انقلب السحر على الساحر وانطلق اليمين الرجعي الحاكم بشقّيه الملتحف منه بعباءة الدين والمتنكّر بزيّ الحداثة في كيل التّهم وإطلاق التحذيرات تجاه مؤسّسات سبر الآراء ببلادنا بعد سنوات من الصمت والانتشاء بالنتائج الوردية التي كانت تروّجها هذه المؤسسات بين الفينة والأخرى مبرزة تصدّر أحزاب وشخصيات الائتلاف الحاكم ولوبيات المال والسياسة لنوايا التصويت في الاستحقاقات الانتخابية القادمة رغم الإقرار بهزال الحصاد وسوء الأحوال وتفاقم التشاؤم وانعدام الثقة في الخارجين من صناديق الاقتراع والمتعاقبين على الحكم منذ 2011.
لقد انتعشت مؤسسات سبر الآراء خلال السنوات الماضية وارتفع عددها إلى زهاء 25 شركة متضامنة ومنخرطة في هيكل نقابي خاص تحت مسمّى الغرفة الوطنية لاستطلاعات الرأي، يرأسها اليوم نبيل بالعم باعث شركة “امرود كونسلتينغ”، وترى الغرفة أنّ قطاع سبر الآراء يجب أن يخضع للتعديل الذاتي وتنفي كلّ ما يحوم من تشكيك في نزاهة عملها، غير أنّ الثابت أيضا هو وجود فراغ قانوني مقصود من الائتلاف الحاكم وأغلبيته البرلمانية التي لم تكتف بتجاهل سنّ قانون أساسي لتنظيم قطاع سبر الآراء. بل وأدّت مبادرتين تشريعيّتين على الأقل للمعارضة تتّصلان بالموضوع لذلك لا يخرج موقف أحزاب الحكم وأساسا النهضة والنداء عن دائرة النفاق والضحك على الذقون وهو ليس المجال الوحيد الذي يناور فيه اليمين الرجعي، فثمة موضوع تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني وملف المديونية وغيره من الملفات التي لا يقع استحضارها إلاّ لأهداف خاصة، حينها فقط يتذكّرون الدّيمقراطية والنزاهة والأخلاق!
ويتذكّر الجميع أنّ أوّل من انتفض على مؤسسات سبر الآراء في المباشر كما يقال هو رئيس الجمهورية مؤسس نداء تونس الباجي قايد السبسي الذي وظّف كلمته للشعب التونسي بمناسبة حلول شهر رمضان يوم 5 ماي الماضي لمهاجمة نتائج سبر الآراء التي “عمّقت حمّى الانتخابات” على حدّ تعبيره وأظهرته وحزبه في منزلة لا يحسد عليها. ليس ذلك فحسب، شكّك في النتائج وتوجّه بالخطاب إلى من يهمّهم الأمر قائلا “ثمة ناس ننصحهم باش ما ياخذوهاش مأخذ الجد”… انتهى كلام “الرّيس”.
غير بعيد عن هذا التاريخ، ثارت النهضة وذهبت أبعد من شريكها في الحكم في انتقاد مؤسسات سبر الآراء وأصبح الموضوع بندا شبه قار في اجتماعات الحركة والبيانات الصادرة عن مؤسساتها على غرار بيان الثالث من ماي 2019 الذي أكّدت فيه أنّ مختلف شركات سبر الآراء وفي مقدّمتها “سيغما كونساي” لباعثها حسن الزرقوني مطالبة بالتحلّي بمقتضيات المهنة حماية للقطاع المستجد في بلادنا من كلّ توظيف حزبي وسياسي مثلما جاء في نص البيان.
هكذا استفاق الائتلاف الحاكم وأصبحت عمليات سبر الآراء التي لم تعد نتائجها لصالحه خطرا على الديمقراطية الناشئة. ومن يدري لو وقع التفطن للمسألة قبل هذه الفترة وظهر في المشهد من يزاحمهم في النفاق والشعبوية وخداع الناس مبكّرا لبادروا بسنّ تشريع جديد أو تنقيح قانون قائم على المقاس كما هو الحال مع القانون الانتخابي بهدف تغيير قواعد اللعبة رغم بداية تنفيذ خارطة طريق الانتخابات الرئاسية والتشريعية 2019.
