خديجة حمدان
بعد الإطاحة بالمجرم عمر البشير وتمركز المتظاهرين المطالبين برحيل منظومة الحكم بأسرها وتسليم السلطة للمدنيّين نظّمت قوى إعلان الحرية والتغيير المتشكّل من أهم القوى السياسية التي قادت الثورة منذ بدايتها إلى الاعتصام أمام وزارة الدفاع بالخرطوم حيث يتواجد المجلس العسكري الانتقالي بقيادة “عبد الفتاح البرهان”. وخلال المدة الفارطة جرت مفاوضات مباشرة بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية نيابة عن المعتصمين.
ورغم أنه في البداية تمكّنوا من التقدم في مفاوضات المرحلة الانتقالية إلاّ أنّ الجيش ارتدّ إثر معطيات محلية تمثلت في دعم الحركات الإسلامية لهم ودعوتهم من ناحية أخرى إلى التشاور مع النظام المصري والسعودية والإمارات قبل عقد أيّ اتفاق مع قوى المعارضة والجماهير المنتفضة.
جولة إقليميّة وانقلاب على الثّورة من قبل الجيش
خلال الأيام الأخيرة من شهر ماي، أجرى “البرهان” عدة محادثات مع السعودية ومصر والإمارات حول الوضع في السودان وكيفية إدارة المرحلة القادمة وكيفية التعامل مع قوى الثورة. وتوّجت تلك الاتصالات بتنقّل رئيس المجلس العسكري السوداني إلى مصر لمقابلة عبد الفتاح السيسي ثم التوجّه إلى الإمارات، في حين زار نائبه وقائد قوات التدخل السريع السعودية وقابل محمد سلمان.
ومن الواضح أنّ الاتفاقات التي تمّ إبرامها انقلبت على الاتفاقات المبرمة مع قوى الحرية والتغيير وأبقت على المصالح المشتركة بين تلك الأنظمة وإدارة الوضع الحالي لربح الوقت أكثر ما أمكن لإجهاض الثورة وتنازل قواها عن مطالبهم الأساسية. وعند عودة رئيس المجلس العسكري ونائبه إلى السودان انطلقوا في تنفيذ الخطة المتمثلة في الارتداد على الاتفاقيات عبر فضّ الاعتصام المدني بالقوة العسكرية.
يوم 3 جوان وفي الصباح الباكر بدأت قوات التدخّل السريع بمعاضدة من مليشيات الجنجويد تزحف بسيارات شبه عسكرية يتمّ استعمالها عادة لتفريق المتظاهرين أو للهجوم المباغت لخفّة حركتها لتطويق الاعتصام ومحيط وزارة الدفاع، ثم انطلقت تلك القوات في عملية سريعة ومباغتة لحلّ الاعتصام مستعملة الأسلحة والذخيرة الحيّة عبر القنص المباشر والتنكيل بالضرب والمطاردة بالسيارات منفّذين بذلك مجزرة راح ضحيتها ما يناهز 198 قتيلا وحوالي 500 جريحا والعشرات من المعنّفين، كما أشعلوا النار في الخيام ممّا تسبّب في سقوط ضحايا حرقا تماما مثلما فعلوا سابقا بكل من كردفان ودارفور. وقد قامت قوات التدخل السريع بملاحقة المعتصمين وقنصهم على ضفاف نهر النيل كما تم دفع العشرات من الفارين من الدم ليموتوا غرقا.
أمّا في اليوم الثاني الموافق لـ4 جوان فقد أعلن المجلس العسكري عن خططه التي من أجلها قام بالمجزرة، حيث أعلن إلغاء كافة الاتفاقات المبرمة مع قوى إعلان الحرية والتغيير وتحميلها المسؤولية عمّا حدث، والدعوة إلى انتخابات خلال 9 أشهر وتشكيل حكومة تسيير مهام. بذلك يكون العسكر قد كشف عن مخططه الذي هندسه بمعيّة مصر والسعودية والإمارات وحدّد موقعه كقائد للثورة المضادة وسقوط قناع خطابه الداعم للثورة من أجل احتوائها.
استمرار السّودانيّين في مواجهة الجيش وضغط دولي على المجلس العسكري
إثر المجزرة الشنيعة، لم يتوقف الحراك الثوري السوداني بل استمر واندلع بعدة مدن تنديدا بالجريمة ومطالبة الجيش بتسليم السلطة إلى المدنيين. كما دعا إعلان الحرية والتغيير إلى الاستمرار في التظاهر وبدء نقاشات صلبه من أجل اتخاذ موقف موحد لمواجهة الجريمة وتحديد ملامح المرحلة القادمة.
