مختلفة.
وبالتالي فأي مصير لحزب سيجمع الماركسيين اللينينيّين التروتسكيين والماويين و…و…و… في حزب واحد؟ كيف سيتعايشون؟ وكيف سيتناولون مختلف القضايا التي تطرح عليهم؟ إن وجودهم في نفس الحزب لن يطمس تناقضاتهم ومن ثمة فإنهم سيتشكلون داخل ذلك الحزب في خطوط وكتل متصارعة ومتنافرة لينتهي الحزب بالانفجار. وهو ما أكدته عديد التجارب التي انبنت على نفس الشعار الذي يرفعه ‘”س ح”. تم ذلك بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بدعوى أن هذا الانهيار ينهي الخلافات التي تولدت مع هذه التجربة وكأن تلك الخلافات كانت مجرد خلافات شخصية أو كأن الجميع كان مخطئا ومن الأفضل طي الصفحة والعودة إلى الأصل الماركسي المُجمّع، وفي أحسن الحالات التعاطي مع الجميع/ مع لينين وستالين وتروتسكي وماو وغيرهم كإسهامات ماركسية لا غير الخ… تلك التجارب كلّها انتهت إلى الفشل لأنها تناست أن الأمر يتعلق بخلافات نظرية وسياسية لها انعكاس في الواقع.
وفي الخلاصة فإن الرفيق “س ح” يصل بنا إلى ما انطلق منه في البداية وهو أن “حزب العمال انتهى” في نظره كمشروع أي انتهى مشروع الحزب الماركسي اللينيني للطبقة العاملة التي يعبّر عن مصالحها في تونس، وأن الوقت للحزب اليساري الكبير بالمضامين التي يعطيها له. وهو طرح يعتبر تفسّخا حتى بالنسبة إلى التروتسكية االتقليدية بل هو نسخة إصلاحية، اشتراكية ديمقراطية من التروتسكية. إن “س ح” وغيره من دعاة الحزب اليساري الكبير الذي لن يكون مهما حاولوا تزيينه سوى حزب إصلاحي، اشتراكي ديمقراطي، عوض تجذير الحزب في هويته وتخليصه من نقائصه النظرية والسياسية والتنظيمية والعملية وتطويره ليقوم بمهمته التاريخية في إنجاز الثورة الاشتراكية، مرورا بالثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية، يبحثون عن الحل السهل، التصفوي، أي قبر حزب العمال والمرور إلى تجربة أخرى ستكون بالضرورة إعلانا لانهيار ثم اندثار مؤكد إذ أن المرحلة الموالية ستكون الانغماس في الصراعات الداخلية والبحث عن هيمنة هذا التيار أو ذاك والعودة من جديد إلى الحوانيت الخ…
إن محور الصراع في النهاية فكري سياسي وما التنظيم إلا الشجرة التي تخفي الغاب. وهو ما لا يدركه بعض المناضلين والأنصار الذين يتحمّسون لما يطرحه قادة التكتل وعلى رأسهم، الرفيق “ع م ب” الذي يقدم نفسه على أنه “مظلوم”، “صارع في الحزب ولم يسمعه أحد”، والرفيق “س ح” و”ع ج م” اللذين يحاولان تنظير التوجّه الجديد، كل من زاويته ولكن يلتقيان في تفسيخ الحزب تنظيميا وفكريا، ظنّا منهم أن المسألة لا تتعدّى أن تكون مسعى للمطالبة بتوسيع الديمقراطية داخل الحزب. إن طريق جهنّم مليء بالنوايا الطيبة كما يقال. إن “س ح” وغيره من رموز التكتل لا يعترفون بالديمقراطية إلا على طرف اللسان، أما في الواقع فهم غير ذلك. فلو كانوا ديمقراطيين حقا فما الذي منعهم من طرح أفكارهم على الطاولة ومناقشتها في الضوء داخل أطر الحزب وإن تمكنوا من إقناع الغالبية والفوز بقيادة الحزب في المؤتمر، فليمضوا في مشروعهم ولتختر الأقلية المتمسكة بالهوية الثورية الماركسية اللينينية للحزب إما البقاء والصراع من داخل الحزب أو الخروج بشرف وتكوين حزب آخر. ولكن الجماعة على قناعة بأنهم غير قادرين على جرّ غالبية الحزب معهم، لذلك خيّروا أسلوب التكتل والضغط وتشويه المواقف والمغالطة.
كيف نتقدم بحزينا؟
إن حزبنا يشكو من نقائص وهنات عديدة بل لا نخشى البتة من القول إن حزبنا يعيش بمعنى ما أزمة. وهذه الأزمة تتكثّف، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، في قصوره عن تجذير نفسه في الطبقة العاملة والكادحين في المدن والأرياف وكسب عناصرهم الواعية والتحول إلى طليعة عضوية لهم وانحساره طبقيا وأساسا، رغم تحقيقنا لخطوات محتشمة في الالتحام بالشغيلة والفلاحين الفقراء والمعطلين عن العمل، في الوسط البورجوازي الصغير. ولا يمكن تفسير هذا القصور بأمور تنظيمية أي بغياب خطط للانغراس فقط، فما ذلك إلا جانب وهو ليس بالجانب الأهم. إن المسألة فكرية/نظرية أولا تتعلق بمدى الاقتناع بدور الطبقة العاملة التاريخي في العالم وفي بلادنا. وهي ثانيا سياسية متعلقة بالقدرة على ترجمة تلك القناعة النظرية إلى برامج وخطة لحسم قضية السلطة لفائدة الطبقة العاملة وحلفائها الطبيعيين في الثورة من كادحي المدن والأرياف، وهي ثالثا تنظيمية عملية متعلقة أيضا بالقدرة على وضع خطط الالتحام وتوفير الأدوات التي تمكن من الوصول إلى العمال والكادحين وتنظيمهم وتعبئتهم.
