أمام الأحداث الأخيرة التي عرفتها البلاد كثر الحديث عن ضرورة تركيز المحكمة الدستورية التي يخوّل لها البتّ في المسائل الخلافية القانونية وقد اعتبرت أستاذة القانون الدستوري سلسبيل القليبي في حوارها مع “صوت الشعب” أنّ أسباب التعطّل التي بلغت أربع سنوات هي سياسية بحتة. في المقابل –والجريدة تحت الطبع- قرّرت الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين قبول الطعن في القانون الانتخابي شكلا ورفضه مضمونا، وقد اعتبرته الأستاذة القليبي سابقة خطيرة لأنّ تمريره حصل قبل أربعة أشهر من الانتخابات.
حاورتها فاتن حمدي
كثر الحديث في الفترة الأخيرة عن المحكمة الدستورية التي لم يتمّ انتخابها إلى اليوم. من يتحمّل مسؤولية عدم تركيزها؟ وما هي الأسباب حسب رأيكم؟
علينا أن نذكّر أوّلا أنّ المحكمة الدستورية تتركّب من 12 عضوا، ينتخب أربعة منهم مجلس نوّاب الشعب بأغلبية ثلثي أعضائه وأربعة من قبل المجلس الأعلى للقضاء بنفس الأغلبية بينما يعيّن رئيس الجمهورية الأربع المتبقّين.
ولأنّ القانون الأساسي للمحكمة الدستورية أقرّ أن تدخّل سلطات التعيين يتمّ بهذا الترتيب فإن تأخّر مجلس نوّاب الشعب في انتخاب قضاة المحكمة الدستورية الراجعين إليه بالنظر عطّل إرساءها. مع العلم أنّ الدستور وضع آجالا لإحداثها وهي سنة على أقصى تقدير بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات بما يعني أنّ إرساء المحكمة الدستورية يشهد تأخيرا بأربع سنوات.
أمّا عن أسباب التأخير أو التعطّل فهي سياسية بحتة. ولا يمكن إرجاعها لتعقيد إجراءات إحداث المحكمة أو ارتفاع سقف الأغلبية المطلوبة لانتخاب أعضائها. وبالفعل إنّ اشتراط أغلبية معزّزة لانتخاب أعضاء أعلى هيئة قضائية في الدولة يعود إلى ضرورة تجنّب أن تضع أغلبية وائتلاف حاكمين يدها عليها بتمكينها من تعيين أربعة أعضاء بها. وعلينا إدراك أهمية هذا الاحتياط في ضمان حياد قضاة المحكمة. وإنّ الحديث عن حياد قضاة المحكمة الدستورية لا يعني اشتراط ألاّ يكون لهم رأي سياسي أو مواقف أو مبادئ لكن ألاّ تكون لهم ولاءات لأحزاب أو قوى سياسية.
لكن يبدو أنّ النوّاب لم يستوعبوا مقاصد اشتراط مثل هذه الأغلبية وهي حماية المحكمة من التوظيف من قبل حزب أو لخدمة مصالح سياسية ظرفية، ولذا نرى منذ شهور طاقات ووقت النوّاب مسخّرة بالنسبة لكلّ طرف سياسي إمّا لفرض مرشّح يتمسّك به أو قطع الطريق أمام مرشّح الخصم عوضا أن تسخّر للبحث عن الشخص الأكثر كفاءة والشخص الذي هو فوق كلّ شبهة ولاء وترشيحه ثمّ التوافق على انتخابه. وتعود هذه التجاذبات والحرص على “وضع اليد” على المحكمة الدستورية إلى أهميّة الرهانات التي تطرحها هذه الأخيرة. وبالفعل باعتبار خصوصية النصّ الدستوري التونسي -وهو كما يعلم الجميع دستور توافقات- ترك عديد المسائل سواء المتعلّقة بالخيارات المجتمعية أو الخيارات السياسية عالقة فإنّه سيعود للمحكمة الدستورية باعتبارها المؤوّل الرسمي لنصّ الدستور والطرف الذي سيقول الكلمة الفصل بخصوص دلالة كلّ فصل من فصوله بل كلّ كلمة فإن الجهات السياسية خاصة منها تلك التي شاركت في إعداد هذا الدستور في المجلس الوطني التأسيسي تخشى أن يفلت منها هذا النص وأن يُحَمّل غير الوجه الذي أراده له.
