لم تهدأ بعد موجة الحرائق التي تجتاح حقول الحبوب، بل أنها طالت غابات النّخيل وغيرها من المنتجات الحيويّة للتّونسيين في مجال الزّراعات وذلك بعدّة مناطق بالبلاد. ورغم صيحات الفزع من جهات متضرّرة ومن قبل عدّة قوى سياسيّة ومدنيّة إلاّ أنّ السلطة والى حد الآن لم تعلم الرأي العام عن أهم أسباب تلك الحرائق.
وبالتزامن مع ذلك، بدأ العطش يُطلّ برأسه بسبب انقطاع الماء الصالح للشّراب بعدة مناطق شمل البلاد من جنوبها إلى شمالها، كما تجاوز الانقطاع الأحياء ليضرب مُدنًا بأكملها مثل جرجيس وبنقردان وغمراسن وغيرها بولاية قفصة وحتى تونس العاصمة.
لقد أصبح الماء الصالح للشراب من بين المعضلات الأساسية للتونسيين، وأصبحت الشركة الوطنيّة لاستغلال وتوزيع المياه في مرمى الاتهام الجدي بعدم قدرتها على الاستمرار في تامين الماء الصالح للشراب رغم أنها بمقتضى القانون المحدّد لمهامها هي الطرف الوحيد المكلف بذلك.
أزمة ماء أم أزمة تخطيط وتوزيع ومتابعة؟
تُعتبر البلاد التونسية من البلدان الفقيرة مائيا، حيث تقدَّر مواردها المائية بحوالي 4825 مليون متر مكعب منها حوالي 2700 مياه سطحية و2125 من المياه الجوفية، وهي موارد متغيّرة حسب المناطق والمناخ. كما أنّ انقطاع الماء الصالح للشّراب لم يفاجئ التونسيات والتونسيين هذه السنة وإنما هو مستمر منذ سنوات خاصة خلال موسم الصيف.
وإذا ما عدنا إلى الأرقام التي يقدمها سنويا المرصد التونسي للمياه يتبيّن لنا الحجم الكبير لتلك الانقطاعات خلال السنوات الفارطة. وهو ما يجعلنا نطرح موضوع الماء بصفة عامة والماء الصالح للشراب بصفة خاصة من وجهة نظر أعمق تتعلق بمعالجة الموضوع من جذوره حتى لا يتكرر كل سنة وتدفع الفئات الاجتماعية الضعيفة بمختلف مناطق الجمهورية ضريبة ذلك. السّؤال الذي يفرض نفسه: لماذا لا يتم معالجة أسباب الانقطاعات بصورة مسبقة؟ والحال أنّ تكرار الانقطاع كل سنة يطرح موضوع عجز الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه والمنظومة الاستهلاكية للماء في تونس. إن موضوع الماء في تونس وفي العالم اليوم يُعدّ من أخطر المواضيع سواء المتعلقة بالماء الصالح للشراب أو للاستعمال الفلاحي والصناعي والمجالات الحياتية الأخرى.
إنّ عدم التزام الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه تجاه حرفائها يضع الدولة أمام مسؤولية أساسية وهي حق المواطنين في العيش الذي تضمنه الدولة عبر تدابير واحتياطات وفق ما جاء بالفصل 86 من مجلة المياه والذي نصّ على أنّ “الدولة تحتفظ في الوقت المناسب بكميات الماء الضرورية لتحقيق تزويد السكان بالماء بصورة مرضيّة كمّا وكيفا”.
غموض تشريعي ومحسوبيّة جهويّة واقتصاديّة في استعمال المياه على حساب المواطن
من بين الإشكالات التي تعترض كيفية التعامل مع الماء باعتباره مربطا بالعدالة الاجتماعية من ناحية وتحقيق التنمية الاقتصادية الضرورية من ناحية أخرى هي المنظومة التشريعية والمؤسساتية للماء في تونس. وإذا كانت كميات المياه محدودة فإنه من الضروري أن تكون التشريعات متلائمة مع ذلك إضافة إلى تركيز سياسة مستقبلية للتعاطي مع الماء وفقا للتطورات العلمية والتكنولوجية التي تلعب دورا مهمّا اليوم لتوفير المياه.
وتمثل مجلّة المياه الصادرة بقانون سنة 1975 الإطار القانوني المنظّم للملك العمومي للماء في تونس. إلاّ أنّ هذه المجلة تضمّنت نصوصا تعود إلى سنة 1923 ورؤية عامة صاغها المستعمر الفرنسي منذ سنة 1910. ولم ينصّ دستور 1959 أو مجلة المياه سنة 1975 على الحق في الماء. ورغم تنقيح المجلة سنة 2002 إلاّ أنّ ذلك التنقيح بدوره لم ينصّ على الحق المواطنى في الماء بما يُلزم مؤسسات الدولة بذلك. وتأكيدا على ذلك نجد المهمة الموكولة بمقتضى القانون للشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه هي “إنتاج وتوزيع الماء الصالح للشرب قصد تأمين وتزويد جميع مناطق الجمهورية التونسية”. وهو ما يعني أنّ مهمّة الشّركة متصلة بالمناطق وليس بالمنازل. وإذا كانت السياسة المتّبعة من قبل الشركة هي مدّ شبكة تزوّد منزلي للماء فإنّ ذلك يُعتبر عنصرا إيجابيّا يُحسب للشركة منذ تأسيسها. إلاّ أنّ تلك الشبكة بدورها تحتاج إلى الصيانة العاجلة والشاملة. ولكن علينا الإقرار بأنّ القوانين المنظّمة للماء في تونس متخلّفة ولا تستجيب إلى الاحتياجات الأساسية للمواطنين. ونذكّر بهذه النقاط لسبب بسيط ومنطقي وهو التالي: لماذا يعمد المواطنون إلى الاحتجاج وذلك لمدة سنوات متتالية دون اللجوء إلى مقاضاة الشركة ومطالبتها بالتعويض عمّا لحقهم من أضرار؟ ويبدو الجواب عن السؤال واضحا، وهو أنّ المنظومة التشريعية والقانونية والمهمّات الموكولة إلى الشركة الوطنية تكرّس الإفلات من تحمّل المسؤولية.
إذا كنا نريد التعاطي مع الماء في ارتباط بالعدالة الاجتماعية فإنه لا مناص من ثورة تشريعية في هذا المجال تضمن بكلّ وضوح الحق الفردي في الماء الصالح للشراب ، كما أنّه لا مناص من أن يستمرّ.
لطفي الهمامي