كل هذه القضايا تطارحناها في السابق وستكون محورا رئيسيا لنقاشاتنا في المؤتمر أيضا. وسوف لن نتوانى عن مواصلة طرحها والبحث في السبل المؤدية إلى تطوير حزبنا دون الخروج عن خطنا الثوري الماركسي اللينيني الذي اخترناه هويّة لحزبنا منذ التأسيس والذي لازلنا مقتنعين بصحته. وما من شك في أن الظروف التي نناضل فيها ليست سهلة لا في تونس ولا في العالم، فموازين القوى ما تزال مختلّة لصالح البورجوازية الاحتكارية والرجعية، والأزمة لا تمس حزبنا فقط بل كل الحركة العمالية والشيوعية في العالم، وحركة العمال والكادحين والشعوب لم تخرج بعد بشكل حاسم وعام وشامل من حالة التراجع والتشتت التي تعيشها منذ عقود وخصوصا منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. وفي هذا السياق فإن جهد التجاوز لن يكون محليا فقط بل عالميا أيضا وفي إطار التطوير الخلاق للنظرية الثورية التي وضع أسسها ماركس وطورها لينين. ولا ننسى أن اللينينية ذاتها نشأت من رحم الأزمة التي عرفتها الحركة العمالية والشيوعية مع الأممية الثانية. وكان لينين، على عكس المنظرين “الماركسيين” الآخرين المنهزمين أمام البورجوازية، حافظ على الجوهر الثوري للماركسية وطوّره في كافة المجالات الفلسفية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وقاد أولى ثورة ظافرة للمضطهدين في العالم والتاريخ.
في الأخلاق الثورية وفي التعاطي المبدئي مع الخلافات
كنا تعرّضنا في البداية لمسألة مهمة وهي ضرورة التركيز، في الصراعات الفكرية والسياسية، كما هو الحال الآن مع التكتل الذي ظهر في حزبنا، على القضايا الأساسية واجتناب السقوط في الترهات والسفاسف التي تطمس هذه القضايا وتحوّل الصراع إلى معركة “قيل وقال”، مقلقة ومحبطة ومُنَفّرة لا يستفيد منها إلا من يرغب في الانحراف بالصراع عن محوره أو محاوره الحقيقية أو القوى الرجعية. وقد أثنينا عَرَضًا على الرفيق “س ح” الذي قلنا إن من ميزاته أنّه لا يخفي بالمرة مواقفه الفكرية والسياسية ولا حتى ما يريد الوصول إليه. ولم يتردّد في إعلام هيكله وإعلام عضو اللجنة المركزية المشرف عليه وعلى الهجرة باجتماعات التكتل ناهيك أنه كان طالب “ع م ب” و”ع ج م” وغيرهما من عناصر التكتل الفاعلين بإعلام قيادة الحزب باجتماع المنستير قبل أسبوع من انعقاده واستدعاء عضو من القيادة ليحضره وعندما بلغ إلى علمه أنهم تكتموا على الاجتماع ولم يعلموا قيادة الحزب استغرب رغم أن ذلك لم يمنعه من مواصلة الدفاع عن التكتل وحضور اجتماعاته.
ولكن سلوك الرفيق “س ح” ليس سلوك بقية عناصر التكتل وخاصة الرفيقين “ع ج م” و”ع م ب” اللذين لم يتردّدا في استعمال أساليب أقلّ ما يقال فيها إنها لا تليق بمن يدّعي أنه “ثوري” وأن هدفه “إصلاح أوضاع الحزب” و”مقاومة البيروقراطية داخله” و”إشاعة الديمقراطية في صفوفه”. إن من يطرح على نفسه هذه المهمة مطالب بحدّ أدنى من الصّدقية في تشخيص الأوضاع ومن النزاهة في نقل المعطيات لرفيقاته ورفيقاته حتى لا تقع مغالطتهم ودفعهم إلى تبنّي أفكار مسبقة عن رفاق لهم في القيادة وحتى عن القيادة ككل أو عن بعض إطارات الحزب في هذه الجهة أو تلك ممّا يجعلهم ينفرون منهم أو حتى يستعدونهم بلا سبب خاصة أن العديد منهم بحكم قلة التجربة أو بسبب العلاقات الذاتية لا يكلّف نفسه عناء التثبت ممّا يقال له أو حتى التفكير مليّا فيما يُجرّ إليه سياسيا وهو ما نراه في نقاشات الكتلة إذ أن بعض الذين يكتبون أو يردّون الفعل يكررون تقريبا نفس العبارات والجمل “حول البيروقراطيّة”.
إن النص “المؤتمر القادم للحزب: البيروقراطية تقود الحزب نحو الانهيار”، الذي رد به الرفيق “ع ج م” على نص الرفيق “ج ه” المنشور في العدد الثالث من النّشرية الداخلية يمثّل نموذجا لما يمكن أن يصل إليه تزوير الوقائع والسقوط في الذاتية التي لا هدف منها سوى تركيب أو افتعال “حجج” لاتهام القيادة “بالبيروقراطية” والرفيق “ج ه” بشكل خاص بتزعّم هذه البيروقراطية وحتى بالسيطرة على القيادة والحزب لمغالطة الرفاق ولإيجاد تبريرات للممارسات التكتلية التي يأتيها “ع ج م” وبقية متزعمي التكتل. ففي هذا النص يقول الرفيق “ع ج م”: “بالنسبة لي مثلا كنت دائما أحتج في اجتماعات القيادة على احتكار المسؤوليات من طرف بعض أعضاء القيادة دون غيرهم وخاصة الجيلاني الهمامي الذي كان يشرف على نصف اللجان الجهوية في الحزب وعلى اليسار النقابي واتحاد الشباب ولجنة التنظيم ويحضر اجتماعات قيادة مساواة ويتدخل في كل كبيرة وصغيرة”.
