بقلم: ألفة البعزاوي
لو نتناول موضوع الجبهات الموحدة في جانبه النظري البحت لوجدنا العديد من الكتابات والأفكار في المسألة ، منها القديم و منها الحديث، بل لوجدنا نصوصا لمختلف القوى اليسارية والتقدمية عموما في تونس – ومن بينها مكونات الجبهة الشعبية – بإمكانها إغراق أكبر الشوارع أوراقا ونوايا. غير أن العمل الجبهوي هو سلوك يومي و ليس مجرد شعار يرفع ، بمعنى آخر إن الممارسة هي المحك الوحيد.
- منذ البداية لم يكن لدينا نفس القناعة بالجبهة
إن إرث الجبهات السياسية في تونس هزيل جدا ويمكن القول أنه بهذا الهزال أو أكثر حين نتحدث عن مختلف الأقطار العربية. ولذلك مثل ميلاد الجبهة الشعبية بارقة أمل و تجربة فريدة لا فقط بالنسبة للثوريين في تونس بل أيضا لدى طيف واسع من القوى اليسارية والثورية في شتى الأقطار العربية، وذهب العديد من الرفاق والأصدقاء إلى اعتبارها نموذجا يحتذى به. وتكمن أهمية هذه التجربة في تنزيل فكرة العمل الجبهوي إلى أرض الواقع وتجسيد نواميس العمل المشترك والسلوك الجبهوي بين مكونات لطالما تناحرت فيما بينها وشقتها خلافات متنوعة أيديولوجية وسياسية وتنظيمية لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن.
لا شك أن تجربة الشعبية في تونس خطت خطوات مهمة في تقريب وجهات النظر وصهر مجموعة من القوى في طرح سياسي موحد بات معروفا لدى عموم الناس ولكن ذلك لا يمنع من القول أن الكثير من الامراض القديمة ظلت تطبع سلوك بعض الأطراف التي تعتبر نفسها من المكونات الأساسية في هذه التجربة. فقد شهدت الممارسة المشتركة والموحدة في أكثر من مناسبة ومحطة سلوكات لا تمت للعمل الجبهوي بصلة واستفحل الأمر مؤخرا. كان هناك دوما أطراف تعد الأنشطة وتوفر لها كل الإمكانيات المادية واللوجستية لإنجاحها و تعنونها رغم عدم مشاركة باقي المكونات باسم الجبهة إيمانا منها بضرورة إعلاء رايتها قصد دعم و تحسين حضورها في المشهد السياسي وأطراف أخرى لا تتذكر الجبهة وتطنب في الحديث عنها وخوض النقاشات أو لنقل تزيد إنتمائيته الجبهوية فقط في المحطات الإنتخابية. ولعل جمهور الجبهة الواسع في مختلف الجهات، وهو المعني أساسا بهذا النص، يعرف جيدا عما أتحدث وقد عاش هذا الواقع ولمسه في تجربته الخاصة. هذا هو الفرق بين مكونات حسمت أمرها بقناعة مفادها أن الجبهة هي خيار استراتيجي، وبين من يتعامل معها بمنطق السيناريو الممكن وسط جملة من السيناريوهات الاحتياطية وفق ما تقتضيه المصلحة الشخصية أو الخطية الضيقة.
لذلك مازالت تجربة الجبهة الشعبية من هذه الزاوية بالذات في خطواتها الأولى باتجاه إرساء ثقافة جيهوبة ناجزة ومكتملة. وقد يكون في انسحاب بعض أطرافها الذين لم يتمكنوا من التخلص من ثقافتهم الفوضوية والخطية القديمة ستكون في أوضاع تسمح لها بالتقدم في تطوير ثقافة الجبهة وبالتالي بلوغ درجة أرقى في العمل الجماعي بين مكونات سياسية ثورية من مشارب فكرية متنوعة قومية واشتراكية ماركسية.