في المقابل كان موقف المعارضة الوطنية وفي مقدّمتها الجبهة الشعبية مبدئيا منذ البداية، ورغم الحيف واللاّمنطق والتوقيت المشبوه أحيانا لتقديم نتائج استطلاعات الرأي للعموم والحرص على التقزيم وأحيانا التعويم وحتى الفتنة، لم نسجل تهجّما على قطاع سبر الآراء أو تشكيكا أخلاقيا وأخلاقويا لعمل المؤسسات المختصة في هذا المجال ولا أصحابها بالخصوص ليس بحكم معرفة خلفيّاتهم ومصالحهم وحتى انتماءاتهم فقط وإنما اقتناعا بأهمية استطلاعات الرأي في التجربة الديمقراطية وبضرورة تنظيمها وبأهمية دورها في صناعة الرّأي العام والتأثير في توجّهاته.
في هذا الاطار وُجّهت الانتقادات لمؤسسات سبر الآراء ووقع التأشير لانحرافات بعضها والتركيز على ضرورة معالجة الفراغ التشريعي وهو ما لم تستسغه لوبيات المال والسياسية منذ البدء كما أسلفنا، وكان لزاما علينا انتظار تحوّل موازين القوى داخل اليمين الرجعي من مكوناته التقليدية بقيادة النهضة والنداء إلى مكونات وظواهر هجينة شعبوية متجدّدة استفادت من مناخ الحرية ومن أزمة الحكم الشاملة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية ووظفت مالها للمتاجرة بمآسي الناس واستحضار الماضي والتنصيص على المقارنة المغلوطة لـ2010 باللحظة الراهنة وبيعهم الأوهام بأنها تملك مفاتيح الخلاص وهنا لم تعد استطلاعات الرأي محمودة ولم يعد المضطلعون بالحكم قابلين بمخرجاتها.
هنا، وبعيدا عن التشكيك في الذمم واستحضار تجارب محاكم التفتيش يجوز طرح الأسئلة الجوهرية التالية: من يطلب إجراء سبر الآراء؟ من يدفع لإجراء سبر الآراء؟ كيف تتمّ عملية اختيار العيّنة؟ ماهي طبيعة الأسئلة؟ كيف تعالج الأجوبة؟
لقد كشفت “المعركة” التي دارت قبل أيام بين إحدى أعرق المؤسسات الإعلامية ببلادنا وهي دار الصباح وشركة “امرود كونسلتينغ”، حيث رفضت المؤسسة الإعلامية نشر نتائج الاستطلاع الدوري المشترك نتيجة اكتشاف تغيير في منهجية طرح الأسئلة، الأمر الذي أدّى إلى قلب النتائج رأسا على عقب لفائدة جهات بعينها، كشفت هذه المعركة بوضوح أنّ مخاطر استطلاعات الرأي في تونس كثيرة والأخطر على الإطلاق التلاعب بالمعلومات لصالح لوبيات المال والسياسة الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تزييف الوعي وتغيير السلوك وبالتالي تخريب تنظيم الحياة الديمقراطية.
إنّ شيطنة استطلاعات الرأي لا تخدم سوى الدكتاتورية التي يغيب في إطارها أيّ أخذ بعين الاعتبار للرأي العام ولانتظارات عموم الناس كما كان الحال في تونس قبل ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة، وقد سمح تدشين مرحلة الانتقال الديمقراطي رغم التعثر بمحاكاة الديمقراطيات العريقة التي ازدهرت فيها شركات وعمليات سبر الآراء مثلما كانت أيضا مسارح للتلاعب بإرادات الناخبين لكن ذلك لم يمنع من التقنين ومن إبرام عقود اجتماعية في الغرض بكل ما تقتضيه من ضمانات ديمقراطية وآليات رقابية كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وغيرها وكلّها تجارب تركّز على المواثيق المهنية وعلى ضروة إعلان الجهات المموّلة لكلّ سبر آراء وطرق تصميم العيّنة وحجمها وكيفية نشر المخرجات للعموم.
إنّ ما حصل في تونس منذ 2011 أقرب إلى مصادرة الآراء وتوظيفها منه إلى سبرها في أفق الحصول على شرعية دعم وأصوات أصحابها في الاستحقاقات الانتخابية على قاعدة الديمقراطية وعلى أساس النزاهة والشفافية. بعبارة أخرى هي عملية “أسر” أو “سبي” للآراء وتحويل مدار الاهتمام والوعي بالقمع وبضرورة تحقيق الحرية والكرامة – وهي أهداف ثورتنا – إلى الحنين إلى الماضي غير المأسوف عليه، والمراهنة على نمور من ورق وعملاء للخارج ومرتزقة تحت الطلب، والطمع في فتات الصدقات والمنّة التي لا تسمن ولا تُغني من جوع في الوقت الذي يستأثر فيه أصحاب الجاه والمال بالسلطة وبالثروة ويدشنّون عهد الاستبداد الجديد.
مراد علالة