إن من يطلع على هذا الكلام، وهو على غير دراية بحقيقة الأمور، يذهب في ظنه أن أوضاع الحزب الداخلية مهترئة من زمان وأن البيروقراطية والتفرد بالمسؤولية معششة فيه ومزمنة، وبالتالي لا يمكنه إلا أن ينزعج ويقول “إذا وصل حزب العمال إلى هذه الحالة فعلى الدنيا السلام، وهل ثمة من بقرطة وتسلط أكثر من هذا؟”. والواقع أن هذا هو الانطباع الذي يريد أن يسرّبه الرفيق “ع ج م” للمناضلات والمناضلين ممن ليسوا على اطلاع على الحياة الداخلية للحزب خاصة أولئك الذين تنقصهم الخبرة وقد لا يخطر ببالهم أن “ع ج م” قد يستعمل سلاح الافتراء وقلب الحقائق كي يحقق هدفه. وبالطبع فإنه لا يمكن مواجهة “ع ج م” إلا بالوقائع لأن الوقائع لجوجة (les faits sont têtus). إن من سوء حظ “ع ج م” أنه يتحدث عن وقائع قريبة لا بعيدة في الوقت وهو ما يعني أن الرفيقات والرفاق الذين عايشوها موجودون وقادرون على استحضارها والحكم عليها. كما أنه يتحدث عن أشياء كلها مدونة في محاضر جلسات اجتماعات اللجنة التنفيذية واللجنة المركزية واللجان الجهوية ولا أحد قادر على تزويرها أو نكرانها.
إن ما ذكره الرفيق “ع ج م” من أن الرفيق “ج ه” كان يشرف على نصف اللجان الجهوي للحزب وعلى اليسار النقابي واتحاد الشباب ولجنة التنظيم الخ….” هو كذب في كذب. فمثل هذا التمركز في توزيع المسؤوليات لم يحصل مطلقا في تاريخ حزبنا علاوة على أنه غير مقبول مبدئيا. فلا الرفيق “ج ه” ولا غيره من الرفاق حصل له أن أشرف على “نصف اللجان الجهوية” (أي 10 أو 12 لجنة جهوية) أو حتى على ثلثها أو ربعها مع إشراف على منظمات الحزب في نفس الوقت، أضف إلى ذلك كله أنه أمر غير ممكن عمليا حتى لمن هو متفرغ بالكامل للنشاط فما بالك بمن هو يشتغل أو هو عضو بالبرلمان. وبصورة ملموسة فإن الرفيق “ج ه” أشرف في الغالب على جهة واحدة، كما هو الحال في الوقت الراهن (سليانة) واستثناء، على جهتين ، “لسد فراغ أو لتعويض وقتي” (مرة في جهة منوبة وأخرى في جهة بن عروس)، في حين أن غيره من الرفاق (ع ع، ك ع، م خ، الخ…). يشرف على جهتين وأحيانا على ثلاث جهات (لأسباب جغرافية وحسب التفرغ). ولم يكن إشراف الرفيق “ج ه” أو غيره من الرفاق على أكثر من جهة بطلب منهم أو رغبة في “إحكام القبضة على الحزب” بل بطلب من القيادة. ومن سوء حظ “ع ج م” أن كل قرارات الإشراف موثقة ورغم أنها من صلاحيات اللج التن فإنها غالبا ما تتخذ صلب اللج الم.
إن الرفيق “ج ه” هو من الرفاق الذين يبدون دائما الاستعداد للقيام بالمهام التي تطلب منهم حتى لو كان ذلك على حساب شغله (قبل الوصول إلى البرلمان) أو على حساب راحته (يعد دخول البرلمان). كما أن “ج ه” هو من الرفاق القلائل الذين يبادرون دائما بالكتابة سواء تعلق الأمر بالتقييم أو بتقديم المقترحات أو بالإعلام أو بتقديم وجهة نظر من هذه المسألة أو تلك، اقتناعا منه بأهمية المكتوب. وهو أيضا من أشد الرفاق إصرارا على ضرورة المحاسبة وتطوير أداء الرفاق القياديين. وهذا ما يحرج أحيانا بعض الرفاق الذين لا يقبلون النقد أو يرون في المحاسبة “تسلطا”. وعدا ذلك فالرفيق “ج ه” لا هو فوق النقد ولا هو فوق الحزب، ولا هو معصوم من الخطأ ولا هو ليست له نقائص أو هو لا يرتكب أخطاء، فكم مرة وجد نفسه، كما وجد قياديون آخرون بمن فيهم الأمين العام أنفسهم، في موقع الأقلية ولم يثر ذلك أي إشكال. وإلى ذلك كله فلا يمكن للرفيق “ع م ب” أو أي رفيق آخر من الرفاق المنسحبين أو المستقيلين الادّعاء أنه كان الأكثر نقدا للرفيق “ج ه” أو “احتجاجا عليه” بسبب موقف أو ممارسة.
