القطاع الفلاحي هو أولى القطاعات الإستراتيجية… تحقيق السيادة الغذائية وتوفير الأمن الغذائي أصبحت من الشعارات التي لا تغيب عن النّدوات واللّوائح المخصّصة للغرض، لكن ماذا تخفي هذه الشعارات وكيف يتمّ تكريسها على أرض الواقع في أيّ منطقة من المناطق الفلاحية؟
تحوّلت معتمدية السعيدة الى منطقة فلاحيّة بامتياز حيث انتشرت في أغلب أرجائها الضيعات الفلاحية والزّراعات السّقوية واتّجه فلاحوها إلى غراسة الزياتين والأشجار المثمرة والبطيخ والدلاع… ويعود السّبب الرئيسي لذلك إلى رجوع شباب الجهة من المدن المجاورة حيث كانوا يعملون بحضائر البناء أو التجارة أو المنشآت السياحيّة والصناعيّة إلى المنطقة بعد الرّكود الاقتصادي الذي تشهده البلاد منذ سنوات إلى جانب تواجد عدد كبير من العاطلين عن العمل من حملة الشهادات العلمية بالمنطقة. وقد اتّجه أغلب هؤلاء، من أجل توفير مصدر رزق قار، إلى بعث مشاريع فلاحيّة رغم صعوبة التّمويل حيث اضطرّ بعضهم لبيع جزء من أراضي عائلاتهم أو رهنها لدى البنوك بشروط مجحفة وفائض مرتفع… وقد طغى على هذه المشاريع الصّبغة العائليّة حيث يشارك كل أفراد العائلة في العمل.
ويتعرّض صغار الفلاحين إلى عديد الصعوبات عند التمويل أو استصلاح الأراضي أو فلحها إذ هم يضطرّون إلى تأجير آلات العمل ويقتنون الأدوات اللاّزمة والبذور والأسمدة والأدوية بأسعار مشطّة من المزوّدين لانعدامها بالسوق، زيادة على تحيّل بعض هؤلاء في تزويدهم ببذور ومشاتل غير ملائمة وغير مطابقة للمواصفات مثلما حصل مع فلاحي “المزاهدية” (عمادة الهيشرية) في بذور البطاطا، أو فلاحي ”الرضاع” و”الغريس” و”العكارمة” و”المزونة” و”المكناسي” ومشاتل الطماطم. إلى جانب افتقار أغلبهم للخبرة في المجال الفلاحي وعدم تمتّعهم بزيارات الإحاطة والإرشاد المنتظمة من قبل المصالح المختصّة للدولة، مما أجبرهم على الاستعانة بمهندسين وخبراء فلاحيّين من القطاع الخاص مقابل مبالغ مالية ضخمة.
ورغم كل هذه الصّعوبات، فقد بذلوا مجهودا جبّارا لفلح أراضيهم وإنجاح موسمهم الفلاحي حيث كان المحصول وافرا وجيّدا ممنّين النفس بخلاص ديونهم وإعالة ذويهم والإعداد للموسم القادم… لكنهم صدموا بتدنّي الأسعار وخضوع مسالك التوزيع إلى مافيا حقيقيّة، فأصبحوا ضحية للسماسرة والمحتكرين والمضاربين في ظل صمت رهيب من الحكومة وصل حدّ التّواطؤ (إصدار منشور يفرض ترخيصا مسبّقا على تصدير الغلال، ثم إلغاؤه بعد شهر وبالتحديد يوم 14جوان أي بعد حصول الكارثة).
إنّ صغار الفلاحين بالسعيدة وكل جهات سيدي بوزيد يعيشون اليوم وضعا ماديا ونفسيا صعبا نتيجة الخسائر المادية الفادحة التي تكبّدوها حيث أصبحوا مهدّدين بفقدان أراضيهم لفائدة الدائنين والبنوك وعاجزين عن مجابهة الموسم القادم متسائلين لماذا تخلّت عنهم الحكومة وتركتهم لقمة سائغة لمافيا القطاع والمضاربين وهل ستسارع إلى تعويض خسائرهم كما فعلت كل مرّة كلّما تعلّق الأمر بكبار الفلاحين أو المستثمرين في قطاعات أخرى كأصحاب النزل ؟
إنّ المصاعب التي يواجهها صغار الفلاحين بالجهة اليوم تنضاف إلى المصاعب الدائمة التي يعانون منها على طول الموسم الفلاحي والتي أدّت وتؤدّي إلى تردّي أوضاعهم وتجعل من هذا القطاع “الاستراتيجي” قطاعا هامشيا، والتي ليس أقلّها السماح للسماسرة بمواصلة الاستيراد العشوائي لمواد فلاحية يتمّ إنتاجها بكميات كافية محليا (احتجاج فلاحي منطقة السبالة في شهر أفريل الماضي على استيراد الثوم الذي يعيش أغلبهم من إنتاجه)
توفيق سليمي