خلال هذه الفترة من كلّ سنة تستقبل العائلات التونسيّة الآلاف من ذويها العائدين من الخارج. فالتونسيون بالخارج تجاوزت نسبتهم 12 بالمائة من مجموع السكّان وفقا للإحصائيات الرسمية، أضف إليهم الآلاف ممّن حرموا من الإقامة القانونية ومن تسجيلهم على الأقلّ في القنصليات والبعثات الدبلوماسية التونسية ببلدان تواجدهم. وهم بلا ريب جزء لا يتجزّأ من الشّعب التونسي مهما طالت سنوات غربتهم وتواجدهم بالخارج. ومن المعلوم أنّهم يقدّمون إلى المجتمع والدولة التونسية الكثير عبر المساهمة في تطوير عدّة قطاعات اقتصادية أو المساهمة بالعملة الصعبة في شكل تحويلات مباشرة.
لكنّهم خلال موسم العودة من كلّ سنة يفاجؤون بنفس الحقيقة المرّة التي عانوها سابقا، وفي أحيان عديدة بأكثر تخلّفا وحدّة. ومن أهمّ مظاهر هذه الحقيقة ما يتعلّق بوسائل النقل سواء البحرية أو الجوية. إضافة إلى غلاء الأسعار وسوء الاستقبال وغياب توجيه المسافرين وتردّي الخدمات. كما تظلّ سوء المعاملة من أعوان الديوانة من بين المشاكل الأساسية التي تعترض المهاجرين لدى عودتهم، هذا دون الحديث عن السمسرة والرّشوة والضّغط النفسي رغم ما تدّعيه الإدارة العامة للديوانة كل سنة من تحسّن في خدماتها وتأهيل لأعوانها. فالتونسيون بالخارج يشعر أغلبهم بالإهانة وسوء الخدمات عند عودتهم إلى بلادهم، بل إنّ العديد منهم صار يخيّر قضاء العطلة السنوية ببلدان أخرى هروبا من المتاعب التي يتعرّض إليها عند عودته إلى تونس.
كما أنّ السلطة بتعاطيها الانتهازي مع مواطنينا بالخارج أثّرت سلبا في الذهنية العامة التي باتت تنظر إليهم من منظار مصلحي مادي بحت. بل نلاحظ أنّ مواطنينا بالخارج يتعرّضون أثناء إقامتهم في تونس إلى مظاهر الابتزاز واعتبارهم ميسوري الحال، في حين أنّ أغلبهم يعمل على مدار السنة في أعمال شاقّة ومهن مختلفة لا توفّر لهم سوى الاحتياجات الضرورية في الكثير من الأحيان.
ورغم التحوّلات العميقة التي شهدتها طبيعة الهجرة بالنسبة إلى التونسيين من مختلف المهارات المهنية والكوادر الفكرية والعلمية، ورغم التحوّلات الجذريّة لدور التونسيين بالخارج على جميع الأصعدة فإنّ تغييبهم عن كافة مؤسسات الدولة وعن الجهاز الدبلوماسي هو السّمة الأساسية التي ما تزال تسيطر على وضعهم، مقابل استمرار استعمال نفس الأطر والآليات القديمة غير القادرة على مواكبة التطوّرات الحاصلة، سواء فيما يخصّ تونس أو العالم.
لذلك فالمطروح بكلّ حدّة اليوم يكمن في بلورة مشروع يكون فيه للتونسيين بالخارج المكانة التي يستحقّون في الأطر الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية، بما يطوّر دورهم في الارتقاء ببلدهم وينمّي في الوقت نفسه لدى الأجيال المتعاقبة منهم الرابطة الوطنية والقومية وخاصة الهويّة. وكلّ هذا لا يمكن أن يتحقّق إلاّ إذا تحمّلت الدولة مسؤولياتها تجاههم وذلك بإعادة النظر في سياستها تجاه التونسيين بالخارج إضافة إلى تحمّل مسؤولياتها المتعلّقة بالمؤسّسات السّاهرة على مصالحهم أو بقيّة المرافق منها بالأخصّ الإجراءات الديوانية والنقل والاستقبال.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فمطروح على كافة التونسيين بالخارج الالتفاف حول قضاياهم ومطالبهم والمساهمة في إعادة النظر في كافة الاتّفاقيات والمعاهدات التي لا تراعي المصلحة التونسية، بل من أجل تثبيت حضور الدولة وممارسة مهامّها الأساسية تجاه مواطنيها بالخارج وإسنادهم والدفاع عنهم من خلال مؤسّسة منتخبة وقريبة منهم فيها ممثّلون يعملون على حسن إدارة أوضاع التونسيين بالخارج وشؤونهم وبلورة سياسات مستقبلية تربط بينهم وبين مجتمعهم الأصلي ووطنهم.
إنّ التونسيين بالخارج مدعوّون إلى مزيد الضغط دفاعا عن مصالحهم ومصالح أبنائهم، وهم مثلهم مثل بقيّة الشعب التونسي سوف يمارسون حقّهم الانتخابي في التشريعية والرئاسية القادمتين. فالحقّ في الترشّح والانتخاب خاصة في التشريعية هو مكسب لهم حقّقته الثورة التونسية وعليهم التمسّك به واستعماله سلاحا لمحاسبة من تلاعبوا بمصالحهم خلال خمس سنوات كاملة. إنّ التونسيين بالخارج في حاجة إلى من يمثّلهم ويمثّل مصالحهم بكل صدق ونزاهة حتى لا تكون غربتهم غربة مزدوجة.