أما على الصعيد الدولي فقد توسع التنديد بالجريمة مما جعل المجلس العسكري يتراجع عن قراراته إبان جريمته وعاد إلى دعوة قوى إعلان الحرية والتغيير إلى الحوار معتبرا إياهم “ليسو بالعدو”، كما أعلن عن إقالات في سلك القضاء في إشارة إلى أنه سوف يقوم بتحقيق في المجزرة التي ارتكبتها قوات التدخل السريع.
حزب الأمّة للصّادق المهدي يناور لكنّه يبقى في التسلّل
أعلن الصادق المهدي إثر المجزرة أنّ العلاقة بين المجلس العسكري وإعلان قوى التغيير متوترة ولا يمكن المصالحة بينهما، لذلك دعا إلى تشكيل تحالف جديد بنفس مكونات إعلان الحرية والتغيير ويتم توسيعه إلى قوى سياسية ومدنية أخرى. وكان الهدف منه شدّ الأمور إلى صالح حزبه أي حزب الأمة. إلاّ أنّ مناوراته تلك باءت بالفشل بتمسك كافة مكونات إعلان الحرية بالاستمرار في قيادة الثورة تحت نفس القيادة والنهج السياسي. حيث دعا الحزب الشيوعي السوداني وتجمع المهنيين وبقية القوى المشكلة للتحالف إلى استمرار التظاهر الشعبي وإعلان العصيان المدني الشامل.
كما دعت قوى الحرية والتغيير إلى إعلان العصيان المدني وعدم العودة إلى النقاش مع المجلس العسكري المجرم إلاّ لتسلم السلطة وهي الخطوة الحاسمة خلال الفترة القادمة، حيث أنّ التصعيد من كلا الطرفين على أشدّه وكافة الاحتمالات مفتوحة. في الأثناء اعتبر الصادق المهدي أنّ إعلان العصيان المدني لا يجب أن يكون مفتوح الآجال مخافة انزلاق البلاد إلى حرب أهلية.
مليشيات قوّات التّدخّل السّريع، من هم؟
يبدو من الوهلة الأولى أنّ قوات التدخل السريع عبارة عن فرقة عسكرية أو أمنية تابعة لمؤسسة الجيش. لكن عند التدقيق لفهم الواقع السوداني نقف عند معطيات مهمّة تساهم في فهم تطورات الأحداث وطبيعة المجزرة وأسبابها وما شاع من أنّ المجلس العسكري في خلاف مع قيادة قوات التدخل السريع إثر فض الاعتصام وقنص المعتصمين بالرصاص الحيّ. إنّ قوات التدخل السريع السودانية هي جسم عسكري متكون من عناصر قبلية عربية أساسا، وشكّلها عمر البشير حتى لا يورّط الأجهزة الحكومية في المجازر التي نفذها ضد القبائل والتمرد في الجنوب. وهي حديثة العهد إذ تأسست سنة 2013 كبديل لمليشيات الجنجويد المعروفة دوليا ببطشها وتورطها في الإبادة الجماعية في دارفور والمدعومة تاريخيا من قبل دول الخليج على القاعدة الشوفينية (عرب السودان). فهي عملية تحويل الجنجويد إلى اسم آخر وهو قوات التدخل السريع تحت قيادة ابن عمّ مؤسس الجنجويد الفريق أول ونائب رئيس المجلس العسكري الحالي محمد حمدان.
وخلال سنة 2017 حوّلها عمر البشير مرة أخرى إلى قطاع المخابرات والأمن العام بوزارة الدفاع السودانية. هذه الفرقة هي التي شاركت في عاصفة الصحراء بقيادة السعودية سنة 2015 للهجوم على الحركة الحوثية باليمن. فهي إذا الذراع الحربي المتخصص في القتل. وتشكّل أخطر فرقة أمنية عسكرية على قوى الثورة لأنّ لها تداخلات مباشرة مع السعودية أساسا، علما وأنّ قائدها هو الذي قام بالمباحثات الأخيرة مع محمد سلمان وهي من تنكّل بالمعارضين السياسيين خارج مقرات الدولة ولها أذرع في الاختطاف واختفاء العديد من النشطاء. لذلك هي مستقلّة عن بقية المنظومة الأمنية والعسكرية السودانية وفي نفس الوقت منضوية تحت مؤسسة الجيش ومكلفة بالمخابرات العامة والتدخل السريع لإخماد التمرد أو غيره من أشكال الخروج عن النظام، ويتمتع قائدها بمرتبة الزعيم والأب الروحي لطابعها العرقي الشوفيني. إنّ المعركة الجارية بين قوى الثورة والثورة المضادة لها علاقة بالإمارات والسعودية ومصر من ناحية وأثيوبيا التي تراقب التطورات من ناحية أخرى.