هذا في خصوص الإشراف على الجهات. أما في خصوص المهام المركزية فهي ليست بدعة. فأعضاء القيادة يتولّون، بالإضافة إلى الإشراف على الجهات، مهاما مركزية توزع بينهم حسب الاستعدادات ودرجة التفرغ. وخلافا لما يروجه “ع ج م”، الذي أشرف لمدة سنوات على الجريدة، فإن “ج ه” لم يشرف في أي مرحلة من المراحل على اليسار النقابي الذي ظل تحت إشراف الرفيق “ح ت” إلى أن انسحب بمحض إرادته ووقع تعويضه برفيق آخر. أما اتحاد الشباب فقد ظل منذ 2011 تحت إشراف الرفيق “ص ع” إلى حدود 2015، مع العلم أنّه طلب هو شخصيا أن يساعده الرفيق “ج ه” في مهمته مع مواصلته هو الإشراف، ولم يطرح ذلك أي إشكال للرفيق “ج ه”. وعندما انسحب الرفيق “ص ع” واصل الرفيق “ج ه” الإشراف بطلب من اللج التن بحكم معرفته بالرفاق المشرفين على القطاع، ولم يقبل ذلك إلا بشرط تعويضه في أسرع وقت نظرا إلى كثرة انشغالاته. وفي خصوص دائرة التنظيم (وليس لجنة التنظيم حتى لا يفهم أنها لجنة تأديبية) فهي لم تكن حكرا على الرفيق “ج ه” وحده بل تولى الإشراف عليها أيضا الرفيق “ص ع” ثم تولاها الرفيق “ج ه”، قبل إعادة الهيكلة الأخيرة التي تم الاتفاق فيها على تكوين “قيادة عملية” تعنى بالتنظيم والنشاط الميداني. وللتذكير فقد تمّ اقتراحها على بعض الرفاق الآخرين إلا أنه اعتذر (ح ت). وكانت هناك قناعة بعد فشل الرفيق “ص ع” في هذه المهمة أن الرفيق “ج ه” هو، من بين الرفاق الموجودين في العاصمة الأقدر عليها، ولم يوجد أي رفيق اعترض على ذلك بل إن الجميع ألحّ عليه لتولّي الإشراف على دائرة التنظيم. أما الحضور مع المكتب الوطني لمساواة فهو ليس حكرا على الرفيق “ج ه” فالمكتب، مثله مثل مكتب “اليند” ومكتب “اتحاد الشباب، حتى والرفيق “ج ه” يشرف عليه، يستدعي في كل مرة، حسب الحاجة وحسب التفرّغ، هذا الرفيق أو ذاك من اللجنة التنفيذية للمساعدة على توضيح موقف أو حلّ إشكال،
هذا هو الواقع. وقد كان الأحرى بالرفيق “ع ج م” أن يتحلى بالنزاهة وأن لا يسقط في الافتراء، ظنا منه أن ذلك هو السبيل لمغالطة من معه من “الأنصار”. وعلى فرض أن “ع ج م” كان يريد حقا الاحتجاج على مراكمة المسؤوليات، فلماذا لم يطرح مثلا واقعة حقيقية وهي أن الرفيق “ص ع” راكم من المسؤوليات ما لم يراكمه أي عضو في القيادة. وقد كان من المتحمّسين لذلك الرفيقان “ع م ب” و”ل ك”. فالرفيق “ص ع” كان عضو “ل م” وعضو “ل ت” ومشرفا على “دائرة التنظيم” وعلى اتحاد الشباب وعلى الجريدة وعلى جهة جندوبة الخ… وهو ما وقفت عنده، كخطأ، اللج الم حين قيّمت تجربة الرفيق “ص ع” وانسحابه من الحزب بشكل فجائي وانخراطه في مشروع سياسي آخر. هذا الأمر لا يثيره لا “ع م ب” ولا “ع ج م” ولا “س ح” لأن ما يقودهم ليس تصحيح أوضاع الحزب بل تشويه قيادة الحزب والرفيق “ج ه” خاصة لإيجاد الذرائع لشحن المناضلات والمناضلين ضدّ القيادة وتفسيخ الهوية الفكرية والسياسية والتنظيمية للحزب.
أما في خصوص مسألة لماذا لم يسند الإشراف على بعض الجهات للرفيق “ع ج م”؟ وهل هو كان يعاني حقا من “الإقصاء الممنهج من كل عمل حزبي”؟ إن الانتماء إلى اللجنة المركزية لا يعني بالضرورة تولّي الإشراف على جهة من الجهات. فالإشراف يتطلب ميزات محدّدة ليست بالضرورة متوفرة عند كل عضو من أعضاء اللجنة المركزية وهي التمتّع بدرجة معينة من التكوين الفكري والسياسي والقدرة على إدارة الهيكل والاستجابة لحاجات المناضلين علاوة على حد أدنى من التفرغ. وقد عانى الحزب من قلة الرفاق الذين يستجيبون لمثل هذه الشروط وهو ما أدى في أكثر من مرة إلى تغيير الإشراف بطلب من الجهة أو أحيانا بطلب من الرفيق المشرف ذاته. فأعضاء اللجنة المركزية فيهم من له قدرات عملية كما أن فيهم من له اختصاص في العمل النقابي أو غيره من الأنشطة ولكن ليس بالضرورة له كفاءة في الإشراف. والرفيق “ع ج م” هو أحد هؤلاء. فقد ظل، بحكم ظروف النضال في عهد الدكتاتورية بعيدا عن هياكل الحزب واعتنى بشكل خاص بالجريدة والطبع. وحتى بعد الثورة فقد واصل الإشراف على الجريدة لمدة هامة. وكانت ثمة قناعة لدى معظم رفاق القيادة أنه لا يقدر على الإشراف، فالرفيق محدود التكوين الفكري والنظري، وهو بخيل من هذه الناحية، لا يبذل جهدا لتوسيع اطلاعه وتطوير معارفه في الفلسفة والاقتصاد والسياسة، كما أنه متذبذب من الناحية السياسية فيمكن أن يمرّ من الموقف إلى نقيضه (مثلا الدفاع عن جبهة واسعة مع نداء تونس ثم الاعتراض …). وبالفعل فإن رفاقا كالذين يذكرهم وهم ليسوا أعضاء في اللجنة المركزية في وقت من الأوقات (بعضهم التحق باللج الم بعد المؤتمر الأخير) هم أكثر تمرسا منه على الإشراف وليس في هذا أي استنقاص منه.