حسب رأيكم لماذا عجز مجلس نوّاب الشعب عن تركيز الهيئات الدستورية المستقلّة. وهل هي نفس الأسباب؟
تمثّل الهيئات الدستورية المستقّلة هيئات عمومية على غاية من الأهمّية، إذ أنّ الفصل 125 من الدستور جعل منها هياكل مكلّفة بدعم الديمقراطية، ولهذا السبب نجد من بينها ما يقوم بدور التحكيم في المنافسة السياسية وهي الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. كما نجد هيئات تعديلية على غرار هيئة الاتّصال السمعي البصري التّي من شأنها ضمان مشهد إعلامي صحّي ونزيه. إضافة إلى الهيئات الرقابية على غرار هيئة حقوق الإنسان وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد وهي سلطات مضادّة من صنف جديد في وجه السلط العمومية التقليدية وتحديدا السلطتين التنفيذية والتشريعية حيث تضطلع بمهام رقابية تصل إلى حدّ حقّ التحقيق في أيّ انتهاك لحقوق الإنسان بالنسبة للأولى وممارسات مشبوهة على غرار الرشوة أو الارتشاء مثلا إلى جانب الدور الاستشاري التضامني في المجالين الاقتصادي والبيئي الذي تضطلع به هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة.
نلاحظ إذا أهمّية هذه الهيئات في المشهد المؤسّساتي التونسي وخاصة التوجّس الذي يمكن أن تثيرها الصلاحيات الموكولة إليها لدى السلط التقليدية من بينها السلطة التشريعية المطالبة بانتخاب أعضائها. وبالتالي يمكن أن نقول بشأن تأخّر تعطيل إرساء الهيئات الدستورية المستقّلة -التي لم يقع إحداث إلاّ واحدة من بين الخمس المعلن عنها ضمن الباب السادس من الدستور-. أنّ إحداثها قد يُخضع السلطة الحاكمة إلى قيود ورقابة لم تعهدها من قبل هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية ترتيبا على المعطى الأوّل هنا كذلك محاولات من قبل القوى السياسية لضمان حضور موالين لها بهذه الهيئات. وباعتبار أنّ انتخاب أعضاء هذه الهيئات يتمّ هو الآخر بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس كان ولا زال التوافق صعبا بين مختلف القوى السياسية الممثلة بمجلس نواب الشعب.
اعتبرتم أنّ تنقيح القانون الانتخابي غير دستوري ويضرب مبدأ نزاهة الانتخابات. كيف ذلك؟
لا يمكن اختزال الانتخابات في يوم الاقتراع وفي ورقة توضع في صندوق، وبالتّالي فإنّ نزاهة الانتخابات التي تمثّل إحدى شروط الانتخابات الديمقراطية تفرض غياب أي عملية غشّ أو تزوير من قبل الناخبين أو من قبل المتنافسين أو من قبل الإدارة الانتخابية نفسها.
لذلك فإنّ نزاهة الانتخابات تقتضي كذلك السعي إلى توفير نفس الفرص لجميع المتنافسين للاستعداد للانتخابات ولخوضها. وإنّ ذهاب القوى السياسية الحاكمة التي تتمتّع بالأغلبية التي تمكّنها من تمرير القوانين التي تريدها إلى تغيير شروط المنافسة السياسية قبل مدّة وجيزة من الانتخابات فيه إخلال بتكافؤ الفرص هذا. وليس من باب الصدفة أن يذهب القانون المقارن وأن توصي المنظّمات الدولية على غرار لجنة البندقية بعدم تغيير القواعد المنظمة للانتخابات قبل ستّة أشهر من موعدها خاصة، إذا كان لهذه القواعد انعكاس مباشر على النتائج على غرار نظام الاقتراع أو حدود الدوائر الانتخابية أو شروط الانتخاب أو شروط الترشّح.