الجبهة هوية ثورية وكيان سياسي مستقل أو لا تكون
انبعثت تجربة الجبهة الشعبية لتجدد الأمل بعد انتكاسة القوى اليسارية والثورية عموما في المحطة الإنتخابية سنة 2011 وبعد تفكك تجربة ” جبهة 14 جانفي ” أمام مناورات البرجوازية وخاصة ما سمي آنذاك بـ” هيئة بن عاشور ” التي دشنت مسار الثورة المضادة ووضعت أسسه العميقة. وقد انبنت تجربة الجبهة الشعبية على أسس واضحة : تحقيق أهداف الثورة و كسر الإستقطاب الثنائي آنذاك (نهضة – نداء). فللجبهة الشعبية ومنذ تأسيسها هوية ثورية وخط سياسي واضح، متباين بشكل تام مع كل النزعات الإصلاحي واليمينية، وهذا الخط هو الذي مثل العمود الفقري لأرضيتها السياسية كلبنة لمشروع وتصور متكامل لتونس ما بعد الثورة، تونس الجمهورية الديمقراطية الشعبية الوطنية، التي تتسع لعموم أبناء شعبها ـ تونس كما نراها وكما نحلم بها. ولعل من الأهمية بمكان التذكير بالتسمية الكاملة للجبهة : الجبهة الشعبية لتحقيق أهداف الثورة. هذا المشروع الذي لم يكن ممكنا ولا يمكن أن يبنى بمعية أو برعاية أقطاب الثورة المضادة، أي أن الجبهة تأسست منذ البداية بكيان مستقل يرفض الاصطفاف والتذيل لهذا المكون أو ذاك من ممثلي البورجوازية العميلة في تونس ، ودونما ترتيب تفاضلي بينها ، وقد عبر مؤسسوها دون استثناء آنذاك أن الجبهة جاءت لكسر الإستقطاب الثنائي الذي هيمن على البلاد ولتقول أن بديل مغاير ومشروع آخر يصل بالثورة إلى الظفر بمطالبها ممكن.
بهذا الخط و فقط على ضوء هذه المضامين نجحت الجبهة في رسم ملامحها في المشهد السياسي بتونس ما بعد الثورة وافتكت موقعا ثابتا في الساحة ولفت حولها جمهورا واسعا من المستقلين و المثقفين ومن الفئات والأوساط الشعبية الذين رؤوا فيها أملا للخلاص وضمانة لإعادة الثورة إلى مسارها وإلى أهلها وصانعيها.
كما أسلفت سابقا فإن هذا النص موجه أساسا لهذا الجمهور الواسع ، ففي خضم الإشكال الأخير الذي نعيش على وقعه كجبهويات وجبهويين، إنتهزت بعض أبواق الرجعية الفرصة للترويج إلى نهاية الجبهة الشعبية وهذا عادي بل و متوقع من هذه الأبواق، لكن ما ينبغي أن يدركه كل الجبهاويين هو أن الجبهة مستمرة بأغلبية أحزابها المتمسكة بخطها المناضل وهويتها الثورية وأن عملية التشويش والاختراق الذي عرفته الجبهة في المدة الأخيرة ليست غير كبوة في مسار من النضال المعقد ومناخ الإحباط الذي تزرعه الدعاية المعادية للجبهة وللشعب عموما.
- النزعة اليمينية تنهل من حاله الإحباط و تغذيه
إن الثورة مسار، وهذا المسار يتطلب طول النفس وقناعة راسخة بالمشروع، قناعة تأبى التردد. ومعلوم أنه في حالات الجزر وتراجع الزخم الثوري و سيطرة قوى الثورة المضادة على المشهد السياسي– رغم قناعتنا بكونها مؤقتة – تتهاوى بعض الصروح ، مما أوجد هذه النزعة اليمينية الدخولية لتي تريد تذييل الجبهة لأحد أقطاب المشهد في حياد تام عن هوية الجبهة.
في ظل تراجع الحراك الثوري وتنامي تأثير قوى الثورة المضادة بدأت بعض النزعات اليمينية والاصلاحية بالظهور في صلب الجبهة الشعبية وعبرت عن نفسها في أكثر من مسألة ومناسبة وهي نزعات تنهل في الحقيقة من حالة الإحباط وتحولت مع مر الأيام إلى عامل لتغذية الشك والإحباط والتردد في صفوف مناضليها بل وتحولت إلى الهجوم علانية على مقولات الجبهة وشعاراتها ومواقفها داعية إلى القيام بمراجعات عميقة في الخط والهوية. وبطبيعة الحال اتخذت هذه النزعات من الضغوط الممارسة على الجبهة مرتكزا كي تجرها إلى مستنقع التذيل لشقوق المنظومة الرجعية الحاكمة. وخلف شعارات ” تطوير الجبهة ” و” تغيير الخطاب ” وما إلى ذلك رسمت العناصر الإصلاحية خططها الخاصة للاستفادة من الجبهة وتحقيق المآرب والمنافع ونيل المناصب في الداخل ( طمعا في وزارة … ) وفي الخارج ( طمعا في رئاسة البرلمان الافريقي …).
لمزيد التدقيق، علمنا التاريخ يحاول أصحاب هذه النزعات بلورتها على أساس وجهة نظر تتمعش أو تشحذ مبررات لها من حالة الإحباط التي عليها الجماهير فيصبح لقاء الباجي قائد السبسي وجهة نظر وقد يدعم تواجد الجبهة وحظوظها ، ويصبح التصويت لفائدة قانون إستقلالية البنك المركزي بمثابة الفهم الأعمق للمسألة، ويغدو الحصول على حقيبة وزارية ضمن هذه الحكومات مسألة تستحق نقاشا منطلقه أن الجبهة الشعبية وجدت للحكم لا فقط للمعارضة ، بل و يصبح رفض هذا التمشي هو بمثابة الخوف من الحكم وعدم الجاهزية له… وللأسف تصبح الدعاية من قبل أطراف من خارج الجبهة من قبيل “تعيير الخطاب” و “جبهة الرفض” و “جبهة الضد” لها أبواقها داخل الجبهة. و في كلتا الحالتين ، المقصود لم يكن الجانب التقني البحت و تطوير آليات التواصل بل المستهدف كان تحديدا المضامين الثورية للجبهة.