إن الرفيق “ع ج م” له قدرات في مجال الأدب. وقد ناقش معه الأمين العام للحزب قبل المؤتمر السابق هذه المسألة (وأعاد طرحها أمام نواب المؤتمر بشكل واضح)، وأقنعه بأن تواجده في أحد أطر الحزب الناشطة في الحقل السياسي أو النقابي لن يمكنه من تقديم ما يمكن له أن يقدمه لو ركز اهتمامه على مجال الأدب والثقافة، مذكّرا إياه بتجارب كثيرة في الحركة الشيوعية العالمية، ومن ثمة تم الاتفاق معه على بعث دائرة تعنى بالثقافة في الحزب. وهو ما لا يشير إليه “ع ج م” حين ذكر أنه تقدم بمقترح لبعث دائرة ثقافية فالمقترح جاء له من الأمين العام. وإلى ذلك فإن “ع ج م” يقرّ أن القيادة اعترفت بالتقصير في إنجاز هذا المشروع، كتقصيرها في مجالات أخرى ونقدت ذاتها، ولكنه يتكتم على بقية الحديث، فقد وجّه إليه الأمين نقدا على سلوكه وعلى ابتعاده على الحزب وعدم حرصه على النشاط بل ارتياحه لنمط الحياة البورجوازي الصغير الذي انغمس فيه. لقد ظل “ع ج م” يكتب في الجريدة باستمرار ولم تغلق أمامه الأبواب. كما كان يأتي إلى مقر الحزب ولكنه لم يفكر ولو يوما واحدا في أن يدفع مساهمته كعضو. والأنكى من كل ذلك أنه يزعم أن مشروع الدائرة الثقافية لم يُحَرّك إلا بعد أن بدأت “الحركة الاحتجاجية داخل الحزب…” والحال أن تحريك مشروع الدائرة تمّ في صائفة 2017 وضبطت ملامحه بشكل نهائي واتفق عليه في اللجنة التنفيذية قبل أن يقدم “ع م ب” استقالته. وعندما طلب من “ع ج م” تفعيله في مراسلة بتاريخ 8 فيفري 2018 لم يفعل ذلك ثم تذرّع بالانتخابات البلدية والحقيقة أنه وقتها كان قد انخرط مع “س ح” و”ع م ب” في العمل التكتلي.
كل هذا يبيّن أن الرفيق “ع ج م” يلتجئ إلى الافتراء لتبرير تهجّمه على القيادة وعلى الرفيق “ج ه” وتسويق فكرة أنه هو “الفاتق الناطق” في الحزب، وأنه أي “ع ج م” مُقْصَى، ليجد ما يبرّر به استنتاجاته حول الوضع في الحزب، وهو ما يواصل تسويقه عند الادّعاء بأن ما تعرّض له من عدم تكليف بالإشراف على هيكل حزبي ليس: “تقصيرا بل هو سلوك بيروقراطي ممنهج لا يقتصر على شخصي فحسب وإنما يطال كل من يعبّر عن وجهة نظر مختلفة مع القيادة”. كذب في كذب. هذا أقل ما يقال في كلام كهذا. ويا ليت “ع ج م” أعطى مثالا واحدا على رفيق عبّر عن “وجهة نظر مختلفة مع القيادة” وأُقْصِيَ. إن “ع ج م” يتقن لعب “دور الضحية”، وربّما خياله الأدبي يساعده على ذلك. ولكن الخيال الأدبي حين يستعمل في قلب الحقائق وفي تشويه الرفاق يصبح خيالا مريضا. ولنا فيما يرويه “ع ج م” فيما أصبح يسمّى قضية “النصوص” التي ترفض القيادة البيروقراطية نشرها وتعميمها مثالا على ذلك.