وإنّ القانون الذي تمّت المصادقة عليه أسابيع فقط قبل افتتاح مرحلة قبول الترشّحات، وهو يتضمّن تغييرا لشروط هذه الأخيرة فضلا عن الإخلالات الإجرائية التي تشوبه يمثّل خرقا لمبدأ نزاهة الانتخابات لما تقتضيه هذه الأخيرة من التزام الأطراف الحاكمة بعدم استغلال موقعها بالحكم لتغيير قواعد اللّعبة السياسية. لذلك نعتبر أنّ تعديل القانون الانتخابي في هذه الظروف وفي هذا التوقيت من منظور التهديدات التي تمثّلها بعض الأطراف التي دخلت على خطّ المنافسة السياسية لضربها القوانين عرض الحائط، ما يعني بأنّ هذا التغيير يمثّل سابقة خطيرة، حيث فتح الباب أمام الفاعلين السياسيين الذين يجوز لهم من هنا فصاعدا تغيير القانون الانتخابي قبيل كلّ انتخابات وفق ما تقتضيه مصالحهم.
لم يصادق مجلس نواب الشعب إلى اليوم على مشروع قانون الطوارئ. من وجهت نظرك هل من الضروري أن يقوم رئيس الجمهورية بالتمديد خاصة ان البلاد مقبلة على انتخابات؟
لقد مدّد رئيس الجمهورية فعلا في حالة الطوارئ كما كان متوقّعا ولا يعود هذا القرار في اعتقادي إلى كوننا مقبلين على انتخابات بقدر ما يعود إلى تواتر العمليات الإرهابية في الأيام الأخيرة وتواصل التهديدات الجدية
بهذا الشأن.
في خطوة غير مسبوقة أعلن رئيس الحكومة عن إصداره لمنشور يمنع من خلاله ارتداء النقاب في الإدارات العمومية. هل يتطابق ذلك والدستور وخاصة ما تعلّق منه بالحريّات والحقوق؟
من المهمّ رفع بعض اللّبس حول المنشور الأخير لرئاسة الحكومة، فلم يتحدّث هذا الأخير عن النقاب ولا عن أي صنف آخر من اللّباس. بل أنّه حجّر على أيّ كان دخول الإدارة العامة أو المؤسسات العمومية غير مكشوف الوجه، وعلّل قراره باعتبارات أمنية والحال أنّنا تحت نظام حالة الطوارئ وفي نفس الوقت تحت تهديدات إرهابية جدّية. يبقى أنّه على مجلس نوّاب الشعب سنّ قانون في الغرض باعتبار أنّ هذا التحجير لا يشمل الأعوان العموميين فقط، بل كذلك مستعملي المرافق العمومية الذين يمكنهم التردّد على الإدارات العمومية لقضاء حاجياتهم وفي هذه الحالة لا يمثّل المنشور الأداة القانونية المناسبة لأنّ النصّ لا يكتفي بالتنظيم الداخلي للإدارة بل ينسحب على الغير، وباعتبار كذلك هذا المنشور- وإن لم يذكر المنتقبات بصريح العبارة- فهو يشملهم وبالتّالي يمكن أن يكون فيه مساس بالحريات الفردية التي لا يمكن التضييق منها إلا بقانون.
هل تعتبرين أن المناخ العام السياسي يسمح بإجراء انتخابات نزيهة وشفافة؟
في حقيقة الأمر لا أعتقد أن شروط قيام انتخابات نزيهة وشفافة مرتبط بطبيعة المناخ السياسي، إذ يعرف عن هذا الأخير أنّه يحمل دائما قبيل الانتخابات بعض التشنّجات المتفاوتة الحدّة بحسب الظروف التّي تمرّ بها كلّ دولة. فضمان انتخابات نزيهة وشفافة هو رهن الإدارة الانتخابية المسؤولة بمقتضى الدستور والقانون المنظّم لها على تأمين انتخابات بهذه المواصفات هذا إلى جانب دور القضاء في حسم النزاعات الانتخابية وأخيرا وليس أخرا دور المجتمع المدني وخاصة الجمعيات المختصة في هذا الشأن في مراقبة سير الانتخابات.
وفيما يخصّ دور الإدارة الانتخابية، أعتقد أن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات -رغم كلّ الإشكاليات التي مرّت بها- راكمت من الخبرة والتجربة ما يؤهّلها لتأمين انتخابات الخريف المقبل بنجاح.