ويعتبر أصحاب هذا الرأي أنه قد حان الوقت لتصبح الجبهة light مواقفا وخطابا.
ولعل التوجه بهذا الإنتقاد للناطق الرسمي للجبهة : الرفيق حمه الهمامي تحديدا (حمه دائما ضد ، على حمه تغيير خطابه…) يكشف هذا الإدعاء على حقيقته ، فحمه و بشهادة المختصين كان أنجح المرشحين للرئاسية من حيث الدعاية وقد شهد خطابه نقلة نوعية ، فالمستهدف إذا هو خط الجبهة وما التركيز على حمه سوى لكونه مثل الضمانة للحفاظ على استقلالية الجبهة. وهذا الموضوع سأتناوله بإطناب في نص لاحق.
قبل أن أنهي ، ورغم كون مسألة الدخولية بإمكانها إسالة الكثير من الحبر وتتطلب شيئا من النقاش ، سؤال فقط لدعاتها : ماذا غير عبيد البيركي أو سمير بالطيب بمشاركتهما في الحكومة ؟
وكمحصلة ، فإن هذا الصراع اليوم ولئن تمظهر في عناوين عدة كقيادة الجبهة والتداول والديمقراطية داخل الجبهة فهو يخفي في عمقه الصراع الحقيقي : صراع حول هوية الجبهة.
إن الطريق الأنسب لوصول الجبهة للحكم هو الانكباب على معالجة أوضاعها التنظيمية والتكثيف من مجهوداتها للالتحام بالجماهير في كافة أرجاء البلاد، وهو ما يتطلب جهدا مكثفا ونفسا لم يكن يمتلكه من يروم التموقع بأسهل الطرق وعلى حساب المضمون الثوري واستقلالية جبهتنا.
إن ملامستنا كحزب عمال لهذا الإختلاف واستيعابنا لهذه النزعة هو ما دفعنا إلى إعادة طرح مسألة هوية الجبهة للنقاش في إطار التحضير للندوة الوطنية الرابعة، وقد قدم كل مكونات الجبهة باستثناء الوطد الموجد ورقة في الغرض في شهر فيقري المنقضي، ولعل الخطأ الحقيقي الذي إرتكبناه هو تأجيل خوض هذا الصراع بمنطق الحفاظ على وحدة الجبهة. كان من المفروض طرح هذه المسائل منذ العلامات الأولى لظهور هذه النزعات اليمينية والمرور، إذا لزم الأمر، إلى اتخاذ إجراءات في الغرض. الشيء الذي أجل هذا الصراع ليفجر اليوم مع إعطائه تمظهرا منمقا من قبيل الديمقراطية داخل الجبهة و التداول …. والحال أن من يطرح الديمقراطية اليوم هو من عطلها بتعطيل توزيع الإنخراطات والهيكلة ومسائل أخرى كثيرة سنعود لها لاحقا.
- هي محطة للفرز و الجبهة مستمرة
إن هذا الخلاف عادي، ليس من باب التقليل من شأنه وإنما بل من باب وضعه في سياقه كما سبق وأوضحت، فالجبهة تعيش اليوم أحد أسوأ معاركها الداخلية غير أن هذه المعركة لا تعني إطلاقا نهاية الجبهة الشعبية كما يراد الترويج له بل هي محطة جديدة للفرز ستعود بعدها الجبهة أقوى وأنشط وأكثر تأثيرا وشعبية. وهذا ليس من قبيل الرومنسية السياسية ، بل هي حقيقة مردها أن الواقع الموضوعي الذي تطلب كإجابة عنه عملا جبهويا مازال قائما ، بل إن احتداد الصراع هو الذي أوجب هذه المحطة من الفرز.
الجبهة الشعبية لم تنته كمشروع ومضامين ولكنها لن تستمر بتركيبتها السابقة.
في النهاية أود التوجه بسؤال لعموم أنصار الجبهة وجمهورها ممن لم يتمكنوا بعد من حسم أمرهم :
فقط أي جبهة تريدون؟ أو : هل يمكنكم القبول بجبهة متذيلة للباجي أو للشاهد أو لغيرها من أقطاب الثورة المضادة؟
و إذا كانت الإجابة “لا” فإلى العمل.