يدّعي “ع ج م” أن هيئة تحرير النشرية الداخلية “لا تتعامل مع النصوص بنفس الكيفية فنصوص الجيلاني مثلا تصدر في وقتها ودون ردود في حين تصدر نصوص من تعتبرهم القيادة “متكتّلين ومخرّبين” متأخّرة عن تاريخ كتابتها ومصحوبة بردود ما يؤثر على راهنيتها وجدواها وتأثيرها…” وهو يضيف في موضع آخر متحدّثا عن نفس الموضوع: “ورفضت القيادة نشر نصّي موضوع رد الجيلاني ولم تقم بنشره إلا بعد اندلاع الحركة الاحتجاجية وبعد أن أصبح ردّ الجيلاني جاهزا…”. فما هي علاقة هذا الكلام بالواقع؟ إن الأمر يتعلق بنص كتبه “ع ج م” بتاريخ 15 أكتوبر 2015 بعنوان: “مبادرة لإعادة هيكلة المؤسّسات القيادية للحزب”. قبل أن يصل هذا النص إلى قيادة الحزب سرّبه الرفيق إلى عدد من الرفاق الذين يعتبرهم من “الغاضبين” على مجريات مؤتمر الحزب (جوان 2014). ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحد فقد بدأ بإجراء اتصالات من أجل تجميع الأنصار أو بالأحرى تشكيل تكتل للضغط على القيادة. وفي هذا السياق بادرت الرفيقة “ن ر” بالاتصال بأحد الرفاق ممّن تجمعها به علاقة صداقة، بالوطن القبلي، وحدّثته عن “المشروع” فما كان منه إلا أن انتقدها وانتقد أسلوبها وطالبها بطرح ما تريده من مواضيع وتوجيه ما تريد توجيهه من نقود داخل أطر الحزبية وليس بهذه الأساليب اللامبدئية. وقد وجّه الرفيق المعني تقريرا للجنة التنفيذية في الموضوع. ووقع الاجتماع مع الرفيقة المعنية (الأمين العام ونائبه أي الرفيق “ع م ب”) وقد أقرت بخطإها والتزمت بعدم القيام مستقبلا بهذه الممارسات. وهو ما استنتج منه الرفيق “ع ج م”، وهذا ما قاله بعظمة لسانه في لقاء معه، بأن “موازين القوى لم تكن مناسبة في ذلك الوقت لتشكيل معارضة داخلية ضدّ القيادة”.
هذا من ناحية الظروف التي حفّت بذلك النص. أما من حيث المضمون، فالنص يكرّر، كما ذكرنا ذلك أعلاه، نفس المقترحات التي كان قدّمها الرفيق “ع ج م” قبل المؤتمر السابق وأثناءه وكانت نوقشت ورفضت لأنها لا علاقة لها بمبادئ التنظيم الثوري، الماركسي اللينيني، ومع ذلك فالرفيق قدّمها من جديد وطالب بتعميمها والنقاش حولها وكأن الحزب أصبح مجرّد ناد للنقاش وكأن ما حسمه فيه المؤتمر لا معنى له. والواقع أن القيادة قررت نشر نصّ الرفيق في المدة الأخيرة حتى لا تبقى له ذريعة لا أكثر ولا أقل، ولكن “ع ج م” ذهب إلى بعيد مدّعيا أن القيادة لم تنشر نصه طوال السنوات الثلاث الأخيرة (من أكتوبر 2015 إلى سبتمبر 2018) إلا “بعد أن أصبح رد الجيلاني جاهزا…” وهو أمر مضحك ومقرف في نفس الوقت لأن ما يتحدث عنه “ع ج م” لا يحصل حتى في الأحزاب “الكاراكوزية” فما بالك في حزب العمال. إن ردّ الرفيق “ج ه” موجود منذ شهر ديسمبر 2015 ـ جانفي 2016 (ويمكن التأكّد من ذلك بالرجوع للبريد الإلكتروني لأن “ج ه” كان أرسله إلى الأمين العام، “ح ه” الذي أراد الاطلاع عليه بمناسبة زيارته لهيكل جنوب فرنسا يوم 16 جانفي 2016 وكان الرفيق “س ح” أثار هذا الموضوع في الاجتماع). ولم تر القيادة وقتها فائدة لا من تعميم نص “ع ج م” ولا من تعميم ردّ “ج ه” لأن أفكار “ع ج م” قديمة وما تضمّنه الرد من أفكار ليس جديدا في الجوهر عدا إضافات وتدقيقات تستند إلى تجربة البلاشفة. إن الحزب ليس نادي مثقفين حتى يستجيب لكل دعوة لفتح نقاش عام حول هذا الموضوع أو ذاك الذي يشغل مناضلا من المناضلين خاصة إذا كان المؤتمر حسم فيه مع العلم أن القوانين الداخلية للحزب ضبطت شروطا لفتح النقاش العام. إن الحزب إطار للعمل والنضال وهو مطالب بمجاراة الأحداث لأن الواقع لا ينتظر المتأخرين (les retardataires)
ثم ما هي “نصوص الجيلاني التي تصدر في وقتها ودون ردود”؟ وهل أن “الجيلاني” وحده هو من يكتب نصوصا في الحزب؟ لماذا لم يتحدث “ع ج م” عن نصوص “ع ج” و”ع ب” و”م ز” و”ح ب م” التي صدرت بالنشرية؟ هل هي نصوص قديمة وهل نشرت مصحوبة بردود؟ وعن أية نصوص أخرى “للمعارضين للقيادة” يتحدث “ع ج م”؟ أين هي هذه النصوص التي تأخّرت القيادة في نشرها؟ نص الرفيق “س ح” حول “الحزب اليساري الكبير الذي بادر بنشره في الحوار المتمدن؟ أم نصه الأخير “حول أزمة الحزب” الذي وزّعه على العديد من مناضلي الحزب قبل حتى أن يصل إلى القيادة، مع العلم أنه نشر في العدد الأخير من النشرية؟ وما هو المشكل في أن يصدر نصّ ومعه ردّ أم أن “ع ج م” يريد أن تصدر “نصوص المعارضة دون ردود” حتى يأخذ ما فيها من افتراءات وقته للرواج قبل الرد عليه؟ ثم لماذا كل هذا التركيز المشين على الرفيق “ج ه”؟ هل بمثل هذه الطرق والأساليب التي تعتمد الافتراء والتشويه يراد كسب “الأنصار” لأطروحات ما يسميه الرفيق “س ح” المعارضة؟ وهل مناضلات الحزب ومناضلوه على درجة من السذاجة تجعلهم لا يفهمون بسهولة أن الهجوم على “ج ه” هو الغطاء للهجوم على القيادة ككلّ وعلى خط الحزب الفكري والسياسي؟. لقد ردّ أحد رفاق اللج الجهوية بتونس على أحد قادة التكتل الذي كان يسبّ ويشتم “ج ه” في أحد الاجتماعات: “إذا كان “ج ه” هو سبب كل الشّرور فما رأيك لو نطرده، فهل ستقول وقتها إن البيروقراطية انتهت في الحزب وأن الديمقراطية سادت وعمّتْ”؟
إن مزاعم الرفيق “ع ج م” لا تقف عند هذا الحد. فهو يروج في بعض الأوساط الديمقراطية القريبة من الحزب أو من الجبهة أو من اليسار بشكل عام، أنه “أطرد من الحزب لا لشيء إلا لأنه عبّر عن رأي مخالف داخل الحزب أو لأنه انتقد القيادة والبيروقراطية داخل الحزب” أو لأنه “طالب بفتح نقاش عام حول أوضاع الحزب”. وهو ادّعاء كاذب. إن حزب العمال لا يطرد مناضليه لأن لهم أفكارا مخالفة للقيادة. ولو كان ذلك صحيحا فلماذا لم يُطرد “ع ج م” نفسه الذي ظل يخبط خبط عشواء في صفحته الفايسبوكية معبّرا في العديد من المرات عن مواقف لا علاقة لها بمواقف الحزب، آخرها بمناسبة الانتخابات البلدية إذ دافع عن التحالف مع “النهضة” أو “النداء” في تشكيل المجالس البلدية ضاربا عرض الحائط موقف الحزب والجبهة الشعبية وهو ما أحدث لنا حرجا مع مكونات الجبهة. ولماذا لم يطرد “س ح” الذي تبنّى التروتسكية كما ذكرنا أعلاه وعبّر عن ذلك في صفحته الفايسبوكية وفي الهيكل الذي ينتمي إليه؟ وهو ادّعاء كاذب أيضا لأن القيادة لم ترفض فتح نقاش عام حول أوضاع الحزب بمناسبة المؤتمر بل دعت “ع م ب” و”ع ج م” و”س ح” إلى التوجّه بما يريدون إلى الحزب وإن شاءوا إلى القيام بذلك كتابة أو بالحضور المباشر. ولكنهم رفضوا لأنهم يدركون جيدا أن الأساليب الديمقراطية لن تمكّنهم من تمرير مواقفهم ومن فرضها على الحزب فعمدوا إلى التكتل وإلى الاستنجاد بعناصر لا علاقة لها بالحزب بدعوى أنها مقصيّة أو هي من ضحايا البيروقراطية وهو ما لم يفلحوا فيه ووجد صدّا من مناضلات الحزب ومناضليه.
إن الرفيق “ع ج م” أطرد من صفوف الحزب بسبب أعمال تكتليّة وانشقاقيّة واتصالات جانبيّة بالمناضلات والمناضلين وتحريضهم على الانشقاق بما يتنافى والقوانين الداخلية للحزب. ولم يتّخذ القرار بشأنه إلا بعد مناقشات دامت أشهرا وكان كل مرّة يتظاهر بكونه حريصا على وحدة الحزب بل أكثر من ذلك فقد كان يصرّح بأن “ع م ب” بلا مشروع وبأن “س ح” تروتسكي وهو يختلف معه الخ… ولكنه كان في داخل الكتلة المنظر للتكتل والانشقاق والمُروّج للافتراءات بشأن رفاقه في الحزب والقائم بالاتصالات الجانبية والداعي للاجتماعات الموازية وإلى تكوين أطر موازية أيضا. وهو ما حاول تبريره والتنظير له في ردّه على “ج ه”. فقد قال: “إن النضال ضد البيروقراطية في الأحزاب الماركسية اللينينية غالبا ما يأخذ طابعا احتجاجيّا خارج الأطر الرسمية للبيروقراطية للضغط عليها قصد إجبارها على مراجعة سلوكها البيروقراطي خاصة عندما يصبح النضال ضد هذه البيروقراطية غير ممكن تحت قبة البيروقراطية (داخل الهياكل) التي تجنح دائما للتصفية والتضييق على معارضيها الخ…”.
لقد قرّر “ع ج م” وحده أن قيادة الحزب بيروقراطية. وأنها تُصَفّي معارضيها وتضيق عليهم. كما قرّر وحده أنه هو الماركسي اللينيني وأنّ الماركسيين اللينينيين اعتادوا الاحتجاج من خارج الأطر الرسمية للضغط على البيروقراطية الخ… والحال أنّ ما قدمه من أفكار حول التنظيم في نصه “مبادرة لإعادة هيكلة …” لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بأسس تنظيم الحزب الثوري الماركسي اللينيني كما وقع تبيان ذلك في مؤتمر الحزب وفي ردّ الرفيق “ج ه”. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الكذب والافتراء وتزوير الوقائع ما كان يوما من أخلاق الثوريين الماركسيين اللينينيين الذين يحرصون دائما على الالتزام بالموضوعية والدقّة في تناول الأشياء حتى لا يسقطوا في استنتاجات خاطئة، كما يحرصون، لا على الاحتجاج من خارج الهياكل، بل على الصراع الفكري والسياسي من داخل الهياكل قبل اللجوء إلى الانشقاق.
وإلى ذلك من منع “ع ج م” و”ع م ب” و”س ح” وغيرهم من التعبير عن آرائهم وتعميمها داخل الحزب؟ بل ما هي مثلا النصوص الفكرية والسياسية التي قدّموها ورفضت عدا النّصين اللذين ذكرنا ظروف إصدارهما؟ وهل لعناصر التكتل أصلا أفكار وبرامج ومقترحات وتكتيكات يقدّمونها حتى داخلهم ليتحدثوا عن رفض القيادة للصراع الفكري والسياسي؟ إن الرفيق “م/ز” لم يخطئ حين تحدث، في مقاله المنشور بالعدد الثالث من النشرية (سبتمبر 2018) بعنوان: “أوضاع الحزب… إلى أين؟” عن “لفيف غير متجانس، لا يجمع أعضاءه سوى الاختلاف مع قيادة الحزب وسوء الحظ… ضمن هذه المجموعة نجد المرهق اليائس، المأزوم المتقاعس، المُنظّر لوجهة نظر غريبة عن مرجعية الحزب، نجد من يريد أن يتقمّص دور الضحية أو أن يلعب دور البطولة ونجد من يسعى إلى استرداد نضارة ضيّعتها العلنية، من يريد أن يصفّي حسابات شخصية وكذلك نجد من أخطأ الحزب في حقّه أو في أسلوب التعامل معه…”. وفي الحقيقة قد لا نجد وصفا لتكوين التكتل أفضل من هذا الوصف.
وأخيرا وليس آخرا هل ثمة من حجة على التكتل وعلى مسعى شق صفوف الحزب ورفض النقاش داخل هياكل الحزب أوضح مما جاء في العريضة التي أصدرها الجماعة في “ندوة السبت والأحد 1 و2 ديسمبر 2018” بهدف توجيها إلى مناضلات الحزب ومناضليه لحثّهم على مقاطعة المؤتمر؟ لقد جاء في هذه العريضة ما يلي: “أمام انخرام الوضع التنظيمي وعجز القيادة عن تعميم النقاش اضطررنا إلى تنظيم اجتماعات بالرفاق المعارضين للنهج البيروقراطي (من هم هؤلاء الرفاق؟ وهل هم أعضاء في الحزب؟ من عندنا) لتناول وضعية الحزب وتحسيس باقي الرفاق بخطورة الأوضاع. وعوض أن تتفاعل القيادة إيجابيا مع هذه المبادرة، اعتبرتها ممارسة تكتلية تهدد وحدة الحزب. كما تجاهلت كل العرائض والنصوص والبيانات والمبادرات التي وجهناها إليها. وعوض فتح نقاش معمق في جوهر قضايا الحزب، اشترطت أن يكون الحوار بصفة فردية وبشرط إيقاف الاجتماعات خارج الهياكل الرسمية…” كل هذا يبين ما قلناه أعلاه من أن الجماعة يتصرفون ككتلة ويرفضون النقاش داخل هياكل الحزب ويريدون فرض الأجندة التي يرونها هم “صالحة”. وفوق ذلك كله لو كانوا على حق من أن الحزب على درجة من “الانخرام التنظيمي” لا تسمح بالنقاش داخل الهياكل ولو كانت القيادة على درجة من “العجز” لا تسمح لها بإدارة النقاش صلب هذه الهياكل فلماذا لم ينسق وراءهم مناضلات الحزب ومناضلوه؟ ولماذا أجروا نقاشاتهم حول مواد المؤتمر داخل هذه الهياكل؟
في الخلاصة إن الرفيق “ع ج م” هو نموذج المثقف البورجوازي الصغير المغرور الذي لا يقبل النقد والذي يعتقد أن الحزب ينبغي أن يسير على هواه وأنه مباح له أن يفعل فيه ما يريد بلا محاسبة وإلا فإنه “بيروقراطي …”. وبطبيعة الحال فهذا النمط من السلوك يخدم خطة كل من “س ح” و”ع م ب” اللذين يعتبران أن حزب العمال “انتهى” وأنه يجب تعويضه بإطار آخر وهو “الحزب اليساري الكبير”. كما أنه يلبّي بعض النزعات الذاتية التي نجدها عند البعض ممّن ينخرط في التكتل لتصفية حساب أو لتحقيق هدف شخصي. ولكن في كل الحالات فإن ما يأتيه “ع ج م” وغيره من أفكار وممارسات تصفوية، لا يخدم في شيء الحزب والثورة، بل ربّما الشيء الوحيد الذي يستفاد منه بصورة غير مباشرة هو ضرورة الوعي بأنّ اللحظة قد حانت للنهوض بحزبنا وتخليصه من عديد الأمراض البورجوازيّة الصغيرة التي تعرقل تطوره.
إن كل رفيقاتنا ورفاقنا مطالبون بإيلاء هذه المسألة الأهمية القصوى. فربّ ضارة نافعة، والمخاطر التي تهدّد أي حزب في أية مرحلة من المراحل يمكن أن تُحوّلَ إلى فرص للتقدم والانتصار. إن حزبنا “لم ينته”، بل إن كل الظروف مواتية للانتقال به إلى مرحلة نوعية جديدة. كما أن الماركسية اللينينية لم تنته، بل إنّ ما يجري في بلادنا والعالم يبيّن أنها تكتسي اليوم راهنية كبيرة، ومن واجبنا أن ننطلق منها ومما حققته من مكتسبات لنثريها من خلال استيعابنا لواقعنا الحالي وما يطرحه من مهمّات على طريق تحقيق الثورة الاشتراكية.
ديسمبر 2018